أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الفضاء المكاني في ديوان عز الدين المناصرة

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2008
    العمر : 60
    المشاركات : 8
    المواضيع : 4
    الردود : 8
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي الفضاء المكاني في ديوان عز الدين المناصرة

    الفضاء المكاني في ديوان عز الدين المناصرة
    د. عمر عبد الهادي عتيق
    مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة
    فلسطين جنين


    تبرز في الديوان ظاهرة حشد المدن الفلسطينية والعربية في نسيج رمزي يمثل أواصر القربى والمصاهرة والتسامح والفرح كما في قوله :
    القدس تصاهر بيروت
    بيروت توزع بسمات تسامحها في كركوك
    شجر الغوطة يرقص سكرانا في عمّان ( ج 1 ص 155 – 156 )
    يتكئ الشاعر على أسلوب الأنسنة فتبدو المدن جماهير عربية تجسد جذور العروبة ، وتصور أبعاد التآخي والتضامن ، ويحرص على التنويع في ماهية المكان ؛ فيأتي عاصمة ( القدس ، بيروت ، عمان ) ، و مدينة ( كركوك ) ، ورمزا جغرافيا مائزا ( شجر الغوطة دمشق ) ، ولعل في هذا التنويع المكاني تنويها للتفاعل الوجداني بين الجماهير العربية في عموم المكان العربي ، وقد يكون اختصاص القدس وبيروت بعلاقة المصاهرة يعود إلى سبب ذاتي ... أما بقية العلاقات الوجدانية فلعلها مرتبطة بأحداث في وجدان الشاعر وذاكرته .
    وحينما تتزاحم الأماكن الفلسطينية والعربية في مقطع واحد :
    قلبي يحدثني أيها السيد
    بأنني سأصبح دالية في الخليل
    او زيتونة في بيت لحم او مطعما بحريا في حيفا
    او أرزة في أعالي لبنان
    او كتابة في نصوص رأس شمرا
    او قلعة في الكرك
    سأتحول الى دالية تتشعبط أسوار مريام ( ج 1 ص 273 )
    تذوب الحدود السياسية وتتلاشى المسافات ، ويتحقق الحلم الوحدوي المنتظر ، ويستعين الشاعر لتحقيق هذا الهدف بالخصائص الرمزية للمكان ؛ إذ ينسب لكل مكان رمزه التاريخي والثقافي والسياحي ، فالدالية للخليل ، والزيتون لبيت لحم ، والمطعم البحري لحيفا ، والأرز للبنان ، والنقوش التاريخية لرأس شمرا ، والقلعة للكرك ، وبهذا يتحول المكان من الشكل الجغرافي إلى أيقونات رمزية قومية ، و من جسد جغرافي إلى نفحات تعانق روح الإنسان حينما يكون الرمز المكاني نباتيا ( الدالية والزيتونة والأرزة ) ، وإلى امتداد ثقافي تاريخي حينما يكون الرمز المكاني معلما تاريخيا ( النقوش والقلعة ) .
    وتوزُع قلب الشاعر ووجدانه بين هذه الأمكنة برموزها النباتية والثقافية يحمل في حناياه عشقا للأرض والتاريخ ؛ الأرض بسماتها الجغرافية الرمزية ، والتاريخ بعبقه وجذوره .
    ويتخذ تزاحم الأمكنة بعدا عالميا ، وتصبح العلاقة بالمكان إنسانية مجردة من المواصفات العرقية والخصوصية الجغرافية :
    خذ سفري في مدن الترياق :
    من مصر المحروسة
    حتى بيروت الصافية الأعماق
    من عمون الحب الأخوي
    مدى الدهر
    حتى موسكو... مايا كوفسكي
    ....
