تصريحات كبير القساوسة الإنجليكان/راشد الغنوشي
صدمات على طريق الاعتراف بالإسلام في الغرب
كان وقع الزلزال أو القنبلة لما أقدم عليه كبير القساوسة الإنجليكان الدكتور روان وليامز من موقعه على رأسالكنيسة الإنجليكانية الكنيسة الرسمية والأكبر (77مليونا)، وذلك خلال محاضرته الأسبوع الماضي بالمجلس العدلي وحديثه مع الإذاعة الرابعة.
فقد دعا إلى التفكير في إدخال بعض مواد الشريعة الإسلامية ضمن القانون البريطاني سواء تعلقت بمجال الأحوال الشخصية مثل شئون الطلاق والخلافات الزوجية أو تعلقت بتيسير حصول المسلمين على خدمات مالية مثل الحصول على بيت بقروض غير ربوية مما هو قائم اليوم، معتبرا مثل ذلك أمرا لا مفر منه، ومن شأنه أن يساعد على مزيد الإدماج والانسجام داخل مكونات المجتمع البريطاني بما يجعل المسلم لا يجد نفسه مضطرا إلى الاختيار بين الولاء لثقافته الخاصة وبين الولاء السياسي لوطنه.
وعلى الرغم من أنه نبه إلى أن الأمر لا يمثل دعوة إلى تطبيق عام للشريعة يشمل عقوبات قاسية أو يسمح بتمييز ضد النساء إذ تظل مرجعية القانون البريطاني الأساس، فإن ذلك لم يكن كافيا للتخفيف من وقع الصدمة أو الزوبعة أو لتهدئة النيران التي انهالت عليه والتي ثارت من كل حدب وصوب وبلغت حد وصفه بالخيانة لكفاح أجيال خلال قرون في هذا البلد من أجل مجتمع علماني متحرر يتساوى فيه المواطنون أمام القانون بلا تمييز بمنأى عن كل تدخل ديني (انظر مثلا صنداي تايمز والإنديبندت – الأحد الماضي).
ولم يتأخر رئيس الوزراء جوردان براون في التصريح باستنكاره هذه الدعوة مؤكدا أن القيم البريطانية هي المصدر الوحيد للقانون البريطاني، وأن تطبيق الشريعة لا يجوز أن يكون مبررا للنيل من القانون البريطاني، كما لا ينبغي أن تكون مبادئها أساسا لمحاكم تفض بعض الخلافات (التايمز8-2-2008).
مواجهة الصاعقة
ولم تكن ردود أفعال المسئولين الدينيين من داخل الكنيسة ومن خارجها أقل هدوءًا؛ بل بلغ الأمر حد المطالبة بعزله من قبل رجال كبار في كنيسته إن لم يعتذر ويتراجع عن تصريحاته، فلقد كانت الحملة على الرجل صاعقة لم تقتصر على الصحافة الشعبية التي اعتبرت تصريحاته "انتصارا عظيما" للقاعدة، بحسب جريدة الصان التي تقوم بجمع عريضة يطالب فيها الموقعون بإستقالة رأس الكنيسة الإنجليكانية الدكتور روان وليامز، بل شاركت فيها بفعالية أيضا الصحافة الجادة كالجارديان والإندبندنت والصاندي تايمز والفاينانشال تايمز ومواقع الإنترنت والقنوات التلفزيونية، وذلك من كل الاتجاهات الدينية والعلمانية والحقوقية اليمين واليسار.
وحتى الأوساط الإسلامية لم تتأخر في الهجوم على الرجل رادين عليه معروفه ومؤكدين أنهم سعداء بالاحتكام للقانون البريطاني ولا حاجة بهم إلى شريعة ستكرس عزلتهم بدل اندماجهم، وجاءت ردودهم في أغلبها من وقع الهجمة الشديدة التي تعرض لها كبير القساوسة ورأس الكنيسة الإنجليكانية.
المفكر طارق رمضان مثلا قال بأن هذه التصريحات والأفكار ستغذي المخاوف من الإسلام عند عموم البريطانيين.. الشيخ إبراهيم موقر إمام في مدينة ليستر قال بأن المجموعات الإسلاموفوبية والعنصرية ستستغل تصريحات الدكتور وليامز لمهاجمة الإسلام والمسلمين.. المجلس الإسلامي البريطاني هو ذاته كان متحفظا في ترحيبه بتصريحات كبير القساوسة، ربما يكون الشيخ صهيب حسن رئيس "مجالس الشريعة " من القلة القليلة التي رحبت بتصريحاته وعبرت فقط عن خشيتها من تراجع رأس الكنيسة عن تصريحاته أمام ما ووجه به من حملة صاعقة.
