كنت أحسبه يتأخًَّر كعادته لكنِّه أتى مبكِّراً الليلة, لم ترقه الحفلة فقد أحسَّ بوابل ضيقٍ تجاه بعض المدعوين تراه من بعيد وحيداً, شارداً,يكتب حيرته في زوايا المكان وأروقته, منذ أن كنَّا معاً ’ كان حادَّاً في المزاج , يميل للانعزال والكأبة, لم يشارك أحداً في شيئ ولم يخرج للعب كعادة بقية التلاميذ في مثل سنه ,يتنقل الصمت كهدوئه بيني وبينه , حين سألته عن الحفلة ومن فيها أجابني :
- كانت الحفلة مضجرة بالفعل
- ما السبب؟
- لا شيئ, فقط, شعرت بعدم الرغبة في الاستمرار فعدت وانتهى الأمر
كان يقبض جمر أحزانه من خلال ابتسامته, تلك التي تفرز الحيرة الباهتة حيث لم يَردْ اخباري بما يجول في متاهة داخله , حدق إليَّ بصمت وكأنَّه يُريد إطلاق زفرة أو تنهيدة أو حتى صرخة وكلمة ,يرحب بي مغتبطاً بسروره حين بدأ ينثر شوقه لغياب فتاته الأبدية , حياته منفى بدونها يكرِّر ذلك دائماً أمامي كي يستعيد حيوية قلبه لذكراها والحنين إليها كان بودِّه لو يقذف بأعماقه للكون الممتدِّ ,فهو غارق في صمته وتحليقه , في داخله تلتهب السعادة بمكنوناتها ,تنتحب هياكل العدم في تساؤلاته ,وترتعد أخيلة الوجع في تضاريس ذاكرته فهو في شتى أحوال حزنه يكلمني عن دقائق تفكيره, يجسم لي أحلامه فينقُشها بنعومة على أغشية إصغاءي له منذ عرفته بدأ يكتب عن ذاته محدِّقاً بي, فيبتسم إذا حدثته ويكتئب إذا أحسَّ بانتماءي لوحدتي الانفرادية ,وفي لحظة كنا منشغلين بجو هادئ يعج بالصمت والتأمل حدق فيّ ملياً وقال:
- حين سألتك عن سرِّك في لحظة سؤالك عن حزني كنت تتأمل شيئا آخر لمَّحت لي به كان يخصُّ حديثك عن صديقتك لماذا أطرقت صمتاً وحاولت التهرب من موقف ما ألمَّ بك ساعتها فانذهلت بك لوعتي فباغتتك بأسراب ذهولها؟؟
-لم أكن أحمل إلا عبء حنين ثقيل إزاء صديقة أجد فيها كل معالم السعادة والحب هذا كل مايدور بفلك أحزاني وحيرتي ..
- تأخذك الأحلام بعيداً حيث أنت أما أنا فلا أكاد أجد رادعاً لكآبتي , كلانا أسيرا طبيعة لا يستطيع الانفكاك عنها.
- آه صحيح
- هل تجدي الشكوى
- لا
- هل تجد متسعاً من الهدوء يشغلك عن رتابة حياتك
- قد أجد ذلك ربما
-إذاً فحياتنا محض تكهُّنات""
توقفنا عند هذه النقطة كان حوارنا ضبابياً, لكن كان واضحاً فيما بيننا , الهواء في الخارج بارد, ثمة قشعريرة تنساب ببطء داخل نبراته المنسجمة بإيقاع البرد الذي سرى بصوتي بهدوء, يتبخر الإبهار في نافذتي التي تفتح سيقانها لصدى التساؤل حول مباغتات صديقي المفاجئة لي يحاول أن يقص علي تفاصيل خيبته مالئاً من صخب نفسه إناء الصمت يحرِّك سبابة يده حين يرتعش في سجوده كان ضمير المسجد يرتعش على صدى صلاته يسافرفي دروب نشوته لاعناً آيات بكائه فاختفى عند بريد الصمت ليبدأ في التداخل بأنسجة الزحام التي نشرت آلام صخبها على براري الحياة بقسوة وعمق فهو حريصٌ على دفن الألم حرصه على دفن الماضي حين راح يتساءلُ قائلاً:
-الماضي هو حالة مرضيةٌ يصعب الانفكاك عنها
-ربَّما
-والحاضر؟
-ما به؟
-ألديك ماتخبرني به بشأن ما نراه في الوجود؟
-كل ما في الوجود ينقلب بلحظة إلى ماضي
-ماذا عن المستقبل
-أي مستقبل؟
-الكون لعبة