    من قلب اليونان البيضاء الدور
    حتى كريستال براغ – البلور( ص 61 )
    يستعين بالانتقال المكاني ( من -- حتى ) لتحديد البداية والغاية ،راسما خارطة سفر ذات اتجاهين ؛ تجاه يبدأ وينتهي عربيا ، وتجاه يبدأ عربيا وينتهي عالميا ، واللافت أن المكان العربي قد جاء منعوتا بعلاقات وجدانية ؛ فمصر محروسة ، وبيروت صافية الأعماق ، وعمون حب أخوي ... أما المكان غير العربي فقد جاء مجردا من العلاقات الوجدانية !! ولعل من اليسير أن نعلل هذا الاختلاف بأن المدن العربية تمثل انتماء وتاريخا ووجودا فهي ماثلة في الفكر والوجدان ، أما المدن الأخرى فهي ماثلة في حافظة الذكريات ، وشتان بين الانتماء والذكرى... ولا يخفى أن تحديد مدن عربية وعالمية دون غيرها يدل على أنها تمثل جزءا من مساحة المنفى في حياة الشاعر .
    وينسج الشاعر شبكة عنكبوتية بين الأماكن الوطنية والقومية والعالمية ، فيبدأ الخيط الأول من أقرب مكان وجداني – مسقط الرأس ( بني نعيم ) - إلى أقصى مكان في فضاء المنفى في قوله :
    أبدا من شتلات التبغ في حقول بني نعيم
    كي أصل مع الفجر
    الى دخان الشجارات في هارْلِم ( ج 1 ص 358- 359 )
    يصاحب هذا الانتقال المكاني الشاسع من فلسطين ( بني نعيم ) إلى هولندا ( ها ر لم ) قفزات زمنية تختزل ذكريات الطفولة وملاعب الصبا وآفاق الطموح من جهة ، وتحمل أثقال المنفى وتباريح الغربة والاغتراب من جهة أخرى ، فلا علاقة بين بني نعيم وهارلم سوى جمرة حنين يضيئها لهيب المنفى . وقد حرص الشاعر على الربط الفني بين المكانين من خلال العلاقة الدلالية الإيحائية بين التبغ في حقول بني نعيم ودخان هارلم .
    ويبدأ الخيط الثاني من مدينة الشاعر من أقرب غلاف جغرافي لمسقط الرأس .. من شغاف القلب ، من حارة القزازين في الخليل إلى محطة أخرى في قطار المنفى ؛إلى سنتياغو عاصمة شيلي :
    أبدا من حارة القزازين في الخليل
    كي أصل الى قيثارات سنتياغو
    وتنتهي دائرة الوطن في الشبكة العنكبوتية بعد مغادرته لمسقط الرأس وغلافه الجغرافي ( الخليل ) ويعود إليها مستأنفا فيما بعد ، ليبدأ الخيط الثالث في أول محطة منفى في مصر :
    أبدا من سور الأزبكية في الفسطاط
    كي أصل الى الحي اللاتيني في مفترق الضوء
    ولعل علاقة الشاعر بسور الأزبكية في مصر والحي اللاتيني في باريس ذات أبعاد رمزية على المستويين النفسي والثقافي ، فقد أصبح سور الأزبكية من كبريات المكتبات الشعبية البدائية في حين أن الحي اللاتيني إشعاع ثقافي مميز ، ولهذا فإن اختيار المكانين والربط بينهما يكشف عن جينات ثقافية في البناء المعرفي للشاعر .
    ويعود الشاعر في الخيط الرابع إلى أحضان الوطن دون أن يحدد معلما جغرافيا في فلسطين مكتفيا بالتعبير الكنعاني الإيحائي في قوله :
    أبدا من أسوار مريام الشمالية في كنعان
    حتى أصل الى كريت وروما
    والعودة إلى المسار الجغرافي الفلسطيني من جديد هي عودة عاطفية ، وكأن الشاعر لا يستطيع الاستمرار في بسط الشبكة العنكبوتية لمحطات المنفى دون أن يتزود بنكهة الوطن ، ونلاحظ أن السياق المكاني للمنفى في الخيط الرابع قد جاء مركبا ( جزيرة كريت وروما ) ولعل القرب الجغرافي والوشائج التاريخية هي مسوغ الجمع بينهما .
    ويبدأ الخيط الخامس من قرطاج لينتهي في أثينا في قوله :
    أبدا من قرطاج العدل وهمهمة الفرسان
    كي تستيقظ في قلبي أثينا
    يبدو الوهج الوجداني في هذا المسار الجغرافي لقرطاج أكثر عمقا وامتدادا من وهج أثينا ، فقد اقترنت قرطاج بوهج العدالة والفروسية وهما أثران مضيئان في الوجدان والذاكرة ، في حين أن الوهج الوجداني لأثينا خامل يحتاج إلى من يوقظه .
