منذ هجمات سبتمبر2001 علي نيويورك وواشنطن, أصبحت كلمة الانصياع أكثر الكلمات تداولا في
القاموس السياسي الإعلامي الأمريكي..
لاتكاد تقرأ جريدة, أو تشاهد برنامجا تليفزيونيا, أو تختلط ببعض الأمريكيين العاديين, إلا وتسمع الكلمة تتردد أكثر من مرة, وفي أكثر من سياق..
والانصياع هنا يعني الاخضاع والاجبار والقهر, الذي تفرضه الامبراطورية الامريكية العظمي علي خصومها بالقوة المتعددة الأسلحة وفي الاتجاهات المختلفة, حتي يخضع هؤلاء الخصوم ويذعنوا ويرتدعوا ويقبلوا بالفرض الأمريكي..
وكلمة الانصياع ارتبطت في الخطاب السياسي الإعلامي, كما في الأحاديث العامة الشائعة, بالإرهاب ـ وبالتداعي ـ بالاسلام, وأصبح هذا الثلاثي متلازما مترابطا في الذهن العام, حتي كاد يصبح جزءا أساسيا من الثقافة الامريكية العامة, بما يعنيه كل ذلك من تداعيات تنعكس علي الأفكار والسياسات عند القمة ونخبتها الحاكمة والموجهة, وعلي الرؤي والسلوكيات في القاعدة العريضة المحكومة..
وبرغم ما في الأمر من مجافاة للحقيقة, خصوصا ربط الاسلام بالارهاب بهذا الشكل التعميمي, ومن ثم. ضرورة اندفاع أمريكا في استخدام القوة لفرض الانصياع والخضوع علي ديار الاسلام والمسلمين, امتدادا لغيرهم إن لزم الأمر ـ كما جري في افغانستان والعراق وكما يجري في فلسطين, وربما ماسيجري لإيران وكوريا الشمالية.. إلا أن الخطاب الاعلامي السياسي الامريكي الذي تبناه صقور اليمين المحافظ الجديد في الادارة الامريكية, وروجوه عبر وسائل الاعلام الجبارة, قد لاقي ارتياحا وقبولا في الرأي العام, الجريح منذ أحداث سبتمبر الدموية, المتعطش للثأر والانتقام, قليل المعرفة بما يجري خارج الحدود الجغرافية الامريكية..
لذلك قلنا إن كلمة الانصياع أصبحت اليوم شائعة عند العامة كما عند النخب, تعبيرا عن رسوخها في العقل الامريكي..
لكن الأخطر من كل ذلك, هو أن عقلية الاذعان الناتجة عن ثقافة الانصياع قد تسللت بشكل من الأشكال, إلي عقول بعض أبنائنا وزملائنا يروجونها ليل نهار فيما نقرأ ونشاهد, دون تفكر أو تمحيص, علي غرار ما يروجه المتأمركون العرب المنتشون هذه الأيام, والمرددون لمقولة, كيف لنا أن نواجه أمريكا بكل جبروت الامبراطورية, وكيف نقاوم فرضها الانصياع الذي أصبح ضرورة حتمية علينا أن نتقبلها ونتعامل معها, حتي لانستثير الوحش الهائج!
ولأن عالمنا العربي يعوم هذه الأيام ـ وخصوصا بعد الحرب الأمريكية البريطانية لغزو العراق واحتلاله ـ فوق موجات كثيقة من الأحاديث حول ضغوط أمريكية هائلة ضد الحكومات العربية لاجراء إصلاحات سياسية وثقافية وتعليمية, تراها هي ضرورية لمكافحة الإرهاب والتطرف العربي الاسلامي من جذوره, فقد ألحت علي ذهني كلمة الانصياع وما تجره دائما من معان وتداعيات كثيرة ومريرة, حتي كادت تخنقني!!
وحين تلقيت دعوة السيد وزير الثقافة فاروق حسني لحضور مؤتمر الثقافة العربية من تحديات الحاضر إلي آفاق المستقبل مشفوعة بورقة توضيحية موقعة من أخي وصديقي الدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة, داهمني تساؤلان متناقضان, أولهما هل يمكن أن يكون مثل هذا المؤتمر المدعو له عدد كبير من المثقفين العرب, تحت عنوان كبير فضفاض, أحد تجليات ثقافة الانصياع!!
أما التساؤل الثاني المناقض فهو ولماذا لايكون نقطة انطلاق جادة لحوار ثقافي فكري عربي جاد, يفتح الطريق أمام حركة إحياء حقيقية للثقافة العربية, ويستعيد دور المثقفين في بلادنا الذي جري تغييبه واستلابه علي مدي أزمان طويلة, حتي صرنا في الحضيض!!!
حسمت أمري وقررت المشاركة في هذا المؤتمر, من موقع الاختلاف المؤكد مع هواجس الانصياع وشبهته, التي أثارت مخاوف ومعارضة مفكرين ومثقفين آخرين نحترمهم ونقدر مخاوفهم.. غير أن ظروفي الطارئة اضطرتني لتأخير عودتي من الخارج ففاتتني فرصة المشاركة في هذا المؤتمر الذي كنت أنوي أن أطرح فيه بعض الأفكار, أملا في التغيير...