هكذا يسير مترعاً بصبابات جرحه ليفتش عن النور؛لقد أحب الحياة بكل مافيها من غرائب وأحب ذاته بما في كوامنها من إيمان وحب وأحب الانتماء للطبيعة ملاذاً من قسوة البلهاء,يكتب مذكراته من بقايا عظام الصدف فهو مبدع بكل ما فيه لذا أراه من بين المزدحمين المتذمر الوحيد من عبثية هذا الوجود يقصُّ علي أنباء نفسه،فالمرأة بالنسبة له لون إبداعي لا يختلف مذاقه عن سائر الألوان الأخرى فهو في ميدان الحياة يحتفظ بأنسه الداخلي وفرحه الخاص فلا يفتح سيرة أو موضوع إلا عن إدراك لزمان جلسته ومكانها,يعرفه كل من في الحي,الكائنات المرئية والخفية تسكنه الأمكنة وتتداخل معه التفاصيل الصغيرة والكبيرة كان ينتقي الأشياء برفعة السمو فهو يقتنص الخيبة ويطارد العزلة كما تطارده بدورها, ظلَّ يترقَّب بتأملٍ بالغ تلك النجمة البعيدة المتوارية خلف سحب الليل المضطربة, فهي تمثل له ذاته الخجلة من وقاحة الزمن ودنائته,سيل الطفولة يتدفق من ملامحه حين يبدو هادئاً فتزدحم في ذهنه الحكايا الرهيفة عن القرنفل الذي كان يعلٍّقه بخصلة شعر حبيبته حدثني ذات مرة عنها,كنت ماأزال حينها طفلاً ودوداً رغم أني رجل كبير بمستوى قسوة الحياة حيث قال:
-<<كانت حبيبتي تدعوني بكل أنوثة ورقة لترشف بي بعضاً من عطور دموعها وأنفاسي ترجوني أن أغني لها أغاني الطفولة التي حفظتها,لعلي لم أنسها لأني أعتبر البراءة مغزى مشاعري فلا أحلى ولا أجمل من أن تظل الطفولة سمتي,ربما مازلت متعلقاً بوهم تلك النجمة البعيدة الخجلة, كنت عاشقاً لا يتخلى عن إرث وجوده في حضرة الحب,ظل الحزنُ يداعب شرايين قلبي ,يضغط بزناد مسدسه نحو كلماتي التي تدفقت بفيضها الدافىء ففي نزهة شتائية أعارنا ذات جنون الثلج الأبيض معطفه فخرجنا نستظل بقامته , هدوء جمالها باغتني, أذكر يوم التقيت بها آخر مرة قلت لها فيه أنني مقيم في الفراق والخيال مقيم بين براثن كابوس مريع يتراءى لي أحياناً بهيئة حلم وديع أتذكر كلماتها حين راحت بين ذراعي تهمس ببطء اثر عناق هادئ فقالت:
<حبيبي لا تقترب من عيني أكثر فأنا مصابة بوهن الضياع والحنين والترقب المفعم بالأريج والحنان فقط ابقى بعيداً حيث نجومك وقمرك وسلَََِّط علي أشعة القمر وراسلني بنجوم عينيك فالحياة تموت قسوة ونعومة وحواراً وأنيناً تجوَّل كنسر بين فرحي وحزني تناثر غيوماً بين زرقة عيني وسواد شعري وبياض وجهي والتقط أصابع يدي وخذني بعيداً بودي أن أصغي لمشاعرك الدفينة بودي أن أتنفس اشتعال الناي في صوتك وأن أحتفظ ببقايا رماد ينهال عليك حلماً ضوئياً وحنيناً ناعماً ودرباً منبسطاً أخضراً لانبعاث غد جديد تورق به البساتين قبل أن يورق شجر الحب وتستعدُّ الأرض للخصوبة
في داخلي أصغي لأغنية ذهبت بعيدة عبر السهول الواسعة,عبر أحلام تحمل أعباء ضحكاتنا و صرخاتنا>
هواء لامرئي ينتحب بسعادة ,يلقي غباره الصدأ على أرصفة الشفاه , يسري هواء الجبل على أرصفة الجسد متدافعاً كموج الرغبة هذا العالم ياصديقي نكتة تبعث على البكاء صمتك وحده يُفسِّرني فابتسم, لك وقفة مني, عبر مفترقات الدمعة الدافئة ضيعتني الألوان الشاحبة ترسم تجاعيد العجائز على لوحات الضفائر الذهبية ضيعني الذهول كيف سينجلي نوره؟!>>
كان فيلسوفاً بطبيعته فقد رأى بابتسامة المرأة أبعاداً للوجود كانت ابتسامتها بالنسبة له لغزاً ظلَّت تتمثل بحبيبته