    وفي الخيط السادس تبرز البؤرة الرمزية المكانية في الشبكة العنقودية من خلال تناص تاريخي مكثف متتابع ، يستدعي مسارات زمنية متباينة الأبعاد في قوله :
    أبدا من حجر مؤاب وعهدة عمر
    ومواثيق حمورابي
    من فصل في كتاب الكاهن الكنعاني
    من جوقة عصافير في المسجد الأموي
    ومن زخرفة حرقوها في الأقصى
    حتى أصل الريح بالريح
    يبدأ المسار الجغرافي في الخيط السادس أردنيا من بلدة ذيبان ( الكرك ) من خلال حجر مؤاب الذي يفتح نافذة التناص الرمزي على المكان السليب والحضارة المغتصبة ، إذ إن حجر مؤاب ليس تناصا تاريخيا فحسب ، وإنما رمز لمعالم الحضارة العربية السليبة ، فقد استولى القنصل الفرنسي على حجر مؤاب وأودعه متحف اللوفر . ويعطف الشاعر على حجر مؤاب الذي أضحى مكانا مشعا بإيحاءات التناص وثيقةً حضارية مشبعة بالتناص الديني ( العهدة العمرية ) ، ويتابع الشاعر جمع المسارات الجغرافية في حزمة واحدة لتندرج شريعة حمورابي وحجر مؤاب والعهدة العمرية في نقطة انطلاق واحدة على الرغم من التفاوت الزمني بينها ليؤكد أن دلالات المكان التاريخي الحضاري تنصهر في حرارة الوجدان العربي وتضيء ناقوسا فكريا واحدا .
    ويقطع الشاعر المسارات المكانية بوقفة تناص مكثفة تستدعي قراءة متأنية من خلال قوله : (من فصل في كتاب الكاهن الكنعاني ) ، ثم يستأنف المسار المكاني من المسجد الأموي في دمشق ويعطف عليه تناصا مكانيا تاريخيا يحوي جريمة إحراق المسجد الأقصى ...
    ويبدو أن خيوط الشبكة العنكبوتية المكانية التي جسدت الوهج الوجداني للوطن ابتداء من مسقط الرأس ورسمت مسار المنافي قد اكتمل نسيجها وفق الدفقات الشعرية في هذا المقطع ، فانتقل الشاعر إلى المكان المطلق ( القارات ) في قوله :
    ان وجدتم سفنا تائهة تجوب القارات
    فهي مراكب جدي كنعان
    فالقارات تختزل مسارات المنافي لأحفاد كنعان ، وفي هذا الاختزال تفاصيل تتحدى راصدي أماكن المنافي . وينتهي المسار المكاني بالنبض الوجداني الذي بدأ به في قوله:
    أبدا من شراييني وقميصي الزراعي المشجر
    كي أصل الى قلب العالم
    فقد استهل المقطع مصرحا بمسقط رأسه ، وأنهاه ملمّحا موحيا ، وبين التصريح والتلميح تمتد مساحة العشق للوطن ، وتتوزع الذكريات على منافي العالم . وبين الاستهلال والخاتمة يتجلى الفرق في المستوى الفني ، ففي الاستهلال شفافية دلالية في قوله : ( أبدا من شتلات التبغ في حقول بني نعيم ) وفي الخاتمة كثافة استعارية وعمق فني في قوله : (أبدا من شراييني وقميصي الزراعي المشجر ) ، ولعل مسوغ الفرق في المستوى الفني أن إحساس الشاعر في حقول بني نعيم في مستهل المقطع كان تلقائيا عفويا فطريا مجردا من جراح المنافي التي تجسدت في الشبكة العنكبوتية المكانية وفي نهاية المقطع أصبح مثقلا مختنقا بغصة المنفى وهو إحساس يستدعي تركيبا استعاريا مكثفا ، إذ إن المستوى النفسي يتقاطع مع المستوى الفني في الخطاب الشعري .
