بريطانيا .. الدور الذي لا ينتهي


د / لطفي زغلول – نابلس



الزيارة التي قام بها غوردن براون رئيس الوزراء البريطاني ، ومن قبلها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ، ومن قبلها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ، ومن قبلها رئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج دبليو بوش ، لا يمكن توصيفها إلا على أنها جاءت لدعم الكيان الإسرائيلي ، وتثبيت دعائمه ، في وجه ما يسمى الإرهاب الفلسطيني ، وإشاعة الأمن والأمان والطمأنينة فيما يخص المشروعات النووية الأسرائيلية .
في هذه الزيارات الأربع ، أفرغ كل زائر ما في جعبته من التزامات وتطمينات تجاه الكيان الإسرائيلي . وهو في نفس الوقت لم ينس تكرار كلمات أصبحت مفرغة من معناها ، أو أنها في الأصل مفرغة تجاه القضية الفلسطينية . " مصطلح القضية الفلسطينية غير وارد لدى مخاطبة الكنيست ، ويستبدل بمصطلح الشرق الأوسط " .
كلمات تداعب خيالات الفلسطينيين ، لا تلبث أن تتطاير قبل أن يطير الزائر راجعا إلى عاصمة ملكه السعيد . دولة فلسطينية متصلة الأراضي قابلة للحياة . القدس عاصمة لدولتين . توقف في " التوسع " فيما يخص المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية ، والضفة الغربية . حلول عادلة ومقبولة من كلا الطرفين فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين ، والترتيبات الأمنية التي يفترض اتخاذها من قبل الفلسطينيين .
جوردن براون هذا لم يأت بجديد . فقد كرر ما قاله من قبل رؤساء كل من الولايات المتحدة الأميركية ، والمستشارة الألمانية ، والرئيس الفرنسي . غير أنه أضاف بأنه لا يتوقع أن يعمل أحد أطراف الصراع ضد مصالحه الخاصة . وهو يدرك حق الحكومة الإسرائيلية وواجبها تجاه أمن مواطنيها . وهو يقر بالجهد الذي يبذله الفلسطينيون في الضفة الغربية لتحسين سجلهم الأمني ، والنجاحات التي قد حققوها .
إنه رئيس الحكومة البريطانية . وهو خليفة الرئيس السابق لها طوني بلير . وكلاهما ينتميان إلى نفس الحزب الذي أصدر في حينه وعد اللورد بلفور في تشرين الثاني من العام 1917 . يومها منح هذا الوعد الشعب اليهودي الحق في إقامة دولة له على الأراضي الفلسطينية . كان ذلك في أواخر العهد العثماني ، فما أن حل العام 1918 حتى استولت بريطانيا على بقية فلسطين ، وبسطت انتدابها عليها " 1918-1948 " .
إبان انتدابها على الأراضي الفلسطينية ، وهو انتداب مؤقت يهدف إلى تمكين الشعب اليهودي من تأسيس كل المؤسسات المفترض بها أن تشكل دولته ، " السياسية ، الإقتصادية ، الأمنية ، النقابية ، وغيرها " . فما إن جاء العام 1948 حتى كانت كل مؤسساتها قد أصبحت جاهزة ، وأصبح لها جيش مكون من عدة فرق .
وبداية فبريطانيا أدرى من غيرها بتاريخ القضية الفلسطينية ، ذلك أنها ساهمت مساهمة عريضة بل ربما تكون أحادية المساهمة فيما يخص هذه القضية التي رسمت قراراتها آنذاك خطوط كل السيناريوهات السياسية على اتجاهاتها المتعاكسة ، والتي ما زالت قائمة حتى اللحظة . والأبرز فيها هذا السيناريو المأساوي على الجانب الفلسطيني ، والآخذ في الإتساع والتعمق من كل الإتجاهات والأبعاد .
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا : أية فائدة يمكن أن ترجى من هذا الرجل الذي انحاز قلبا وقالبا للسياستين الأميركية والإسرائلية ، وغض نظره عن المآسي الكارثية التي سببها الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ؟ . أم أنه يفكر انه سيرضي الفلسطينيين بهذه الزيارة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، والتي أعلن رسميا أنها جاءت بغية " الإستماع وتبادل الأفكار ، وتحقيق تقدم في إطار حل الدولتين " .
لقد سمع الفلسطيينيون الكثير الكثير من مثل هذه التصريحات التي تفتقر إلى أبسط بسائط المصداقية والجدية ، والتي تجتر بين الآونة والأخرى لمجرد الإستهلاك . وتذكيرا ، فقد سبقه الرئيس الأميركي بوش الإبن قبل ما ينوف عن خمس سنوات " بوعده " عن الدولة الفلسطينية التي ما زالت نطفة في رحم الغيب السياسي ، وبخارطة الطريق ، ولقاء أنابوليس وغيرها . وها هو يعيد هذا الإجترار لغايات في نفس السياسة البريطانية في الوقت الضائع من عمر حكومتها الحالية ، موهما أن بريطانيا ما زال لها دور تلعبه في السياسة الدولية .
بالنسبة لنا نحن الفلسطينيين ، هناك دَين تاريخي ضخم في ذمة السياسات البريطانية ، لايمكن تصفيته أو نسيانه أو المسامحة به ، وإن تقادم عليه الزمن . وبطبيعة الحال ، فإن زيارة أو اثنتين ، أو حتى ألف زيارة يقوم بها أي مسؤول بريطاني أيا كانت رتبته السياسية ، لا ولن تسدد ذرة من هذا الحساب ، طالما ظل الشعب لفلسطيني رازحا تحت الإحتلال ، ومشردا في المنافي .