ابتسامتها ظلت بمخيلته مشهد ربيع دائم, لوعةٌ لاتتوقف في أعماقه ,وبلسمٌ لجرحٍ لم ُيداوى منذ قرون, لقد تدَّفق دم القبلة في صدره فغدا ضوءاً شديد الانبعاث وكوكباً مليئاً بالزغاريد والأنغام الشجية , رحنا نتجول في الحديقة نملأ تنهداتنا بأحلام الزهورالملوَّنة حيث أخذ الشتاء لنا صورأً بكاميرات البرد وعدساته الحديثة رحنا نتحدث عن مواعيد الرجوع والهجرة, نشكو ظلم الخريف وربيبه المدلل شهر أيلول تحدثنا أيضا عن ربيع البقاء كف اندثر على أعتاب الخيبة والاخفاق وفي جلستنا على كرسي الحديقة تهنا كلانا في ساعة تأمل فأغرق في خياله وسرح بعيداً نحو حبيبته فقال:
-ابتسامتها حنيني الذي طال كالغياب,وأغنية لا تنتهي عبر مدامع الكآبة والقنوط
-اهدأ فالحياة تصاوير ذكرى عابرة,ما من شيء بإمكاننا استرداده
-آه ياصديقي كم أنا متعب
-تجدد وانطلق وتذكر محمود درويش يخبرك عن ذات والحياة
-لا أجد أي معنى لاتساع الفضاء,هذا الكون بليد وكل ما في عوالمنا عبث هذا الكون بليد, هذا العالم يحاصره اللاجدوى لقد تكامل فينا موت القلب, لدينا الكثير من الهموم والمتاعب فما سُّر هذا التواصل إننا نسيج سوداوي يلتفُّ بحباله في مدارات الشحوب, كان التفاؤل ضيف المناسبات إننا محكومون بالموت, بالوقت وبالصمت..
ظل كعادته يرسم تصوراته لوحات قاتمة معي ,يتحدث عن القدر فيهذي كعادته ويدخل خضم طبيعته التي لا تنفك تطلق رصاص تساؤلاتها على ذاته القلقة, فالفرح يبسط نفسه للراغبين به حقاً فيجسِّد معالم الحيوية في أنسجة خياله يحاول أن يوقظه من سبات حزنه الفكري فيشعر بقليل من المناجاة , يُشرق صمته فيرفض أن يغيب لم يستسلم للهموم ومصاعبها فجبينه يتقلَّد تيجان المطر,يمضي به النسيم عبر معطف النجوم حيث ترمقه البهجة بترنماتها السحرية ,يحفظ عن ظهرقلب كل أشجان الضياء متذكراً نبلاء عصر مضوا فمضى عقله تعلقاً بهم ,رغم بؤسه تراه يحمل إيقاعات السنونو فيواسي صمته بالعزف على قيتاره يبتهل شوقاً للحياة يوقظ طيور حلمه لتنهض بجوار نافذته أسراب الحمامات فيقترب منها تترك بعضاً من زغب ريشها على سريره ونافذته , للفرح والحزن أجواء مزركشة تدخل ضمن نسيج الحياة التي يعيشها بتصوف المبدعين فهو مجبر على خوض معارك الآخرين فلا ينغمس كثيراً مع الناس الذين يكثرون الفكاهات في حضرته , فقد تعايش بهدوء معهم ويتعامل الآخرون معه بكل ليونة ورزانة ,فلا يقترب من أصناف البشر الذين يُكثرون فضلات لؤمهم وكراهيتهم فالحياة تظلُّ بالنسبة له عبارةً عن فُرص تُمنح للرائعين ,أقف منتظراً كعادتي حين أرقبه تحت المطر حاولت أن أناقض ذاتي سعياً لإدراك نقيضه لكني لم أستطع بلغت الهواجس ذروة درجات ارتقائها فانبهرت وتفتحت تداري كالدفلى أمسيات تفتحها يعاني من الماضي من الرفض تغترب روحه عن المألوف لتصنع الغاية الأرقى يرسل جوقات سهوه للعصافير يرسل رسائل غرامه الحية إلى حبيبته إلى حديقته لم ينسَ لثانية أنه خلق للواجب خلق ليسعَ في هذه الحياة عاشقاً, يختزن الحيوية في قلبه ويرسل لي قصاصاته الورقية كي أدوِّنها في صفحاتي فيخشع للصمت ويرقص بتساقط المطر الغزير المحمل بحبات البرد يرتمي في فضاء أشواقه كنسر شق عنان الضباب والسحاب والفضاء يلتصق به الأمل كالتصاقه به, لم يعش ليغيب
لم يعش...ليموت!