    القدس خريطة ذكريات
    يشكل البعد المكاني خارطة ذكريات تتقاطع فيها ثلاثة أزمنة، فهو يعشق ماضيا ويكره حاضرا ويتمنى مستقبلا طاهرا من أوزار سايكس بيكو وسان ريمو ، مستقبلا تتوحد فيه جينات الأرض العربية لتلد وطنا واحدا في قوله :
    كنا نركب ظهر الشهباء صباحا من بيت المقدس
    حتى بغداد
    حيث نمر على بادية الشام
    ونعود الى القدس مساء لننام ( ج 1 ص 78 )
    يعشق ماضيا يستدعيه من جيوب الذاكرة حينما كان التنقل في الأرض العربية بلا حدود وجسور ومطارات ، ويمثل هذا العشق المستوى المعلن الحاضر للنص ، ويكره حاضرا ماثلا في وجدانه وحواسه ، مختنقا بالحدود ومثقلا بالاغتراب وتمثل هذه الكراهية المستوى المضمر الغائب للنص .
    وتمثل القدس في هذه الرحلة العصب الدلالي للعشق ، فهي نقطة الانطلاق ( من بيت المقدس ) ، والعودة ( إلى القدس ) ، وفي هذا المسار المكاني تكمن البؤرة الدلالية للعشق لأن القدس بوصلة لتحديد ملتقى الحلم العربي بالوحدة والمصير .
    وقد توسل الشاعر بأسلوب القفز المكاني في قوله : ( من بيت المقدس حتى بغداد ) ، ثم عاد إلى أسلوب الاسترجاع المكاني في قوله : ( حيث نمر على بادية الشام ) ، ومن المعلوم وفق المسار الجغرافي البري ان الوصول من القدس الى بغداد يقتضي المرور في بادية الشام ( الأردن ، سوريا ) ، ويكشف هذا القفز المكاني عن تسارع الدفقات الشعورية التي تختصر المسافات ، إذ إن عشقه للبعد المكاني في سياق الماضي حيث حرية الحركة والتنقل جعله يطوي تفاصيل الرحلة المكانية ويختصر المسافات ، ولكن حقائق البعد المكاني في سياق الحاضر حيث الجسور والحدود حولت الدفقات الشعورية المتسارعة إلى إحباط نفسي ( مضمر ) اقتضى التنويه إلى تفاصيل المسار الجغرافي البري .
    كما أن المسار الزمني للرحلة من القدس إلى بغداد ( الانطلاق والعودة ) في سياق الماضي يستغرق نهارا واحدا ، إذ إن عودة المسافر كانت تتم في مساء اليوم ذاته لينام في أحضان القدس ، وفي هذا المسار الزمني القصير تكمن دعوة الشاعر إلى الموازنة القائمة على المفارقة ، فالرحلة في سياق الحاضر من القدس الى بغداد – إذا استطاع المسافر الخروج من القدس – تستغرق أياما أو أكثر ، وإذا أضفنا إلى الفرق الزمني تفاصيل أخرى ... فإن رحلة العشق في سياق الماضي تتحول على رحلة عذاب وكراهية ومحطات معاناة .
    إن تحول البعد المكاني من سياق الماضي العشق والحرية إلى سياق الحاضر الكراهية والعذاب يمكن تجسيده على النحو الآتي :
    البعد المكاني في الماضي حرية الحركة ( عشق وطمأنينة )
    تسارع الدفقات الشعورية
    قفز مكاني نهار واحد ( المسار الزمني )
    البعد المكاني في الحاضر تقييد الحركة ( كراهية ومعاناة )
    إحباط نفسي
    استرجاع مكاني أيام .... ( المسار الزمني )
    القدس مسكونة بالروح :
    أما سيدتي القدس المسكونة بالروح
    فاسألني واسأل عهدتها العمرية
    واسأل أجراس كنائسها عن باب الواد ( ج 1 ص 188 )
    يختزل لفظ ( سيدتي ) عصارة المحبة والإجلال والتعظيم ، ولكن عبق العشق للقدس يكمن في الاختيار الصرفي لاسم المفعول في قوله: ( المسكونة بالروح ) ، ويعد هذا الاختيار من المثيرات الأسلوبية ، إذ إن المتلقي يتوقع أن يقول الشاعر : القدس تسكن الروح ، أو الساكنة الروح ، ولكن عدول الشاعر عن الفعل واسم الفاعل المتوقعين الى اسم المفعول هو انزياح من الدلالة المألوفة وهي بنية سطحية ( القدس تسكن او ساكنة الروح ) إلى دلالة مركبة ( القدس مسكونة بالروح ) وهي بنية عميقة ، وهذا يعني أن محبة القدس خالدة وإن فنيت أجساد محبيها لأن الروح لا تفنى ، كما أن الغياب القسري في المنافي لا يمنع الأرواح من أن ترفرف في أجواء القدس .
