حمامٌ يطير
بقلم : سمير الفيل
رأت وداد أن تصعد السطح بسلة الغسيل كي تنشرالملابس ككل صباح ، أحكمت من وضع الإيشارب حول رأسها ، وقفت أمام المرآة ، تعدل من هيئتها . لم تكن بحاجة إلى بودرة أو طلاء شفايف ، فهي حلوة وإن لوحت الشمس بشرتها بسمرة خفيفة ، فقط مدت يدها وأخرجت خصلة شعر صنعت هلالا أشقر على جبهتها ، أحضرت المشابك من الصالة ، قالت الأم مفيدة بلهجة آمرة : " لا تتأخري . أنشري وانزلي على طول " .
احتضنت سلة الغسيل ، وراحت تغني صاعدة ، ويدها تمسك سلم الدرابزين في لهفة : " مال علي مال .. فرع من الرمان .. " عند العتبة الأخيرة لمحت قطا أرقط ينسل في هدوء من باب السطح الموارب ، ذعرت قليلا ، لكنها ما لبثت أن أخفت خوفها في ضحكة مجلجلة جعلت القط يتوقف برهة ويمسح فروه الناعم في الحائط الأبيض المطلي بالجير ، وهو يرمقها في استغراب .
زغللت الشمس بصرها حين واجهت السماء بزرقتها المنعشة ، فأغمضت عينيها ، فتحتها بصعوبة ، ونظرت ناحية السور القريب ، لم يكن هناك بالداير الخشبي ، فقط الحمام يهدل بالداخل ، والأعلام مطوية في الركن القريب ، هذا معناه أنه لن يأتي اليوم ، انقبض قلبها ، ولم تعاود الغناء ، فجأة حطت حمامتان على حافة السور . كانت تعرفهما جيدا ، من النوع الهزاز الذي يربيه غريب
، معنى هذا أنه قد أتى وانصرف . شعرت أنه هناك ويعد لها مفاجأة ، تورد وجهها من جديد ، وانبثق الدم ، لكنها رأت القط يعود من الباب ويقفز قفزة هائلة ، ثم يمضي في الاتجاه المضاد . ثمة عصافير تمرق فوق رأسها ، وسحابات واهنة تمضي في كسل كأنها تؤدي واجبا ثقيلا ، فالوقت صيف ، وهي تتجه للجنوب حيث الهواء يدفعها أمامه بفتور عجيب .
كادت تنتهي من نشر قطع الغسيل ، لم يبق في يديها سوى بدلة أبيها " الميري " الزرقاء سائق القطار ، بقطعة النحاس المثبتة على الصدر . سألت نفسها، والقلق يعتصر قلبها : " ماذا لو لم يأت غريب؟ " .
هو أخبرها أمس أن الست والدته وخالته محاسن وعمه محروس سيزورنهم اليوم . هل حدث في الأمر شيء ؟
يكاد القلق يقتلها ، وهي تلقي ببصرها ناحية الداير ، حدست : نعم لعله ذهب العمل مبكرا هذا الصباح . حين كلمت أمها الحاج مصيلحي عن زوار قادمين لرؤية البنت ، شوح بيده :" أي بنت . إنها ما تزال طفلة " .
لم يكمل الطعام فقد سُدت نفسه ، لكنه جلس على الكنبة القديمة المهترئة المطلة على شباك عريض يفضي إلى الطريق يحصي بأصبعيه السنين . كل صفارات قطارات الدنيا كانت تدوي في أذنه هذه الساعة : هل كبرت ابنته حقا وصارت عروسا؟!
لقد أنهت لتوها دبلومها الفني ، وأتعبتهم في دروس خصوصية جعلتهم على البلاط . لكنه لم يشعر بها إلا طفلة . طفلة مفعوصة بضفيرتين حتي عامين مضيا ، وإن كانت قد طال عودها بعض الشيء . صاح بصوت يغلب عليه وهن خفيف : " هات الشاي ياأم وداد " .
لحظات ورأى البنت قادمة بصينية عليها الشاي في كوب بنور يحبه من أيام كان عريسا . نظر لابنته ، وكأنه يراها لأول مرة ، كانت عروسا فعلا ، واكتشف أن صدرها يعلو قليلا في بروز كاشف ، وأن وجنتيها توردتا وهي تضع الصينية بين يديه : " الشاي ياأبي " .
