تطور خطاب الحركة الإسلامية المعاصرة في ضوء المستجدات
رؤية للثقافة الحركية ومستقبلها بقلم د. مصطفى عطية جمعة
الكويت
إن الراصد لخطاب قيادات الحركة الإسلامية المعاصرة على تعدد توجهاتها ، يجد تطورًا إيجابيًا ملحوظًا في الخطاب على مستوى النوعية والتناول ، فهناك تطور كبير في المعجم الثقافي والسياسي والديني ، فقد ابتعدوا عن الخطاب الديني المباشر - مثلما كنا نلاحظ في قيادات الحركة في السبعينيات من القرن العشرين – إلى خطاب أكثر تركيزًا على القضايا الإسلامية بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وصرنا نسمع كثيرًا من هؤلاء القيادات يتحدثون عن أزمات التنمية البشرية ، وملفات الفساد ، ومشكلات العنوسة والطلاق والبطالة ، ناهيك عن المشكلات السياسية الإسلامية بكل ما تحمله من أعباء وتراكمات ، وهذا لا يختص بحركة إسلامية بعينها ، بل يكاد هذا التطور يشمل كافة القيادات الإسلامية ، فمن قيادات الإخوان المسلمين إلى قيادات السلف إلى قيادات تنظيم القاعدة ، ولننظر إلى الشريط المرئي الذي ظهر فيه أيمن الظواهري وتناول بالحديث أزمة قضاة مصر ، واتهم الحكومة المصرية أنها تفعل ذلك بتعليمات من الولايات المتحدة ، كما حضّ حكومة حركة حماس - ومن قبل هنّأها على الفوز بالانتخابات – حضها على عدم الرضوخ لمطالب أبي مازن في شأن الاستفتاء ، هذا الكلام يعني – ضمن طياته – أن قيادات القاعدة وهي في الجناح الأكثر تشددًا في الحركات الإسلامية ، لا ترى مانعًا من القبول بنظام الدولة الحديثة : قوانينها ، ونظمها ، ودستورها ، على أن يكون مصبوغًا بالصبغة الإسلامية .
ولكن الظاهرة تكون أكثر وضوحًا لدى قيادات الإخوان المسلمين في العالم ، خاصة في مصر وفلسطين ولبنان والكويت والجزائر والمغرب وأمريكا وأوروبا ، وهذا عائد لجملة من العوامل :
أولها : ظهور جيل جديد من القيادات الحركية ذات التعليم السياسي والقانوني وليس التعليم الديني التقليدي في المؤسسات الرسمية ، فمنهم الأطباء والمهندسون والمحامون والاقتصاديون والسياسيون وغيرهم ، وهم في مجملهم قد حرصوا على التعلّم الذاتي في الثقافة السياسية والقانونية ، إما بالاطلاع والقراءة الحرة وإما بالدراسة المباشرة في الكليات القانونية والسياسية ، ولعل الدكتور عصام العريان – من مصر – مثال على ذلك ، فهو طبيب مختص ، ولكنه درس انتسابًا أوانتظامًا : كلية الحقوق ، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ، كلية الآداب قسم التاريخ .
ثانيها : بات هناك تباين بين القيادات الحركية والسياسية للحركة الإسلامية ، وبين الدعاة من الحركة ، وهذا لا يمنع من تداخل في الخطاب بين النوعين ، فالقيادات السياسية يطعّمون كلامهم بالمفردات الإسلامية ، وينطلقون في معالجة القضايا من الرؤية الإسلامية ، والدعاة يشيرون في دعوتهم إلى مشكلات المجتمع المتعددة ، وأن الكثير من هذه المشكلات يعود لغياب منظومة القيم الإسلامية وأحكام الشريعة السمحاء . والمثال على النوع الأول خطاب خالد مشعل – رئيس المكتب السياسي لحركة حماس - ، حيث لا يفتأ في خطبه وأحاديثه على استخدام الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ومواقف من السلف الصالح وهو يتكلم عن قضية فلسطين ، أما مثال النوع الثاني فهما الداعيان الدكتور طارق السويدان والدكتور محمد الثويني ( من الكويت ) فهما في محاضراتهما الدعوية يركزان على علاج المشكلات الشبابية والاجتماعية من المنظور الديني ، وفي نفس الوقت لا يكفان عن التحدث في أمور الدعوة الإسلامية : الأخلاق والسيرة والفقه ...إلخ
ثالثها : ويتعلق بمستوى الخطاب ذاته ، حيث تجنح القيادات الحركية والدعاة إلى تبني خطاب بسيط في مفرداته ، دون تعقيد لغوي ، فهم لا يستخدمون لغة علمية رصينة ، ولا مفردات جافة ، ويبتعدون قدر المستطاع عن المصطلحات الفقهية واختلافات المذاهب والفقهاء ، ذلك لأن خطابهم قائم على اجتذاب أكبر عدد من الجمهور ، وبالتالي لا يحفلون بالقضايا الخلافية الشائكة ، ونلاحظ أن يعضهم يستخدم لغة عربية فصيحة سهلة مع المحافظة على قواعد اللغة ( الغالبية منهم ) ، وآخرون يتحدثون بالعامية البسيطة التلقائية ( عمرو خالد ، وجدي غنيم ... ) .