    وما دامت روح الشاعر هي التي تسكن القدس فقد أضحى جزءا من تاريخها ومعالمها ، لهذا جانس الشاعر بين الأفعال ( فاسألني واسأل) المتعلقة به والأفعال المتعلقة بتاريخ القدس ومعالمها ( العهدة العمرية وأجراس الكنائس ) ، ولأن الروح التي تسكن القدس أسمى من التصنيف الطائفي فقد جمع الشاعر بين التاريخ الإسلامي ( العهدة العمرية ) والمعالم المسيحية ( أجراس الكنائس )
    الخليل رمز الأنوثة ( رشاقة وخضرة وألوان زاهية ونكهة فاتنة ... )
    تتجلى الخليل نكهة أنوثة فاتنة ، ورشاقة ساحرة ، وألوان زاهية في قوله :
    يا بنات الخليل اللواتي يكسدرن في الكرم
    مثل الغزالات في المساء
    يا مساء الصنوبر ، مرتعشا في المساء
    يا صباح الثياب الملونة الفائرة
    يا صباح البياض المزركش بالخضرة الزاهية
    يا صباح الصدور
    يا صباح القرنفل فوق الثغور (ج 1 ص 307 )
    تتفوق ريشة الرسام على لغة الشاعر في هذه اللوحة الأنثوية ، إذ يتوسل بعنصري الحركة واللون لرسم لوحة غزلية حسية استمدها من حافظة السنين التي ما زال جمرها متقدا بالنشوة والأنوثة لبنات الخليل على الرغم من برودة المنفى وصقيع الغربة .
    وقد وزع الشاعر الإطار الزمني بين عنصري الحركة واللون ، فجاء المساء سياقا زمنيا لحركة الأنوثة من خلال ثلاثة مثيرات حركية ، حركة بنات الخليل في كروم العنب ، وحركة الغزالات ، وحركة ( ارتعاش ) أغصان أشجار الصنوبر ، وتتناغم المثيرات الحركية في تشكيل لوحة الأنوثة ؛ إذ إن تشبيه حركة (كسادرة ) بنات الخليل بالغزالات يوفر للوحة رشاقة الخطوات وبهاء القامة وإيحاءات أخرى يختزلها التراث الغزلي حينما تُستحضر أوصاف الغزالة في سياق الحب ، كما أن تخصيص حركة أغصان الصنوبر دون غيره من الأشجار يعود إلى دقة أوراقه ونعومتها ، وهما صفتان تتناغمان مع فتنة المرأة ورشاقة الغزالة .