أجلسها إلى جانبه ،منذ زمن بعيد لم يفعل ، وسألها : " ألا توجد أخبار عن الوظيفة يا ابنتي؟ " .
جلست وهي تحدق في منمنمات السجادة النبيتي الحائلة والتي طوت عشرين عاما من زواج أبيها سائق القطار بأمها الطيبة التي لم تسمع لها صوت سوى كلمة واحدة : " حاضر يا أبو وداد " .
هل يكون غريب حنونا وحازما كأبيها ؟ إنها تحب هذا الأب وتخشاه ، وهي تعرف أن الوظيفة لم تكن هي السؤال المقصود .لكنها ردت :" أبدا وحياتك " . كانت نبرة مستعطفة فيها رجاء حار أن يطوي رفضه ويوافق . أعاد تأمل وجهها ، ومرت سحابة زمن استعادها طفلة شقية بالفستان " الكلووش " تلعب في الزقاق ، وتنط " الأونة " ، ثم تقفزالحبل ، وهو ينهرها أن تصعد لأن المساء يوشك أن يحل .لم يجد فارقا كبيرا بين طفلة الأمس وفتاة اليوم . تململت قليلا مع صمت الأب ، وما لبثت أن جاءت الأم ، وفتحت الموضوع : " اسمع ياحاج . البنت كبرت والعرسان على الأبواب ، ونحن لا نريد أن يطير العريس . لا أحد يضمن أن يأتي مثله . فهو مؤدب ومحبوب من الجميع " .
سألها بحدة ، وحسم : " معنى هذا انك تعرفيه ، أراك موافقة " . نظرت الأم ناحية وداد ، وتلعثمت : " اسأل ابنتك ! "
في هذه اللحظة اندفعت البنت من مجلسها على الكنبة : " عن أذنكم ، ألم الغسيل " . استوقفها الأب : " اريدك ياوداد " . أحنت رأسها بنصف نعم خجلى ، وهنا ابتسم الأب بحنان ظن أنه قد نساه : " خير يا ابنتي ، في الغد يمكنهم أن يشربوا القهوة عندنا ".
لم تشعر بنفسها إلا وهي تطوي السلالم ، وقلبها يكاد يقف من فرط فرحتها . كان غريب يقطع السطح المواجه جيئة وذهابا ، منتظرا قرار الأب ، سألها بلهفة : " ما الأخبار ؟ " .
هزت رأسها بنصف نعم المتبقية ، وهنا لم يشعر بنفسه إلا وهو يقفز فوق السور العالي ، والدموع تطفر من عينيه يبارك لها ويصيح في الفضاء الأزرق حوله : " جميل جدا . أخيرا وافق " . ردته إلى الواقع في جفاء مصطنع : " أبي صعب ، لتوصي أمك لتكون متهاودة في الكلام " .
قال وهو يرمقها بحب يكاد يفيض من قلبه الفرح :" قعدة الرجالة أنا وأبوك وعمي محروس . الحريم للزيارة فقط يافالحة" .
هي الآن قد انتهت من نشر آخر قطعتين ، ولم يظهر ، قلبها يعتصره انقباض مخيف ، ودت أن تبكي ، لقد انخرطت في البكاء فعلا ، ولم تشعر إلا ويد سمراء معروقة تمسح الخصلة النافرة : " لماذا يبكي القمر ؟"
حبست الباقي من دموعها :" لماذا تأخرت ؟ لقد خاصمتك " .
زفر متعبا والعرق يتفصد من جبهته ، والحمام كان قد خرج من أقفاصه وراح يستعد لدورانه الصباحي الجميل :" ياست الكل كنت أشتري الجاتوه ، والشيكولاتة . ألا تريدين هذه الأشياء ؟ "
ردت بغضب، وهي تبعد يده : " أمن أجل هذا تنسى موعدنا . من أولها تنوي الهرب " .
غشيت سحابة حزن وجهه : " كان نفسي يكون أبي موجودا معانا هذا اليوم " .
ردت بخشوع : " الرحمة على أموات المسلمين ".
تركت يدها لدموع قليلة تفر من مقلتيه ، وكان عليها أن تستجيب لصوت الأم ، وهي تنادي عليها بعتاب ولوم : " وداد .. تأخرت يا عروسة ! " .