أما العالم الإسلامي فلم يسمع له حسيس في معركة وثيقة الصلة بثقافته وحضارته، فلا دولة إسلامية ولا مؤسسة دينية مثل الأزهر أو اتحاد علماء المسلمين وحتى مجلس الفتوى الأوروبي ولا حتى الشيخ يوسف القرضاوي، ليس من جهة منها فيما نعلم عبرت عن اهتمامها بهذه المعركة.
فما دلالات هذه المعركة والى أين أفضت؟
1- كشفت الحملة الشاملة التي انهالت فيها النيران على كبير القساوسة من كل جهة، عما أمكن للجهات المعادية للإسلام وبالخصوص الأوساط الصهيونية النافذة واليمينية المتطرفة أن تراكمه عبر القرون وبالخصوص منذ كارثة 11 سبتمبر 2001 من كراهية للإسلام وأهله وحضارته وكل ما له به صلة.
2- أن الإسلام وشريعته ومجتمعاته في الغرب بصدد التحول الى مكون أساسي من مكونات البنية الغربية والخروج من جالية هامشية ذات وجود طارئ (عمال مهاجرين أو طلبة وافدين) إلى مواطنين ينضمون إلى عوالمهم الجديدة، ليس مجرد أفراد مرشحين للذوبان سمادا فيها.. بل حاملين إضافاتهم الثقافية وأنماط حياتهم يتفاعلون من خلالها مع بيئاتهم مؤثرين ومتأثرين، وهي العملية التي أنجزتها قبلهم مجموعات ثقافية ودينية أخرى مثل اليهود الذين سلخوا مئات السنين تحت نير الاضطهاد الغربي ولم يمض أكثر من نصف قرن على القبول بهم مكونا أصيلا في بنية المجتمع الغربي معترفا لهم بالشراكة في أسس الحضارة الغربية (الحضارة المسيحية اليهودية).
المسلمون وهم وجود حديث سادت علاقاته التاريخية بأوروبا علاقات الحرب، ولأول مرة في التاريخ تتم تجارب تعايش مسلمين في المجتمعات الغربية، ولأن هذا الوجود الحديث مرشح بكل التقديرات إلى النمو السريع والتأثير المعتبر والشراكة الحضارية المعتبرة كان مفهوما أن يواجه بكثير من التوجس والمخاوف، بعضها من طبيعة اقتصادية وبعضها رواسب تاريخية وكثير منها انعكاس لمسالة الصراع الجاري في فلسطين مع الكيان الصهيوني صاحب النفوذ الواسع في الغرب بما يجعله المسهم الأكبر في التحريض ضد الإسلام والمسلمين وضد كل متعاطف معهم، وذلك من خلال تغلغلهم الواسع في الإعلام الغربي.
3- الحملة المسعورة ضد كبير القساوسة لم تكن مفصولة من معارك أخرى لا تزال جارية مثل المعركة في فلسطين ومثل غزو العراق المعركة التي وقف فيها الاعلام الصهيوني واليميني مؤيدين للغزو لمصلحة إسرائيل بينما وقف كبير القساوسة باعتباره رجلا لبراليا تحرريا ضد الغزو، المعركة ضد الإسلام في البلد هنا متصلة بمعركة أخرى تتجه إلى الاستعار.. المعركة على رئاسة بلدية لندن يتواجه فيها كين ليفنجستون الزعيم اليساري المؤيد لقضايا التحرر في كل مكان، وقاده ذلك إلى الوقوف بقوة في وجه العدوان على فلسطين والعراق جاذبا إلى صفه تأييد المجتمع الإسلامي اللندني لترشيحه وإعادة ترشيحه في مقابل مرشح يميني معادٍ للأجانب ومدعوم صهيونيا.
والمدينة تتأهب الآن لمعركة رئاسة البلدية مجددا، وأعداء رئيس البلدية يشحذون هذه الأيام أسلحتهم في مسعى لإطاحة الرجل الذي ارتبط بالإسلام وبفلسطين من خلال تحالفه مع المسلمين، ومن خلال ارتباط صورته بالشيخ القرضاوي، إذ تولى منذ بضعة سنوات استقباله في المطار وفتح قصر البلدية لاستقبال جلسة الافتتاح لدورة مجلس الإفتاء الأوروبي على الرغم من الحملة المسعورة التي شنتها على الشيخ القرضاوي نفس الجهات التي ألهبت النيران ضد كبير القساوسة هذه الأيام، غير أن الحملة ضد القرضاوي هذه المرة انتهت بنصر لهم، إذ وصلوا الى ما أرادوا من استصدار قرار حكومي برفض التأشيرة لدخول القرضاوي إلى البلد.
نتيجة المعركة
فإلى أين أفضت معركتهم مع كبير القساوسة؟
لم تتحقق خشية الشيخ صهيب على كبير القساوسة أن يتراجع أمام الحملة المسعورة، يوم الإثنين الماضي كان موعد انعقاد السينود (البرلمان الكنسي) وهي المؤسسة المؤهلة للحسم في هذه المعركة سواء أكان بتجديد الثقة في رأس الكنيسة أم بسحب الثقة منه أم بتراجعه واعتذاره؛ فماذا حصل في هذه اللقاء الحاسم؟ لقد صمد كبير القساوسة في وجه الحملة الشاملة المسعورة التي ووجه بها.
