توق الدنو
تتسارع الأشياء ، تكتمل ، تتوالج الظلمات مع انبثاقات النهار ، تتوثب الرؤى لتنازع المعلوم مرورا لطيفا بين خفقات المجهول ، تندفع الطاقة الكامنة من روح تشعر بتحدب اللحيظات القادمة ، تتدلى أيام العمر أمام العينين ، كعناقيد من وهج متفجر ، ترسل بريقا يمتزج فيه الأصفر مع لون الغروب ، تتلاقح الألوان وتتزواج ، تندغم وتتوحد ، يصبح الكون امتدادا رحبا في النفس المحملة بروائح الرحيل والمغادرة .
بداية الأشياء ، نقطة من زمن متكون متصل ينحو نحو الصيرورة والديمومة ، ومكان يمنح الزمن لحظات التكامل والاكتمال ، الزمن والمكان توحد واندماج وانصهار ، لا فكاك منه ، يتداخل في مراحل التكون الأزلي ، أنا ولدت في زمن معلوم ، ومكان معلوم ، فلا بقاء للزمن الذي دفعني رحم أمي فيه بدون المكان الذي استقبل لحظات قدومي ، لتتداخل فيه أنفاسي مع مكونات الوجود بكل ما فيه من تنوع وخصوبة وتدفق ، دماء الرحم التي سالت ، وجع الطلقات المدوي في عمق الأثير والمكان ، فرحة الميلاد ، نشوة اقترابي من صدر أمي لألثم ثديها المترع بالحياة ، كل المكونات تتلاصق ، تندغم ، تتلاقح لتشكل ما يسمى بالزمن .
نحو الخمسين أدنو ، أشارف منتهى التكون ، منتهى الاكتمال ، نقطة النضج ، أبو حامد الغزالي أشار للأربعين بفوات الأوان ، باغت العقل مباغتة ، باقتراب الدنو من الجحيم ، أو النعيم ، لماذا اختار الأربعين ؟ ولماذا أودع الزمن المنقضي ملاحقات القادم ؟ قديما قال الحكماء ، بان اقتراب التلاحم بين لحظات الزمن وبين الإدراك ، تمتد بتناسق مع الأربعين من العمر .
هل هذا صحيح ؟ يبدو أن للعقل علاقة خاصة مع الزمن ، خفية ، لا يراها الفلاسفة ، ولا يتبينها العلماء ، تتسلل كخيط دافق من نور مجهول بجذور العقل ومنابت الوعي ، لكننا نقصيها من اللفظ المجرد ، لنخفيها بين تركيبات التداعي الهابط من وحي مجهول .
أثارني قول الطبيب قبل أيام ، أشار لكائن غريب يرقد في دماغي ، قالها بنبرة الصمت الحامل دلالات الفصاحة والبيان ، اهو الدنو من الرحيل ؟
كنت أظن أن كياني سيطول فوق الكون ، سيمتد ، سيتزاوج مع معطيات الزمن المتحرك ، المتلولب ، المتكاثف ، المشكل لبقايا الغيوم المحملة بزفرات الوجود ، لو أردت الآن القيام بعملية حسابية بسيطة ، كم من الشهقات التي أرسلتها في محيط الكون منذ الميلاد ، وكم من الأمكنة المكونة لماهية الزمن أسكنت شهقاتي ردهاتها وغرفها وممراتها ؟
حين تشعر بالدنو ، يتغلغل بمكونات ذراتك ، تنوء بثقل الحمل المتوالد من الماضي والحاضر والمستقبل ، تبرز الأشياء من مهاجع الغموض ، جلية واضحة ، ناصعة ممتدة ، تنازعك البقاء ، وتحضك بنشوة غامرة إلى اختطاف اللحظات والهنيهات من قبو ظلام سرمدي ، يصبح للحياة لون آخر ، ينشأ من داخلك ، لا صلة له بألوان الأرض والوجود ، فيه سحر غريب ، يدفعك نحو البقاء ، نحو التمسك القاتل بخفقات الشجر والزهر ، تطالعك الوجوه الغائبة في مركز العدم منذ انفلاتها من رحم الوجود ، تخبو ، وتضيء ، تتوهج ، وتكبو ، يخترق أذنيك نداء مجهول ، تلتفت يسرة ، ويمنة ، فوق وتحت ، تحدق بالخلف المطوي ، والأمام المستتر ، يشتد النداء ، يدور راسك ، لكنك لا تدرك مصدر النداء أو مساحته ، يظل عصيا رغم إحساسك المتوثب بمعرفة أصله وكنهه .