رابعها : التحديات والمستجدات على الساحة ، وموقف الحركات الإسلامية منها ، حيث سعت الحركات الإسلامية منذ أواخر السبعينيات في القرن العشرين إلى التفاعل مع قضايا المسلمين الخارجية ، ومشكلات المجتمع المحلية ، من خلال المؤسسات التعليمية والصحية ، ومراكز الدراسات التي ساهم الإسلاميون في نشأتها وفي إدارتها ، وتطور الأمر في الثمانينيات بدخولهم المعترك السياسي من خلال القنوات الشرعية : الانتخابات ، النقابات ، الاتحادات الطلابية ، الأحزاب السياسية ... ، كما أن منظري الحركة أعلنوا قبولهم بالشكل الغربي للدولة ، وآليات التجربة الديمقراطية ، كطريقة سلمية للتغيير الاجتماعي .
وكان إن ظهر تحد كبير هذه في السنة الأخيرة تجلى في مظهرين : الأول : حجم المقاعد الكبير الذي حصلت عليه جماعة الإخوان المسلمين في مصر في الانتخابات النيابية والثاني : فوز حركة حماس بانتخابات فلسطين وتشكيلها لأول حكومة إسلامية
لقد كان سؤال رجل الشارع البسيط : هل يمتلك الإسلاميون برامج حقيقية لإصلاح المجتمع ؟ وهل هذه البرامج نابعة من منظور الإسلام ؟ أم هم بالفعل مجرد أناس ملتزمون خلقًا ودينًا ، دون خبرة سياسية بالعمل القيادي والتنفيذي ؟
ولرجل الشارع الحق في طرح مثل هذه الرؤية ، وهذا نابع من أن الخطاب الإسلامي الجديد ( للقيادات والدعاة ) يرتكز على تدعيم قواعد الأخلاق والقيم الإسلامية ، أو مهاجمة الفساد والمظالم الاجتماعية والسياسية ، دون طرح تصور لبناء المجتمع المسلم ، وحل قضاياه وتقديم برامج بديلة لما تطرحه الحكومات ، هكذا يرى رجل الشارع ، وهو معذور في تصوره ، فلديه نقص معرفي في هذا الجانب ولابد من تسديد هذا النقص ، حتى تكتمل الصورة لديه بأن الإسلاميين بالفعل هم المستقبل الحقيقي للوطن المسلم .
وقبل أن نرد على ما يردده العامة ، دعونا نطرح السؤال الآتي : هل لدينا تصور حقيقي لنهضة إسلامية شاملة ؟ وهل لدينا تصور حقيقي لعلاج مشكلات المجتمعات الإسلامية ؟
الجواب نعم ، وهذا على شقين : فلدينا رصيد ضخم من المنجز الحضاري الإسلامي قديمًا ، حيث قاد المسلمون العالم وأبدعوا حضارة متكاملة ، ولدينا اليوم منجزات العلماء المسلمين المعاصرين في شتى المجالات ، ويكفي أن هناك مئة ألف عالم مصري فقط يعملون في التخصصات الدقيقة في الولايات المتحدة ، وأن معدل سرقة العقول العربية والمسلمة وصل إلى أكثر من ( 350 ) ألف عقل في السنوات العشر الأخيرة ، ناهيك عما تزخر به الجامعات الإسلامية من مبتكرات وتصورات لحلول المشكلات .
إذن ، ماذا ينقصنا ؟
ينقصنا فريق من الباحثين والخبراء الذين ينطلقون من المنظور الإسلامي ، ويتحركون وفقًا لآلية مشتركة ، تهدف إلى تجميع هذه الجهود والخبرات والحلول العلمية ، ومن ثم طرحها في كتب ومجلدات . ويكون هذا المشروع الضخم هو مشروع الحركة الإسلامية الاستراتيجي في السنوات الخمس القادمة ، ولنتعلم من عدونا إسرائيل : فقد أنجز علماؤها مثل هذا المشروع والذي حمل عنوان " إسرائيل 2020 " ، وفيه تصور مستقبلي لوضع المجتمع آنذاك ، وكيفية معالجة هذا الوضع . لماذا لا يكون لدينا مشروع بعنوان :
" مصر المسلمة في 2015 " أو " العالم الإسلامي 2020 " .
وماذا يجب على خطابنا الإسلامي ؟
يجب على القيادات الإسلامية أن تدعو الباحثين من أبناء الحركة الإسلامية وشبابها ، لتبني مثل هذا المشروع ، وأن يتكون فريق بحثي شامل من كل أبناء الأمة لتغذيتهم بالمعلومات لتنفيذ هذا المشروع .
