كتبه رضوان السيد
التجديد في أصول الفقه من طريق مقاصد الشريعة؟
الحقيقة أنني توقعت إلى حدٍ ما ما سيقوله الفقيه المعروف الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، بيد أنني لم أتوقع على الإطلاق ما سيقوله صديقي أبو يعرب المرزوقي. خلاصة ما قاله الشيخ البوطي أنه لا تجديد ممكن في أصول الفقه، بل الممكن الانصراف إلى تعلم الشريعة لبلوغ درجة الاجتهاد، أي درجة القدرة على النظر في الأدلة (المصادر) والدلالات اللغوية والأصولية المترتبة عليها أو المأخوذة منها بالطريق المباشر، أو بطريق الاستنباط والاستقراء. فالمشكلة لدى البوطي لا تتمثل في قِدَم علم الأصول (علم قراءة النصوص)، ولا في إقفال باب الاجتهاد لأسباب تاريخية وتقنية، بل هو قصور وتقصير المسلمين في استخدام الطرائق والآليات التي وضعها الآباءُ والأجداد لاستنباط الأحكام من النصوص.
أما أبو يعرُب المرزوقي فهو لا يوافق على هذا الرأي، ويرى إمكان التجديد في أصول الفقه، لكنه ينصرفُ بعدها ليس إلى هدم أُطروحة البوطي وحسب، بل وإلى تحطيم أطروحات المجددين من دعاة الاجتهاد، ودُعاة مقاصد الشريعة!
البوطي مشكك منذ البداية، أي منذ أواسط الستينات من القرن العشرين في دعوتين: دعوة التجديد باسم مقاصد الشريعة، ودعوة الاجتهاد باسم الخروج على التقليد وفتح باب الاجتهاد؛ ولذلك ففي أطروحته للدكتوراه، وهي أطروحة رائدة وقتها حول «المصلحة» أصرّ على النص في العنوان على «الضوابط» أي ضوابط المصلحة بما لا يتناقض مع الكتاب والسنّة أو الإجماع. وحدود الاجتهاد عنده هي الحدود الفقهية القديمة: القياس، باتحاد العلة بين النص المعلَّل والواقعة الجديدة. والأمر الآخر: الاستحسان بلغة الأحناف القدماء، أو المصلحة الراجحة المنضبطة، بلغة المالكية القدامى في الماضي، والشيخ البوطي في الحاضر. وقد كان البوطي بين أوائل من تمرد على منهج السلفيين في الاجتهاد. فقد سمّى دعوتهم «اللامذهبية» إذ كانوا حادّين في التصدي لكل أتباع المذاهب السنية بحجة أنهم «مقلِّدون». وهم مقلِّدون فعلاً تقليداً كلياً أو جزئياً من الناحية النظرية، لكنهم يتغيرون بوعي ومن دون وعي في كل المجالات، بحيث لا يصح القول ببقاء التقليد إلا في العبادات.
لكن ما معنى ما يقوله الشيخ البوطي في الحقيقة؟ هو يقول بخلاف قول الغزالي (ت 505 هـ) الذي ذهب إلى أن النصوص تتناهى والوقائع لا تتناهى، ولذا فالاجتهاد عند الغزالي على وجهين: وجه تتغير فيه الأحكام بتغير الزمان، ووجه هو منطقة فراغ تشريعي يُنشئ فيها الفقيه أحكاماً بإذن الله وتوفيقه. أما الشيخ البوطي فلا يرى أن النصوص تتناهى، أي من حيث القدرة على توليد الأحكام لا من حيث القداسة طبعاً. وقد وضع الفقهاء الكبار قواعد لغوية وأصولية لاستنباط الأحكام منها، اتخذت سِمات اليقين. ولذلك فالتشكيك فيها على رغم يقينيتها، خروج على الشريعة، وتخرصات علمانيين وملحدين تحت غطاء الاجتهاد.
والدكتور أبو يعرب المرزوقي يقول ببساطة ان أصول الفقه هي منهج أو مناهج في قراءة النصوص الدينية. والمناهج تتغير بتغير البراديغمات والإبستيمات، ولذلك فالإصرار على أصول الفقه القديمة هو إصرار على الجمود، وظلم للشريعة وللشروط الجديدة لحياة المؤمنين. وهناك بعض الأفكار الطريفة لديه مثل التساؤل عن العلاقة الحقيقية بين الاجتهاد الفقهي والأصول، وهل الفقيه كاشف للأحكام أو مُنشئ لها، وما الفرق بين المنطق الأرسطي والمنطق الفقهي. لكنه لا يملك بدائل، بل هو يسد الطريق على البدائل أو أطروحات التجديد الممكنة: فمقاصد الشريعة لا قيمة لها لأنها لا تنضبط، والبوطي آراؤه غير مفيدة لأنه منضبط، والمنطق الأصولي القديم لا يفيد لأنه غير تجريبي، والمنطق التجريبي لا يفيد لأنه غير مبدئي. وتأملوا النتيجة: ليس أن الشريعة تملك نصوصاً تحتاج إلى نهج أو مناهج جديدة في القراءة، بل إن محمداً مات، وخُتمت شريعته، ونحن طليقي السَراح. وهذا في الحقيقة ليس اعتقاد المسلمين ولا سلوكهم.
