لم يدر بخلدي أن الحياة يمكنها أن تفاجئني بصدمة أخرى كصدمتي بك بالأمس القريب! ولكنها فعلت، وها أنا ذا أقف عاجزة عن استيعاب ذلك الحدث المزلزل الذي مازلت استحضر لحظاته القصيرة كشريط سينمائي يكرر نفسه أما ناظري. سنوات البحث وتعني مشقة السؤال، واستحضار الذكريات الجميلة وكأنها لم تمض، وانتظار الأسوأ أحياناً، كلها تبخرت لحظة أن رمقتني بتلك النظرة المستغربة، تطلب استفساراً لذلك التطفل الأزلي الذي يبدو أنه يلازم شخصيتي!
في لحظة واحدة دارت بيّ الدنيا وطفت بكل المشاعر المتناقضة التي يمكن لإنسان أن يشعر بها في موقف كالذي وقفته وأنا أراها تمر من أمامي، كطيف ألاحقه حتى أمسك بتلابيبه، لأجده يقف كغريب لم أعرفه قط. مشاعر الخوف، والترقب، والفرح، والحزن، والتعجب، والرفض، تظافرت جميعها لتسخر من تلك السذاجة التي مازلت أتمتع بها إلى يومي هذا. شيء في داخلي ضُرِب بيد حديدية شعرت بها تنتزع من قلبي تلك اللهفة التي رافقتني لسنوات. في لحظة تغيرت وفقدت إنسانيتي. الوجه الذي تمنيت رؤيته من جديد، أصبح بلا ملامح، والصوت الذي اشتقت إلى سماعه ما عاد يطربني، ولا الحركات والنظرات عاد لها معنى! شلل فكري أصابني، جعل مني إنساناً يتصرف بآلية وكأنه برمج لتأدية بعض الحركات التي لا بد منها، بلا وعي منه ولا إرادة.
كيف لإنسان أن يقف عاجزاً عن فهم جزء من ماضيه اعتقد أنه مازال يتنفس الهواء؟! كيف لإنسان أن يستوعب أن الأيام الجميلة لم تكن سوى حلم عاش في مخيلته، بينما الآخر يرفل في لحظات النسيان الحالمة، ويتنفس هواء لا تخالطه أنفاسك الملغمة بأحاسيس خيالية؟! وكيف لإنسان أن يتقبل أن ينساه من شاركه طريقه لسنوات، وأكل على يديه أطباق المحبة والوفاء؟! أليس عجيباً أن يفقد جزءً مهماً من تاريخك وتاريخه من كان يوماً رفيقاً لسنوات دراستك، وشريكاً لك في سكنك؟! الآن فقط أدرك أنني ظلمتك بظني أن لا أمر يمكن أن يحزنني كما أحزنتني أنت.