كما يجب على أعضاء الحركة الإسلامية وشبابها الذين يحتكون بالعامة ويمارسون الدعوة والحوار المباشر ، أن ينشروا التصور المستقبلي والحلول الإسلامية لمشكلات المجتمع ، فهؤلاء هم الوقود الحقيقي للحركة الإسلامية فهم بأخلاقهم ونشاطهم واحتكاكاتهم بالناس ينشرون الفكرة الإسلامية ، ويكون حكم الناس عليهم سياسيًا من خلال تعاملاتهم اليومية والحياتية معهم . وهي فجوة تظهر في أسئلة العامة والمثقفين إليهم ، وكلها تتعلق حول الكيفية التي ستتم إدارة المجتمع وفق المنظور الإسلامي ، فهم يدّعون أن الإسلاميين لا يملكون برامج واضحة ، بل شعارات مطلقة، وفي أحسن الأحوال فإن ما يطرحونه عبارة عن اعتراضات أو ردود على برامج الحكومات دون تقديم مشروعات تنموية ومستقبلية حقيقية وحلول ملموسة تستطيع أن تقنع الفرد المتعلم أنهم أصحاب مشروع نهضوي حقيقي وليسوا أصحاب شعارات فضافضة ، والغريب أن الكثير من الدارسين لديهم أيضًا هذه التساؤلات ، وهي تساؤلات مشروعة بلا شك ، والأمر ليس هينًا ، بل يتعلق بثقافة أساسية لدى الداعية ، حتى يجيب عن أسئلة الآخرين ، ويستطيع بالتالي أن ينتصر للقضية الإسلامية في حواراته ، والتي باتت حوارات حول مشكلات المجتمع أكثر منها حوارات حول ماهية الإسلام وعظمته والجوانب الفقهية والتعبدية فيه ، فقد تكفّل الإعلام المعاصر ( المرئي والمسموع ) بنشر هذه الثقافة ، وفقًا للمحاور الآتية :
1) الحلول الإسلامية المقترحة للمشكلات المتراكمة في المجتمع المسلم :
وتهدف إلى بسط الحل الذي طرحه مفكرو الإسلام المعاصرين لمشكلات : البطالة ، البنوك الربوية ، السياحة المنحرفة ، المشروعات الصغيرة ، فساد الشباب، مشكلات التربوية والتعليمية ، المشكلات الأمنية : المخدرات ، التفجيرات ...
وغيرها من المشكلات الملحة ، بهدف الرد على ما يقوله الآخرون من أننا لا نمتلك برنامجًا للعلاج والنهضة في المجتمع .
2) القضايا السياسية المعاصرة :
بهدف الإجابة عن سؤال : لماذا ارتأى الفكر الإسلامي المعاصر أن الديمقراطية منهج ينبغي التعامل معه وتبنيه كوسيلة للتغيير السلمي ، وتتم مناقشة موضوعات : الديمقراطية : فكر أم منهج ؟ وموقف الإسلام منها ، قضية الانتخابات : الرؤية الشرعية منها ، وأهميتها ، والرد على السلفيين المهاجمين لها، وسائل التغيير السلمي في المجتمع مثل : المظاهرات ، الإضرابات ، الاعتصامات ، التجمعات السياسية ، المنتديات السياسية ، تكوين جماعات الضغط .قضايا حقوق الإنسان : الجيل الأول والثاني والثالث منها ، وكيف يتم تسييسها ، الأقليات المسلمة في العالم الغربي، الأقليات غير المسلمة في عالمنا الإسلامي ، نامج الحركة في مصر المطروح في الانتخابات في الأعوام : 1987 ، 1991 إلى 2005 .
3) إطلالات على إبداع العلماء المسلمين المعاصرين : ويقدم فيها جوانب من اختراعات المسلمين في الغرب والشرق ضمن مساهماتهم في الحضارة العالمية الراهنة ، موثقة بالعدد والصور ، حتى يعلم الجميع أن لدينا الكوادر والأفكار المؤهلة لقيادة العالم ، مثل الإبداعات في : الفلك ، الطب ، علم السياسة ، الهندسة ... ، بهدف التعريف بجهود العلماء المعاصرين ، وكيفية استثمار هذه الجهود في النهضة المنشودة
4) إبداعات واختراعات المسلمين قديمًا في العلوم التطبيقية .
وتجيب عن سؤال : هل كان لدى المسلمين مخترعات علمية وجوانب إبداع وعبقرية . وليس الهدف هنا مجرد بسط كلام مردد وعام ، بل تقديم معلومات وصور موثقة عن إسهامات القدامى في الحضارة ، بحيث يعرف الشباب كيف أبدع القدامى عندما كانت البشرية في قيادتهم ، وما الاختراعات التي ساهموا بها في مجالات : الهندسة ، العمارة ، الموسيقى واختراع آلاتها المتماشية مع الرؤية الإسلامية ، الكيمياء ، الطب ، الفلسفة .
وهذا سيعطي الدارس معلومات مفيدة ، تكون دافعًا له للاستزادة ، وتسد النقص الحادث بسبب تهميش الإعلام والتربية لجوانب العظمة والسمو قديمًا .
وخلاصة القول : لا يكفي أن يكون الخطاب دينيًا روحيًا فقط ، بل لابد أن يكون شاملاً متسقًا مع شمولية الإسلام .