لماذا اجتاحتني المباغتة من عبارة الطبيب ؟ الم يكن الدنو ضمن حسابات لحظة الميلاد ؟ الم يكن منوطا بذاتي وأنا نطفة تجول بصلب أبي ؟ الم تكن جزء تام التحول والتشكل وأنا اسبح برحم أمي وخصوبته ؟
لحظات الدنو ، تعيدك ، تحملك بصورة ما ، إلى الغابات الممتدة ، الموغلة بالتقصي والتخفي والامتداد ، تتداخل أنفاس الأشجار ، بأنفاس التوزع الكوني ، تلتحم الصحارى مع حركة النجوم والكواكب ، تتدفق الأنهار كشلالات من حلم الغابة إلى عروق النوق المرتحلة في الصحراء العربية .
لحظة الدنو ، جاءتني ذات يوم ، كانت اقرب إلي من الورم الذي أشار الطبيب لوجوده بدماغي ، اقرب كثيرا من التصور والتوقع ، كانت البندقية مغروسة براسي ، قال لي ، ستموت الآن ، وكان أولادي وزوجي يشاهدون لحظة الدنو المعلقة برصاصة صغيرة ستخترق راسي ، أيقنت بالموت ورحيل الدنو منه ، كان ملامسا لكل تكويني ، من لحظة الميلاد المتصلة بالمكان ، إلى اللحظة الأخيرة ، تصاعد البخار من الدماغ ، من مركز الرؤى والتبصر والإبصار ، شاهدت دماغي متناثرة ، مختلطة بالدماء ، وكان جدول الدم الساخن يرتسم أمامي وهو يسيل بزقاق حارتنا في المخيم ، تدلت البصيرة ، وتساقط الوعي الكامن .
للحدث تأثير بتكوين الزمن ، بتكوين المكان ، بتكوين الأشلاء المتفرقة في أعطاف الزمن الراحل ، يومها ، وبلحظة واحدة ، وبعد أن سحبت الأقسام ، وأصبح الإصبع الحلقة الأخيرة لنقلي من مرحلة الدنو إلى مرحلة السقوط باللانهائي ، قفز الماضي كله مرة واحدة ، شاهدت نفسي وأنا اخرج من الرحم ملطخا بدماء الولادة ، شاهدت المكان ، ولأول مرة في حياتي ، أمسكت بالزمن ، لمسته ، أحسسته ، كانت وجوه أولادي وزوجي ، وهي تحتقن العزاء واليتم ، تتراءى لي وأنا أضع إصبعي في نواة الزمن المجهول ، غابات الزيتون ، بيارات البرتقال ، نوار اللوز ، مرارة الألم والهزيمة ، فرحة الانتصار ، لحظات التجلي والهيام ، تدفقات الحلم بنشوة الذروة ، شوارع العواصم التي زرت ، ياسمين دمشق ، ورائحة دجلة ، تاريخ الفراعنة ، والأمويين والعثمانيين ، الأندلس الخافقة برؤى الأجداد ، برؤى تلاحم الزمن مع الأمكنة الموزعة عبر مساحات الأرض والوجود ، كل الأشياء انزلقت بطريقة تفوق انزلاق النسيم في مخيلتي ، كانت تلك اللحظات السابقة لحركة الإصبع ، أغنى وأوفر اللحظات التي عاشتها ذاتي الداخلة بسراديب الفناء .
