بسم الله الرحمن الرحيم
أوراق الورد
رسائلها و رسائله
تصدير
غَلبَني حَرْفه و مازالَ فَغدَوْتُ شَاكِيةً إلى حِبْي أنه سيَقْتُلني كَمداً أني لا أُدَانِيهِ ، فمَسحَ بِيدِهِ عَلى عَجْزِي – عَهْدِي بِهِ دَوماً – أَنكِ سَتَبُزِينهُ يَوماً وَ صَاحَبه ... فلا تُرَاعِي .
إِنّهُ " مُصْطَفَى صَادِق الرَافِعِي " أَشْهَرَ كُتَّابِ عَصْرِهِ و أَكْثَرِهِمْ بَيَاناً و بَلاغَةً و جَمَالاً نَاطِقَاً بِحُروفٍ . قَرَأْتُهُ و قَرَأْتُ لَهُ و مَازِلْتُ أُعَاوِدُ النّظَرَ فِي كُتُبِهِ كُلّ حِينٍ كَوَارِدِ نَبْعٍ أَجْهَدَهُ العَطَشُ فَلا ارتِواءَ .
عَرَفْتُهُ ، و رَغِبْتُ أَنْ يَعْرِفَهُ المتَأَدِبُونَ مَعْرِفَتِي ؛ مَنْجَمٌ يُنْبِئ بِعُرُوقِ الذّهَبِ مِنْهُ نُطْفَةٌ يَرَاهَا مَنْ يَرَاهَا فَيَكُونُ صَبْرُهُ فِي اسْتِجْلاءِ المعَانِي كَنْزُهُ الذِي لا يَفْنَى رَوعَةً و بَهَاءً .
وَ مِنْ بَيْنَ كُلِّ بَدِيْعِ كُتُبِهِ و أَفْصَحِ بَيَانِهِ انْتَقَيْتُ كِتَابَهُ " أورَاقَ الوَردِ " لأَعْرِضَهُ عَرْضَ مُتَذَوقَةٍ يَجْذِبُهَا النّقْدُ اللُغَوي إِلَيْهِ تَارَةً و يَخْطِفُهَا جَمَالُ البَيَانِ تَارَةً و يَعْتَقِلُهَا فِكْرُ الأَدِيْبِ و حِيَلُ الفَنْانِ تَارَةً ، و تَارَةً أَخِيرَةً أعَرِضُهُ عَرْضَ مُسْتَعِيرَةٍ أُلْبِسُ حِسْي بَيَانَهُ لِعَجْزٍ يَغْلِبُنِي أَنْ أَكُونَ لَهُ نِدْاً و بِي حَاجَةٌ لِلبيانٍ و قَدْ أَعْجَمَ قَلَمِي .
يقول " محمد سعيد العريان " في تصديره للكتاب : { " أوراق الورد " هو طائفة من الخواطر المنثورة في فلسفة الجمال و الحب ، أنشأه الرافعي ليصف حالة من حالاته و يثبت تاريخاً من تاريخه في فترة من العمر لم يكن يرى لنفسه من قبلها تاريخاً و لا من بعد . و يقول الرافعي إنه جمع في أوراق الورد رسائلها و رسائله . أما رسائله فنعم ، و لكن على باب المجاز ، و أما رسائلها فما أدري أين موضعها من الكتاب ؟ إلا رسالة واحدة و جزازات من كتب و نتفاً من حديثها و حديثه . }
و يقول أيضا : { من أراد أوراق الورد على أنه قصة حب في رسائل لم يجد شيئاً ، و من أراده رسائل و جوابها في معنى خاص لم يجد شيئاً ، و من أراده تسلية و إزجاءً للفراغ لم يجد شيئاً ، و من أراده نموذجا من الرسائل يحتذيه في رسائله إلى من يحب لم يجد شيئاً ؛ و من أراده ( قصة قلب ) ينبض بمعانيه على حالَيْه في الرضى و الغضب ، و يتحدث بأمانيه على حاليه في الحب و السلوان – وجد كل شيء .}
أما نهجه في الكتاب فقد أوضحه أيضا " محمد سعيد العريان " قائلا :
يبدأ " أوراق الورد " بمقدمة بليغة في الأدب ، ثم يتحدث المؤلف فيها عن تاريخ رسائل الحب في العربية ، بأسلوب هو أسلوبه و إحاطة هي إحاطته و سعة اطلاعٍ لا تُعرف لغيره ...
و تأتي بعد هذا الفصل مقدمة الرسائل ، و فيها سبب تسمية الكتاب ، ثم يمضي في هذه المقدمة يتحدث عن حبه ، و آلامه في الحب ، و رأيه في الحب ، و شيء مما كان بينه و بين صاحبته ، ثم يتحدث عن نهجه في هذه الرسائل ، و ما أراد بها ،و ما أوحاها إليه ، ثم تأتي بعد ذلك فصول الكتاب متتابعة ... ؛ فيها حنين العاشق المهجور ، و فيها منية المتمني ، و فيها ذكريات السالي ، و فيها فن الأديب و شعر الشاعر ؛ و فيها من رسائلها و من حديثها ... .