لكن على فرض صحته أو إمكانه تبقى حقيقة أن النصوص التشريعية وغير التشريعية تحتاج إلى منهجية قراءة أو منهجيات، والمرزوقي لا يكاد يقترح شيئاً، بل حتى أسلوبه في الهدم ليس مُجدياً ولا معقولاً. وقد مكّنت هذه العشوائية الدكتور البوطي من العودة للإشادة بالمصالح (وهي بحسبانه: المقاصد متخذة طابعاً فقهياً) والاستشهاد لها بكلام العز بن عبدالسلام (ت 665 هـ) في «قواعد الأحكام»، وهو كلام سبق للبوطي أن لم يوافق عليه. يقول ابن عبدالسلام: «الشريعة كلها مصالح إما تدرأُ مفاسد أو تجلب مصالح…». وهكذا قال ابن عقيل (ت 514 هـ) الحنبلي القديم: حيثما تكون المصلحة فثمة شرع الله. ووافقهما على ذلك الحنبليان الآخران: ابن تيمية (ت 728 هـ)، وابن قيم الجوزية (ت 751 هـ). ثم جاء المالكيان: القرافي والشاطبي. وإذا كان العلاّمة البوطي حريصاً على التقليد الفقهي، وعلى جدية الأخذ بالنص في الوقت نفسه، فلا شيء أقرب من النظر في مسألة التجديد أو إمكانه من هذا المنظار: منظار المصالح. ولست أنكر هنا أن العلاّمة البوطي يراها حقيقة في الاعتبار، لكن ضوابطه شديدة من أجل تحويلها إلى «دليل» أو «علة» لإصدار الأحكام، لأنه لا يقول في الحقيقة بوجود منطقة فراغ تشريعي، إذا صح التعبير، يستطيع الفقيه أن يتحرك فيها في المباح والحلال.
ولنستجمع أطراف الموضوع مرة أخرى: بحث الأستإذان محمد سعيد رمضان البوطي وأبو يعرب المرزوقي، مسألة التجديد في أصول الفقه. وهذا موضوع جديد، فقد اعتدنا على قراءة كتب في التجديد الفقهي وليس الأصولي. بيد أن العلاّمة البوطي رأى عدم ضرورة ذلك، بل عدم إمكانه، لأنه يملك أصولاً ومباحث يقينية. وما فهمت رأي المرزوقي في النهاية، لكنه ينقد البوطي بمرارة شديدة.
والذي أراه أن هناك طريقتين ممكنتين لتجديد أصول الفقه: اللجوء إلى مقاصد الشريعة، وتجديد مناهج وآليات القراءة، أي قراءة النصوص الدينية. ولا بد من الاعتراف أن الدراسات الكثيرة في «مقاصد الشريعة» ما جلبت جديداً كثيراً، بينما تندد الدراسات في الأصول، وقليلون هم الذين يُقبلون عليها. لقد أشاد الإصلاحيون طويلاً ولا يزالون بالآفاق التي تفتحها المصالح الضرورية أو مقاصد الشريعة، لكنهم ما اجترحوا طريقة تتمكن بها تلك المقاصد من إنتاج الأحكام من خلال «فقه المصالح» أو «المقاصد»، كما لم يمضوا بعيداً في الاعتراف بها باعتبارها «فلسفة» للتشريع، خوفاً من ظلم النصوص أو تجاوزها. أما علم أصول الفقه فهو علم دقيق ومنضبط، وفيه إنتاج كلاسيكي جاد. لكن المنطق الذي قام عليه (المنطق الأرسطي) تهاوى منذ قرن ونصف القرن. فلا بد من قواعد لسانية جديدة، ولا بد من قواعد أصولية وفقهية جديدة.
قراءة في كتاب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وأبو يعرب المرزوقي: إشكالية التجديد في أصول الفقه. دار الفكر بدمشق، 2006 من ضمن سلسلة حوارات القرن، والتي صدرت فيها كتب عدة عن التجديد والاجتهاد الفقهي والأصولي.