باختصار ، إن مجمل المآسي الكارثية الفلسطينية هي جراء السياسات الإستعمارية البريطانية في القرن العشرين المنصرم . إن بريطانيا هي صانعة النكبة الفلسطينية . إنها هي المسؤولة ماضيا وحاضرا ومستقبلا عن عذابات الفلسطينيين ، ورحلة آلامهم التاريخية عبر تسعة عقود من الزمن ، منذ وعد بلفور عام 1917 .
وتذكيرا ليس إلا ، فعلى مدى ثلاثين عاما من انتدابها ، وظفت حكومة بريطانيا العظمى وعدها على أرض الواقع ، وترجمته لى حقيقة . فما إن أطل يوم الخامس عشر من أيار 1948 ، حتى كانت الدولة اليهودية قد أعلنت علىالجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية .
وفي المقابل تم اقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم التاريخي وتدمير المساحة العظمى من تجمعاتهم السكانية ، لتقام على آثارها البلدات والمستوطنات اليهودية ، وليصبح جل هؤلاء الفلسطينيين شعبا مهجرا منفيا خارج حدود وطنه التاريخي . وهكذا أفرزت هذه القضية إحدى أخطر إفرازاتها متمثلة بالنكبة الفلسطينية التي ما زالت قائمة حتى الآن .
وبرغم أن الزمن قد تقادم على هذه القضية ، إلا أن مسؤولية بريطانيا عما حدث للشعب الفلسطيني من ويلات وكوارث ومآس ، لا يختلف عليها اثنان ، ولا يلغي هذه المسؤولية وما يفترض أن يترتب عليها . إن أخطر ما ارتكبته بريطانيا أنها غضت الطرف عما فعلته ، أو أنها بصحيح العبارة نفضت يدها من أية مسؤولية تجاه الشعب الذي شردته وتسببت في معاناته طوال عقود القرن العشرين المنصرم ولا تزال .
وفي هذه الأيام بالذات ، وفي غمرة موجة الإجتياحات الإحتلالية التدميرية التي تقوم بها قوات الإحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة سواء في القطاع أو الضفة ، على مرأى ومسمع مما يسمى المجتمع الدولي ، أو بصحيح العبارة تحت ظلال هذا الصمت المريب ، وبريطانيا واحدة من هذا المجتمع الدولي ، يشد طوني بلير الذي أوكات له مهام المنسق الرحال لزيارة الأراضي الفلسطينية العديد العديد من المرات . وحقيقة الآمر أن الشعب الفلسطيني برمته يعتقد أن هذه الزيارات ما هي إلا حرث في البحر .
وكلمة أخيرة إن الفلسطينيين ، وقد حرموا طوال عقود طوال من الزمن ، وما زالوا من أبسط حقوقهم الإنسانية والوطنية والسياسية جراء نكبتهم التي كان للسياسة البريطانية يد طولى في إيجادها ، فإنهم لا يتوقعون من بريطانيا إلا أن تعيد قراءة القضية الفلسطينية قراءة تسودها روح العدالة والإنصاف والحق والإلتزام الأخلاقي . وهذا أقل ما يمكن أن تفعله .
إن عليها تفعل شيئا حقيقيا لتكفر عن بعض خطيئتها وخطأها أثناء الإنتداب البريطاني على فلسطين ، وهذا غيض من فيض ما يفترض أن تفعله بريطانيا تجاه الشعب الفلسطيني . وماعدا ذلك يكون إصرارا على تكريس النكبة وهروبا مقـصودا من المسؤولية ، وها هو رئيس وزرائها العمالي قد حل في الأراضي الفلسطينية ، وجها لوجه مع الحقيقة المأساوية التي أفرزتها سياسات إمبراطورية أجداده الإستعمارية بعامة ، والعمالية بخاصة ، فهل من عبرة وتكفير عن خطيئة ورثها ، وأمعن هو في تكريسها ؟ .
والفلسطينيون لا يطلبون المستحيل ، فهم لم يغيروا أهدافهم منذ أول يوم من أيام نكبتهم . فكما أوجد آباء البريطانيين الحاليين وأجدادهم دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين جراء وعد بلفور وزير خارجيتهم آنذاك في العام 1917 ، والذي بدوره أفرز النكبة الفلسطينية بكل تداعياتها وأبعادها المأساوية الكارثية .
إن هذه الخطيئة التاريخية بحق الشعب الفلسطيني لا " يمحوها " أو يخفف من وقعها إلا " وعد بريطاني " جديد بقيام دولة فلسطينية على أرض فلسطين يجسد لهذا الشعب قدرا معقولا من تطلعاته ، ويساعده في تحقيق أهدافه الأخرى التي كفلتها له الشرعية الدولية . وبريطانيا تعلم علم اليقين ماهية هذه الأهداف من ألفها الى يائها ، وتعرف مدى مصداقيتها وشرعيتها ومشروعيتها .
وخلاصة القول إن المطلوب من بريطانيا " وعد " بإقامة دولة فلسطينية مواز للوعد الذي قطعته باقامة دولة يهودية في فلسطين ونفذته آنذاك بحذافيره . والفلسطينيون يدركون أن تصريح رئيس وزراء بريطانيا بخصوص الدولة الفلسطينية يظل مجرد تصريح تكتنفه الضبابية والغموض ، ما لم يتعمد إلى ربطه بالقرارات الصادرة عن الشرعية الدولية والمؤيدة قيام هذه الدولة وعودة الحق لأصحابه ، وما لم يتحرك بسرعة وبخاصة أن الشعب الفلسطيني يمر هذه الأيام بالذات بمحنة قد تضيف إلى مأساته أبعادا مأساوية جديدة . فإذا ما صدقت النوايا فإن رئيس وزراء بريطانيا يعرف حق المعرفة ما عليه فعله .