لحظة الدنو ، والغرق بالموت ، شعوران رافقا حياتي ، منذ الميلاد ، قالت أمي : يوم ولدتك ، وبعد لحظات ، شاهدت الدم يجري ، كان الحبل السري قد فلت من ربطته ، وكان الموت يقترب بسرعة منك ، صرخت ، وأنا أعاني لحظات الألم الممتدة ، ماجت الغرفة ، أسرعت أم هاشم ، بركت فوق الدماء المتدفقة ، وأمسكت بالسرة ، عقدتها من جديد ، لو غفوت قليلا ، لو لم تتحرك بداخلي انقباضات النذر القادمة من الم الولادة وانفجار الطلقات ، لكنت الآن في قبر صغير ، بمساحة من مكان مجهول الآن ، معلوم لو نفدت الدماء من عروقك الصغيرة .
يومها كنت فتيا ، أمارس اللذة مع مكونات الوجود ، وازرع أحلامي بخفقات النجوم ، لم تثر الرواية في شيئا غير الندم على فقد تجربة الموت بالطفولة ، لسبب مجهول ، كنت اشعر بان الموت أحق بي من الحياة ، وكنت أحس بروعة دبيبة ، وحلاوة تمكنه من الجسد ، بل وكنت اغرق بأفكار غريبة ، تمكنني بعد الوفاة من التنقل بين المجرات وحركة الكون ، لأنني جزء من منظومة تدور في فضاء لانهائي .
أمي كانت تتعوذ بالله من الشيطان ، تقرأ الفاتحة والصمدية ، وترش فوق راسي نثار الملح ، لم تكن تقبل بفكرة ولوج الموت من باب الحياة ، لان للموت بقدرتها العقلية معنى لا يتوافق مع رؤيتي له وأنا في سنوات الفتوة والاندفاع واللامبالاة .
وحين كبرت قليلا ، أدركت اتصال الموت بالفناء ، بالتحلل ، بالاندثار ، بالتلاشي والتبخر ، انتزعت من إدراك أمي معنى الموت ، وزرعته براسي ، فأصبحت خطواتي محسوبة ، تتصل بما يتصل بالبقاء ، وتنأى عن كل ما يتصل بالفناء والتلاشي ، أصبحت الجنازات هاجسا يعذبني ، يقلقلني ، يقض راحتي وصفائي ، وحين شاهدت اللحد ، انقطعت أواصري مع المقابر حتى وفاة أمي .
يومها نزلت إلى القبر ، لأوسدها التراب ، ولأطبع على خديها وجبهتها قبلاتي الأخيرة ، وحين خرجت ، نشأت بيني وبين المقبرة علاقة جديدة ، بها اتصال حذر ، فيه رجفة الخوف ، ورعشة الانتماء والوفاء ، تحولت إلى كائنين ، احدهما يتصل بالقبرين المتلاصقين ، صلب أبي ورحم أمي ، والآخر يتصل بمدى مفتوح على الشعور باللانهاية ، الراجفة من نهاية ربما تأتي الآن ، وربما تنتظر أعوام .
لحظة الدنو ، اكتمل نضوجها إلا قليل ، بعد زفافي بأيام قليلة ، اخترقت يدي مدية الزمن ، أطاحت بوجودي ، تفتت المعصم ، مزقت الشرايين ، تقطعت الأوتار ، وتناثرت الأوردة ، كانت الإصابة بليغة ، فتحت نافورة الدماء ، حملت يدي ، رفعتها فوق مستوى القلب ، اعترضت سيارة كانت في الشارع ، وصلت المشفى ، قال الطبيب ، بينه وبين الموت لحظات ، يجب أن نوقف النزف ، دخل أخي عبد الرحيم ، فاضت الدموع من عينيه ، أيقنت بالموت مع رفض النزف عن التوقف ، لحظات ، لحيظات ، دخلت قبو الموت .
كان الليل مشاركا بكل التفاصيل ، ينسج ملحمة الموت والعزاء ، نساء الحارة ، شباب المخيم ، الأصدقاء ، خلايا نحل تتنقل بين مشفى ومشفى ، والأهل والحارة بانتظار الجثة من اجل النواح والدفن والبكاء .