وها أنا باختصار أقول, إن أمتنا وثقافتنا ودولنا وشعوبنا, تتعرض في هذه المرحلة لموجات غزو وقهر وغضب وهيمنة, تمارسها الامبراطورية الامريكية نيابة عن حضارة غربية متفوقة ومتقدمة, وتمارسها ـ ليس فقط ـ بقوة السلاح والغزو والاحتلال ـ انظر حالتي فلسطين والعراق ـ ولكن أيضا بما تملكه من قوة اقتصادية وتقدم تكنولوجي, ثم بمفاهيم وقيم ثقافية واخلاقية, تروجها وسائل إعلام جبارة التأثير واسعة الانتشار, وتستقطب من ثم فئات من أبناء جلدتنا اغراء واغواء, فإذا بهم كالببغاوات يرددونها صباح مساء وكأنها مسلمات قدرية لايمكن لنا الفكاك من أسرها, وعلينا إذن الاستسلام والخضوع والاذعان, لأن فرض الانصياع جبار ولاقبل لنا بمقاومته أو رده!!
والمؤكد أن الهيمنة الامريكية, سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو ثقافية, لم تكن لتنجح في فرض الانصياع علينا, لولا أن بنيانا الداخلي وهياكلنا المفصلية هشة وضعيفة وقابلة للاختراق حتي عن بعد, بعد أن فشلنا في إقامة الدولة المدنية الحديثة, المدعومة بالعلم والاجتهاد وبالحرية والديمقراطية, القائمة علي مبدأ رئيسي هو انسان حر في وطن حر... والوطن الحر هنا يعني الوطن المستقل الديموقراطي, والانسان الحر يعني ذلك الذي يتمتع بكل حقوق الانسان وواجباته في ظل نظام وقانون عادلين..
ولذلك أتصور أن القضية الأصل والمنطلق لأي حوار فكري جاد بين مثقفين جادين, هي قضية اندحار حرية الفكر والرأي والاجتهاد والبحث, بعد أن تراجعت قيمة الثقافة واندثر تقريبا دور المثقفين الحقيقيين, وتعقدت علاقة الثقافة بالسلطة ومن ثم علاقة المثقف بالسلطان, فتحولت من سلطة الثقافة إلي ثقافة السلطة, وفقد المثقفون ـ أو تنازلوا ـ عن دورهم التنويري الرائد الطليعي المقتحم, في ظل تراجع حرية الفكر والرأي والاجتهاد, مما أدي إلي دور جديد وغريب للثقافة, التي اقتربت أكثر من دور الاعلام الدعائي, ودور أغرب للمثقفين قوامه النفاق والمداهنة.
والتبرير والتسويغ, حتي للديكتاتورية والعسف والاستبداد, وتأليه الطغاة, والصمت الأليم علي جرائم الحكم وانتهاك حقوق الانسان وارتكاب المذابح الجماعية, وحفر القبور الجماعية أيضا بعد أن ضاقت السجون بروادها..
ولم أستوعب حتي الآن بعقلي البسيط, كيف علق بعض مثقفينا لافتات الحرية والوطنية والقومية والاستقلالية, علي أبواب سجون الاستبداد والقهر, وحولوا مغامرات الطغاة إلي معارك شرف, ونصبوا الحكام أدباء ومفكرين ومثقفين وشعراء ورواة عظام, ثم راحوا يشيعون بين العامة, إنها تباشير اليقظة والبعث والتقدم, تقربا للسلطة الجائرة ونفاقا للسلطان الظالم والتعبد في محراب عسفه وجوره... ألا يستدعي كل هذا نقدا ذاتيا!
وبرغم اقرارنا بتغول دور السلطة في الدولة الحديثة, وصولا لفرض هيمنتها علي أجهزة الثقافة والتعليم ووسائل الإعلام ـ منظومة تشكيل العقل والوعي ـ فإن المؤكد أن المثقفين بشكل عام والعاملين في تلك الأجهزة والوسائل خصوصا, كانوا في معظمهم الأسرع في الاستسلام لثقافة الانصياع الداخلي قبل أن يأتينا الانصياع الخارجي فيكمل المأساة..
ونموذج مثقفي نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين, ليس فريدا في أمتنا, ولكنه نموذج متعدد ومنتشر, حتي وإن ختلفت أشكاله وألوانه وكتائبه وجحاقله, وبفضل هؤلاء ونفاقهم, حولوا السلطان الحاكم ـ من رئيس الدولة إلي شيخ القبيلة, الحاكم بأمره, وإلي كبير الأدباء وإمام المثقفين وعبقري المفكرين.. بل انقلب بعضهم فحول سلطات الاحتلال إلي جيوش تحرير وحرية!!
