عشراتُ المرَّات ,,,وربَّما مئاتُ المرَّات .عبرتُ ذلك الممَّرّ الطويل ,المؤدي إلى البوَّابةِ الخارجية ,تلك السَّنة,,,, في تلك المدرسة ,,,/مدرسة اللّغة السويدية ~مدرسة الغربة ~.
وفي كلِّ مرّة,, كنتُ أمرّ أمام باب {الكفتيريا }الداخليَّة,, المفتوح دائماً, مرحباً ومؤهلاً بلا حدود.كانت نظراتي الفضوليَّة تسبقني شمالاً عبر ذلك الباب العريض ,فترى الناسَ تجلسُ بهدوءٍ وشوقٍ كبيرين على الكراسي الكثيرة المحيطةِ بالطاولات, لارتشاف قهوة الساعة العاشرة, تماماً عند انتهاءِ أوَّل ساعتين من الدراسةِ المتواصلة .
لكن ,,,ولا مرةٍ واحدة, أعرْتُ ذلك أيّ انتباه!!
فلماذا تختلفُ هذة المرّة عن كلّ المرّاتِ العديدةِ السابقة ؟؟
لماذا أحسّ أنّ رائحةَ القهوة المغليّة الطازجة, تتسلّلُ إلى كلّ كياني بقوّةٍ غامضةٍ وغريبة؟؟
وكلّما اقتربتُ أكثر,,, ازدادت هذة الرائحةُ الشهيّةُ انبعاثاً, حتى تكادُ تخلق لي أجنحةً خفيّةً ,أطيرُ بها طيراناً نحوَ بابِ (الكفتيريا ),,حتى إذا ما وصلتُ هناك, توقفتُ مكاني ,لآخذ عدّة أنفاسٍ عميقة, تملأني برائحة البِّن الذي يبدو لذيذاً لدرجةٍ لا تُحْتَمَل !!!.
مثل تيارٍ مغناطيسيّ ,,جذبتني رائحةُ القهوةِ للدّاخل ,فكانت هذة المرّة, هي الأولى, مذ دخلت هذة المدرسة .
وقفتُ في الطّابور أنتظرُ دوري,,,
يا إلهي !!!,,,تساءلت
لماذا لا أشربُ قهوتي هنا كلّ يوم ؟؟؟لماذا كنت بهذا الغباء ؟؟
لم أكنْ أعلم, أنّني أعشقُ القهوةِ لهذا الحدّ الجنوني ,
أحبُّها !!؟ نعم ,,وأشربُها !!؟ أيضاً نعم ,,,ولكن !!!.
كان الطابورُ يتقدّم ببطءٍ شديد ,,وأنا أتحرّقُ شوقاً لفنجانِ القهوةِ الساخن ,ولإرتشافِ بخاره الحارّ المتصاعد بقوّة .
نظراتي الفضوليّة كعادتِها,ما زالت تحومُ في المكان, عندما استقرّت عبرَ زجاجِ النافذة ,على ذلك المنظرِ الرائع .
كان الثلجُ يتساقط باستمراريّة هادئة ,ويتكدّس على الطرقاتِ والمساحات .
ضبابيّةُ الجوّ وبرودته في الخارج, تتقاطعُ مع دفىءِ ِالمكان, ورائحةِ البن الحَّار , والضجيجِ الخافتِ المنساب على وتيرةٍ واحدة , فتبعثُ في النَّفسِ قشعريرةً لذيذةً مؤنسة في بحر الغربةِ والثلج.
جالت نظرتي الفضوليَّة على كلِّ الوجوهِ الموجودة. كلُّ العيون زرقاء,, وكلُّ الشعر أشقر,, والبشرة ورديّة .
غريبةٌ لغتهم السويدية !,,ينطقونها من الشفاهِ دون مجهودٍ يذكر, فتبدو مثل دويِّ نحلٍ خافت .
اصطدمت عينايَ بمرآةٍ في الجوار ,,فوجدتُ وجهي ينظر في عمقِ وجهي ,,يا إلهي ,, .
تحسَّستُ وجهي بأطرافِ أصابعي الباردة,,, أبدو شاحبة
وتبدو عيناي شديدتي السواد !!
جاءني صوتٌ يتردَّد في المدى كقصفِ الطيران البعيد ,
~~ سجِّلْ ,,أنا عربي ,ولونُ العين ,,,بنِّي ~~
بنِّي ؟؟؟؟ ,,نظرتُ في المرآة مرَّة أخرى ,
نعم ,,,ولكنَّه يبدو أحياناً شديدَ السَّواد, يتخلَّله بريق ,, مثل قلبِ قطعة فحمٍ حجرية, كُسِرَتْ من لحظةٍ واحدةٍ فقط ,,وهي هذه اللحظة !.
مرَّت عينايَ عبرَ بابِ {الكفتيريا} المؤدِّي إلى الممرِّ الداخليّ الطويل ,فرأيتُ أحدَ الزملاءِ يتسمَّرُ هناك ,
إنَّه أحمد,
كان يرمقُني بنظراتٍ غريبة لم أرَها من قبل ,,نظراتٍ فيها الكثير من التساؤلِ والاستغراب !.
لم أفهم ..! ولكنّي علَّقتُ عليها علامةَ استفهامٍ كبرى,ما لبثَتْ أن انسَحَبَتْ خلفه ببطئٍ وصمت, بالضَّبط كما انسحبَ هو.
سأبحثُ في الموضوع ,,ولكن فيما بعد ,قلتُ لنفسي .
جاء دوري ,,وسألتني الموظفةُ ماذا أريد ~إذ كانَ يُعرضُ العديدَ من المشروباتِ والحلويات~
فنجانُ قهوة سادة ,قلتُ على عجالة ,,وألقيتُ ثمنَه على الطاولة .
وما كادت الفتاة تنتهي من سكبه , حتى تناولته بكلتا يديّ, ورفعتُه إلى فمي, بينما رائحة بخاره الشهيَّة تُعَشْعِشُ في مشامِّي ,وتتسلَّلُ إلى كياني كالنُّعاس اللذيذ!.
فجأة,, وقبل أن تصل حافةُ الفنجان لشفتيّ ,انتفضَ كلّ بدني انتفاضة ًقويَّة,,واندلقت بعضُ القهوةِ الساخنة على يديّ ,وبالكاد استطعتُ أن أتخلَّص من ذلك الفنجان بوضعه على أقرب طاولة .وخرجت عدوا.
تذكرت ,,,
إنِّي صائمة ,,واليوم,, هو اليوم الأوَّل من رمضان !!!
ماسة
شكرا للدكتور محمد البياسي لملاحظته الكريمة