أَمْا مَا سَأَنْقُلُه لَكُمْ مِنْ أَورَاقِهِ فَلا نَهْجَ لَه و لا تَتَابُعَ فِيهِ ؛ بَلْ هُوَ وَلِيْدُ لَحْظَةِ إِعْجَابٍ بِسَطْرٍ أَو سَطْرَيْن أو أَسْطُرٍ ، تَشَابَهَتْ فِيْهَا و فِي رُوْحِي الأوجُهُ فَكَانَتْ بَينَ أَدْيِكَمْ ، أو اشْتَعَلَ حِسُ البَلاغَةِ و عُلُوِمِها بِشَرَرِ مَجَازِهِ الذِي لا قَرينَ يُدَانِيهِ ، أو رَغْبَةٍ في إِضَافَةٍ مِنْ ذُبَالَةِ قَلْبِي عَلى شَمْسِهِ السّاطِعّةِ .
أوراق الورد
شجيرات الشتاء
يممتهن اليوم فإذا هن ذابلاتٌ عليهن الضحَى عُرياناً و كان من وَرَقهن في حُلَلِ الظّل ؛ و فيهن انكسارً ذي العارية كان يتجملُ بعاريته ثم ردّها فما يتوارى إلا من الأعين التي كان يتعرضُ لها من قبل ... و يُحس كأنه أصبح لحناً من خطأٍ فاحشٍ في لغة النعمة و اليسار ، لا يكاد يُظهر نفسَه إلا قيل له ؛ يا غلطة تحتاج إلى من يصححها ...
و رأيتُهن واقفاتٍ في مثل ذلك الحزن النسائّي الغرامي الذي يخلط المرارةَ في حلاوة المرأة الجميلة فتُبدي عن عاطفةٍ مسكينةٍ لا يصوّرها لك إلا أن تتخّيل جَزَعَ لؤلؤةٍ تخشى أنْ تتحولَ إلى حصاة .
ذليلاتٌ ذليلاتٌ كأنهن مطلّقاتُ الربيع ... !
***
عَجِبتُ – كَمَا عَجِبَ أُولُو البَلاغَةِ – مِنْ مَجَازِهِ و هُو يَتَحَدثُ إلى شُجَيراتٍ صَدِيقَاتٍ لَه ، واصِفَاً إيَاهُنّ فِي الشّتَاءِ ؛ ثُمّ يَزْدادُ عَجَبِي حِينَمَا يُرَكْبُ مَجَازاً فَوقَ مَجَازٍ فَيَصِفُ تَجَرُدّ الشّجَيرَاتِ مِنْ أورَاقِهِنّ كّذِي العَارِيَةِ ثُمّ يَصِفُهُ خِزْيَهُ باللحّان في اللغَةِ السّليمَةِ الصّحيحَةِ .
ثم يقول :
و قالت لي صديقة منهن : لقد كنتَ في جانب منا ، أفمنحرفٌ أنت إلى الجانب الآخر ؟ و كان لك فينا من رأى الحب ما يكسونا مع كسوتنا ، أفيكون لك من رأى البغض ما يجردنا مع تجريدنا ؟ أم ستقولُ طاووس انسَلَ ريشُه الجميل فردّه القبح دجاجة ، و شجرةٌ سُلبتْ زينتَها فعادت كأن لم يخلقها الله و لكن أقامها النجار ... أم أنت رادُّنا إلى المسخ فمجرٍ علينا حكم الرجل على المرأة : متى قبحتْ في عينه قبحت في قلبه ؛ إذ لا يَطّلب إلا معنى فيها تحت الرونق لمعنى فيه هو تحت الدم ؛ فإذا هي لم تُعد من أيمانه ... كفى ذلك وحده أن يجعلها من كفره ... ؟
أظالِمني أنت فتعرفَ لي ذلاً بعد عزة ، و تصف لي خضوعاً بعد كبرياء ، و لا تضع بإزائي في ميزان قلبك إلا المعاني الثقيلة التي تُلقيها تَزن بها ما تكره لكي تملأ نفسك منه بغضاً و كراهية ؟
فَهْمٌ عَمِيقٌ لِمعَانِي الحبِّ في خَلْعِهِ الجَمَالَ و البَهَاءَ عَلى المُحِبِ ، و زَوَالِ ذَلكَ مَتَى مَا زَالَ الحُبُّ ... إِنْ زَالَ . و انْحِرَافُ مَعْنَى الهَجْرِ إلى أَقْصَاهُ في قَلْبِ المُحِبِ حَتى لَيَرى أَنّهُ يَتَحَولُ في نَفْسِ صَاحِبِهِ مِنْ أَقْصَى اليَمِينِ حَتى يَظُنَ أَنّهُ إلى الشّمَالِ غُدُوهُ .
فَمَا جَوَابُهُ عَلَى تَسَاؤلِ و حَيرَة الشّجَيرَاتِ ؟