** فأين الخلل إذن!!
من السهل أن نقول إن الخلل بدأ حين فرضت الدولة بسلطتها المطلقة غير الديمقراطية, المتحررة من المحاسبة والمراجعة, كل سطوتها وهيمنتها علي الثقافة, ومن ثم فرضت الانصياع علي المثقفين...
لكن من الأوفق أن نقول إن المثقفين رضخوا للهيمنة وقبلوا بالإذعان والانصياع, الذي فرضته السلطة الحاكمة من أول لحظة, فاستسلموا, إما عجزا وقعودا, وإما نفاقا وتقربا طمعا في منصب أو ثروة وجاه, والنماذج أمامنا لا تعد ولا تحصي, لمن يريد أن يعد ويحصي!!
نعم... تنازل المثقفون تطوعا أو قهرا ـ وهم طليعة أي أمة ورواد أي تقدم ـ عن أهم أدوارهم في الحياة..
1ـ تنازلوا عن قضية الحرية لصالح الاستبداد والقهر2 ـ تنازلوا عن قضية العدل الاجتماعي لصالح الفقر والتخلف3 ـ تنازلوا عن الاستقلال الوطني والقومي لصالح التبعية للأقوي في الداخل أو في الخارج4 ـ وتنازلوا عن حرية الاجتهاد والانفتاح والتفاعل مع الثقافات الحديثة لصالح الانغلاق والكسل العقلي والانكفاء...وها نحن نجني ثمارا معطوبة لكل هذه التنازلات, خصوصا بعد أن ضربتنا مدافع الهيمنة الأمريكية وغطرستها الفظة, فاحتلت الأوطان واحتكرت الثروات وفرضت السياسات وأملت الاصلاحات وقيدت الإرادات, فإذا بنا نقف متسائلين في حيرة عن خطاب ثقافي جديد, دون أن نطرق أصل القضية وأساسها ـ الحرية بينما يشوش علينا تياران يتعاركان علي السطح, أحدهما هو تيار المتآمركين, الذين يروجون علنا للعولمة ـ الهيمنة الأمريكية, ويبررون الاحتلال الأمريكي للعراق والصهيوني لفلسطين طبعا, باسم ثقافة السلام والتسامح والاندماج في الحضارة الغربية العالمية, وثانيهما هو تيار المؤمنين بالمستبد العادل, بشرط أن يكون صناعة محلية, ومن ثم فهم يبررون مصادرة الحريات, وصولا لتبرير بعضهم الإرهاب المسلح, لمجرد أن مرتكبيه من أبناء جلدتنا, اندفاعا نحو الانغلاق في صور مظلمة للتطرف باسم الاصولية!!
** فهل إلي خروج من سبيل.. وكيف!!
من وهدة الوقوع يبدأ الصعود, كما يأتينا من عمق البئر عذب الماء ريا وسقيا, لذلك آن الأوان لكي يجتمع مثقفو الأمة, علي مشروع جديد للنهضة والاحياء, لا يقل عن, بل يستكمل مشروع النهضة الذي بدأته مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين, علي أيدي رواد ومفكرين عظام, من محمد عبده إلي سلامة موسي, ومن لطفي السيد إلي طه حسين, امتدادا لجيل أو جيلين بعدهم... حتي أصيب المشروع كله بالسكتة القلبية...
وهنا تبدو مسئولية مصر ومثقفيها الآن تحديدا, أكبر من غيرهم لأسباب واضحة, والمسئولية تتبلور في دور الطليعة المتحررة الفكر, الجريئة الإرادة, الواضحة الرؤية, لتفتح حوارا أوسع وأعمق بين المثقفين والمفكرين العرب من كل اتجاه ولون ونبع فكري, لا تقيده هيمنة حكومية, ولا تحده انتماءات سياسية ولا توجهه إيحاءات الاملاء وشبهات الانصياع, سواء جاءت من الداخل أو من الخارج.. بشرط البدء بنقد صريح لوقائع ما جري من خيانات المثقفين لمسئوليتهم!
ولنعتبر المؤتمر الذي عقد وانفض قبل أيام, مجرد خطوة, أو فتح باب الحوار الأعمق والأوسع, نحو إعداد أسس مشروع جديد للنهضة من وهدة الكبوة, ونحو دور جديد وجرئ للثقافة والمثقفين, بعد أن شاع بين العامة اتهامهم بخيانة دورهم ومسئولياتهم, وبعد أن باعوا أنفسهم لكل سلطان جائر..
وفي النهاية... إذا لم يكن باستطاعتنا الآن وفورا, تحويل الكابوس الاستبدادي إلي واقع ديمقراطي, فإن أبسط مسئولياتنا أمام شعوبنا وأمام التاريخ, أن ننقطع عن نفاق السلطان وتزيين الاستبداد, وأن نوقف حالة الارتداد عن حرية الفكر والنكوص عن ديمقراطية الانسان, خضوعا لثقافة الانصياع من أي اتجاه جاءت, ولنبدأ بدلا منها ثقافة الابداع, قبل أن يدهمنا يوم الحساب, وما أقربه وأصعبه!!!
** خير الكلام: قالت العرب:
لكل عمل جزاء... فاتق العواقب!