التنازل الوحيد الذي قدمه هو الاعتذار عما قد يكون حصل من قصور لغوي في اختياره العبارات المناسبة لتبليغ ما أراد لعامة الناس وحتى لأتباعه، فهو يعتذر عما ورد في عباراته من نقص في الوضوح، والحقيقة أن من هم في موقعه ليس معتادا منهم تقديم الاعتذارات وحتى التوضيحات كما نبه إلى ذلك معلق الجارديان (12-2-2008) مؤكدا ما كان قد ذهب إليه في خطابه السابق "مدافعا عن حق كنيسة إنجلترا في الاهتمام بشئون المجموعات الدينية الأخرى ومساعدتهم على وضع مشاكلهم تحت الضوء"، مبينا أنه لم يدع إلى منظومة قانونية موازية وأنه لم يوقع على صك أبيض للشريعة خصوصا في مسائل حساسة تتعلق بالحريات النسوية مثلا، إنه يدعو الى اعتراف بخصوصيات المجموعات الدينية وحق الأفراد في اختيار المنظومة القانوية لحل مشاكلهم، ويبقى المشكل، هل يمكن لمواد من الشريعة أن تندرج ضمن القانون البريطاني؟.
ولقد استقبل رأس الكنيسة من قبل برلمان كنيسته كما ودع بموجة من الهتاف دعما له في مواجهة الحملة التي تعرض لها، كما أن التهديد بإقالته لم يلق دعم أكثر من عضوين من أعضاء المجلس، وهاتفه رئيس الوزراء معبرا عن قبوله التوضيحات التي قدمها والتي تؤكد مرجعية القانون البريطاني وحدها.
والخلاصة من كل ذلك: أن تصريحات كبير القساوسة على الرغم من الحملة المسعورة التي ووجهت بها ذات دلالة بالغة على الاهمية المتزايدة للإسلام والمسلمين في الغرب باعتبار صدورها عن الشخصية الثانية في المسيحية المعاصرة بعد بابا روما، كما أن الرجل لاهوتي كبير وفيلسوف واشتغل بالتدريس زهاء ربع قرن في أكبر جامعتين بريطانيتين؛ أكسفورد وكامبريدج.
هذه المكانة المتزايدة التي يحتلها الإسلام والتي يعبر عنها بأشكال معظمها سلبي مبعثه الخوف والكراهية والجهل والولاء لإسرائيل التي تخشى حقيقية أن يفقدها الوجود الإسلامي المتنامي في الغرب الدعم التقليدي المضمون لها، غير أن الأصوات المؤيدة أو المتفهمة للإسلام وقضاياه العادلة وما يتوفر عليه من قيم قادرة على أن تعيد لحضارة مزق تصاعد وتائر العلمنة فيها أنسجتها مجتمعها وقيمها الخلقية والروحية، متآلفة في انسجام مع قيم ومشاغل الإنسان اليومية وحاجاته المادية والترفيهية.
وذلك بالفعل ما كان قد عبر عنه منذ بضعة سنوات شخصية بريطانية في قمة الهرم الأمير تشارلز ولي العهد في محاضرته الشهيرة بأكسفورد، وما فعله الفيلسوف كبير القس رون وليامز خطوة أخرى على نفس الطريق (تطبيع الوجود الإسلامي في الغرب والدفاع عن محافظته على خصوصياته بل والإفادة منه). إنها صدمة سيسفر عنها مزيد من التعزيز والتطبيع لهذا الوجود المتنامي المهدد من قبل جماعات التشدد والإرهاب من داخله ومن لوبيات الصهينة والتطرف العلماني والعنصري من خارجه.
يبقى جديرا بالنظر هذه المفارقة أنه بينما تتوالى المحاولات الغربية لاكتشاف الإسلام وما تتوفر عليه شرائعه من حلول لمشكلات عجز أمامها العقل العلماني مثل قضايا الأسرة والمال والدعوة الى الإفادة منها لا تزال صورة الشريعة التي يروج لها البعض من أعدائه وحتى من دعاته تكاد تنحصر في تطبيق حدود في غير موضعها، هل سيبقى هؤلاء وأولئك ينتظرون تطبيقات للشريعة تأتيهم من الغرب ليقدموا عنئذ مطمئنين على تقليدها، وعلى سبيل المثال لم يكد يبقى بنك بريطاني لم يفتح نافذة للتعامل وفق الشريعة فضلا عن الاعتراف بأول بنك إسلامي هنا في الغرب فيما تتسابق دول غربية أخرى اليوم على النسج على منواله؟.