    وهذه الصورة الحسية بمفرداتها وصياغتها لا تمنح الشاعر تميزا او تفردا لأنها مطروقة في أعراف الحب الحسي لدى الوعي الجماعي العربي ، ولكن التميز والأصالة في أبعاد هذه اللوحة يكمنان في اختيارين أسلوبيين ، الأول : الاختيار اللغوي ، فقد عمد الشاعر إلى اختيار اللهجة الفلسطينية ( يكسدرن ) بدلا من النظائر الفصيحة بهدف تجذير الصورة الأنثوية بواقعها الجغرافي من جهة ، ونشر ظلال السكينة والانتعاش في حنايا الصورة الأنثوية من جهة أخرى ، وذلك أن ( الكسدرة) في العرف الفلسطيني هي مشهد اجتماعي يعبر عن الاسترخاء والأمان ، كما عمد الى اختيار لفظ ( مرتعشا ) للدلالة على حركة أغصان أشجار الصنوبر في سياق الوصف الأنثوي دون غيره من الاختيارات اللغوية المتاحة للدلالة على التجاوب والتجاذب والتأثر والتأثير بين خطاب الأنوثة ( الخصوبة والرشاقة والفتنة ) والمتلقي سواء كان المتلقي هو قارئ النص في أي زمن او كان المتلقي هو الشاعر ذاته حينما تلقى أو استحضر صورة المرأة الخليلية من حافظة الذكريات وخلع عليها تلك الأوصاف الحسية . والثاني : الاختيار الزمني ، إذ عمد الشاعر إلى اختيار المساء للصورة الحركية الأنثوية ، ويشكل هذا الاختيار انزياحا أسلوبيا ، لأن المساء في الوعي الجماعي أقرب إلى السكون ، ولكن المساء في الصورة الأنثوية حافل بالحركة والحيوية والرشاقة .
    وجاء الصباح سياقا زمنيا للصورة اللونية التي تفيض عشقا ونشوة فكم من دلالات الخصوبة يختزلها قوله : (يا صباح الثياب الملونة الفائرة ) وما مدى مساحة حرية التخيل التي يمنحها الشاعر للمتلقي القادر على إسقاط القناع الدلالي عن الثياب الفائرة ؟
    وأسلوب العموم في الصورة اللونية لا ينهض بما يمور في وجدان الشاعر من دلالات اللون على الأنوثة والخصوبة لذا تحول من سياق العموم في قوله : ( الثياب الملونة الفائرة ) إلى سياق التخصيص والتفصيل في قوله : ( البياض المزركش بالخضرة الزاهية ) ، ويتناغم هذا التحول مع التجليات الحسية للأنوثة التي تتخذ في كل لون شعورا مختلفا ونكهة خاصة وعبقا متميزا .
    وتحول من الإشارة البعيدة لخصوبة الجسد في وصفه للثياب الملونة الفائرة إلى ملامسة و معاينة خصوبة الجسد في قوله : ( يا صباح الصدور ) .... ولكن هذه المعاينة الحسية سرعان ما فترت وتيرتها في قوله : (يا صباح القرنفل فوق الثغور )
    والخليل رمز يختزل الحق التاريخي في فلسطين ، ويقلب صفحات التاريخ ليضيء سواد صفحة التقسيم في قوله :
    خذوا شجر العنب والبرتقال الذي في كتاب النصوص
    واتركوا لهم الساحل ، قال لي
    فتعاركنا بالأرجل
    شعرت أن الخليل تقترب مني في تلك الليلة
    كان دمي ينزف
    الصحف تغطّ ريشها في الأرجوان
    تكتب المانشيتات العريضة .
    حين صحوت وجدتُني في الباحة يركلني الجنود ( ص 173 – 174 )
    لم تعد الخليل مدينة الشاعر فحسب ، بل هي فلسطين التاريخ والجذور الكنعانية ، وحضور الخليل دون غيرها من المدن الفلسطينية في سياق الحوار الساخن الذي تناول قضية التقسيم هو حضور وجداني استدعته الحالة التي آل إليها الشاعر الذي ضُرب حتى نزف دما بسب رفضه قرار التقسيم ، فحينما تشتد معاناة الإنسان وتبلغ القلوب الحناجر فإن أقرب الناس وأقرب الأماكن إلى القلب يتسابقون إلى الذاكرة والوجدان ، وتُختزل الأماكن كلها في مكان واحد ، فمن المألوف أن تشرق الخليل وحدها في الذاكرة وتناغي وجدانه وهو طريح بين أرجل الجنود ينزف دما .. إن الغيبوبة التي انتابت الشاعر تثير عشق الإنسان للمكان في اللاوعي ، وتكشف عن أسرار الباطن التي لا تتجلى إلا في حالة الصفاء الروحي.