هنا تداخلت نغمات الوجود ، مع ناي الحزن القادم من خبر معتق بالموت ، يوم الميلاد ، انقطع رباط السرة ، ويوم الاعتقال ، كانت الرصاصة تستعد للولوغ براسي ، واليوم ، اتصل الدنو بدنوين سابقين ، ولكن قبل التيقن من لحظة الدنو ، كانت فكرة الموت قد اخترقت حدود الزمن كله بيقين الرحيل والاغماضة الأخيرة .
حين أفقت ، تفحصت المكان ، لأعلم مقامي السرمدي ، البياض حولي في كل مكان ، والهدوء يغرق بالسكينة ، أفي الفردوس أنا ؟ اجتاحتني الفرحة ، وتسربت إلى مساماتي نشوة متصلة بمعرفة المصير المجهول المخفي بين طيات الرضا والنفور ، بين ميل الإيمان ، ونقاوة اليقين ، حسنا ، أنا في الفردوس العظيم .
علا نفير سيارة ، مزق الزمان والمكان ، وخلط الوهم بالحقيقة ، ما أصعبها تلك اللحظات ، التي تعيدك من برزخ الموت ، وفتنة اليقين بالفوز ، إلى ملاحم الشك والتبعثر والتوزع بين ما كان وما سيكون .
الانتقال من سطوع الجنة ، للانغماس بتراب الكون ، يحتاج إلى مسافة من زمن قد تبدو قصيرة ، لكنها واقعة بين حد التناهي في وهم الخوف والرعب ، وحد الانغماس برجة تخض العقل وتقتلع النشوة .
قبل أيام ، أعادني الطبيب للحظات الدنو ، وأنا هنا لم أدون كل لحظات الدنو التي مررت بها ، فهي ستأتي بموضع آخر إن ترك الورم النابت بالدماغ فسحة للتدوين والإفاضة ، علي الآن أن أحاول بطريقة غير عادية ، التفرغ لاختلاس اللحظات من خفايا ما يتم بالدماغ من تغير وتبدل ، علي أن أحاول طي الزمن بطريقة غير التي اعتدت عليها ، لأحاول نقل أحداث تتصل بنواة ما شكل هنيهات العمر الغارق بالنسيان والسهو ، حتى قدوم لحظة الدنو ، تشكلها ككائن في الدماغ ، أو كحركة إصبع على الزناد .
حاولت فور خروجي من العيادة أن أحدق بالأشياء والأماكن ، أن ازرع بريق الرؤى المتناسلة في جوف المكان المتصل بالزمان ، لكنني أحسست ، ولأول مرة ، بلحظة التجمد التي تغل الزمن ، فتنسف إدراك المكان ، وتحول إيقاعات الوجود إلى نقاط ثابتة ، شاهقة ، سامقة ، لكن بدون نبض أو حياة .
هي لحظة واحدة ، جملة واحدة ، تستطيع انتزاعك ، من كونك أنت الذي تعرف وتخبر ، إلى أنت الجديد المتنصل من كل خطوات السابق الذي شكل ذاتك من الداخل والخارج ، لحظات ، تضعك على فاصل بين زمنين متسارعين متوازيين ، تنظر للخلف وأنت تستدعي من تعرف ، من عشت فيه وعاش فيك ، ترتد للامام ، محاولا الوصول إلى مولود ما بعد اللحظات التي بدأت تتمحور كنقطة ارتكاز نهائية لكل ما في القادم من إنبثاقات وإضاءات .
تتناثر بين هذا وذاك ، تتوزع بين حيرة ودهشة ، تضغط على الرأس ، لا تشعر أبدا بغريب يسكن الدماغ ، رغم تحول ما كان وما سيكون .
اهو الدنو ذاته ؟ أم التوق لدنو تستدعيه ذاكرة غير متفقة مع ما نعرف وندرك ؟
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 22- 4 - 2008