    البعد الرمزي لخلاخيل النساء في جنين
    عشقه لمدينة جنين لوحة عنقودية ينصهر فيها الحزن والفرح ، ويمتزج فيها الصوت واللون والنكهة :
    أكاد أشم خلاخيل نساء جنين
    يغنين عريسا في المنفى
    جسدا مصفرا
    صورته تبتسم على الحيطان
    صورته صارت أرزا للشعراء
    وقمحا للفقراء ، وحزبا أخضر للشعب المنكوب ( ج 1 ص 439 )
    هل نسمع عويلا في مأتم أم غناء في حفل بهيج ؟!! وهل نحن بين يدي شهيد مسجى أم رمز معشوق وقائد أسطوري ؟!!
    يتخذ الشاعر من جنين إطارا مكانيا مشبعا بالإيحاءات ، ويعمد إلى تفكيك العلاقات المألوفة والدلالات المأنوسة ليخلق علائق ووشائج جديدة ، فالنساء في جنين لا يتشحن بالسواد ، ولا نسمع لهن عويلا ، فقد تحول البكاء إلى غناء ، والشهيد إلى عريس !! ويمعن الشاعر في تفكيك العلاقات المألوفة وهدمها من خلال الصورة الجمالية الأنثوية في قوله : (أكاد أشم خلاخيل نساء جنين ) ، فليس من المألوف أن تلبس المرأة خلخالا في مقام الموت ولو كان الميت شهيدا ... كما أن الفعل ( أشم ) الذي يمثل انزياحا دلاليا يضاعف مساحة التفكيك والهدم الدلالي ، لأن الفعل ( أشم ) يضفي على مشهد الموت ظلال أنثوية ... ولكن إذا نظرنا إلى الغاية من تفكيك العلاقات المألوفة وبناء علاقات جديدة نستطيع أن نتفهم ونستسيغ ظهور الصورة الجمالية الأنثوية .. فالشاعر يرمي إلى تخليد بطولة المرأة الفلسطينية في جنين ، هذه البطولة التي تصمد أمام عواصف الموت فتتلقى الشهيد بالغناء وهي بطولة لا تنسلخ عن مقومات المرأة بأنوثتها وخصوبتها وزينتها .. أما لماذا اختار مدينة جنين لهذا البعد الدلالي لبطولة المرأة فأزعم أن إطلاق العنان لمخيلة المتلقي وفتح نافذة التوقع أجدى من محاولة الإجابة ....
    أحضان مصر
    ينبعث من حي الحسين دفء يقاوم برد الغربة وأنس يبدد وحشة الأحزان في قوله:
    ذلك المقهى الذي يقبع في حضن الحسين
    جئته في ليلة غامضة الأسرار كي أدفن أحزاني ( ج1 ص 59 )
    يدل اسم الإشارة( ذلك ) على المسافة التي تفصل الشاعر عن حي الحسين ، وعلى الرغم من بعد المسافة إلا أن الشاعر يأتيه ليدفن أحزانه فيه ، ولا يخفى عبق الأنس والسكينة في قوله : (حضن الحسين ) الذي يكتسي ظلالا روحية .
    إن ارتباط الإنسان بمكان ما لم يعد انتماء جغرافيا أو وطنيا بل أضحى حالة نفسية وجدانية فليس غريبا أن يلوذ الإنسان بشجرة أو صخرة أو مغارة ،يجد فيها ما لا يجده في مكان آخر ، وليس من اليسير تحديد أسباب جاذبية المكان للإنسان ، فقد يكون السبب ذاتيا خالصا لا يدركه غير صاحبه ، وقد يكون سببا كامنا في صدى الأصوات المنبعثة أو في عبق المكان.
    البحر الميت في الخارطة ... الحي في الوجدان
    تبرز البحار والأنهار خفقات وجدانية في الفضاء المكاني ، ويشغل البحر الميت مساحة مائزة في الديوان ، ويبدو ( الميت ) حيا معشوقا تربطه بالشاعر علائق عشق وعهد وذكرى خالدة ، ففي قوله :
    إن أنا تجاهلتك أيها البحر
    فليذوبني حنين الحمام ( ج 1 ص 319 )
    لم يعد البحر الميت معلما جغرافيا في جسد الخريطة الفلسطينية ، بل أضحى مرجعا روحانيا يستمد منه التراتيل الكنعانية وسندا تاريخيا يلوّح به في وجه الغاصبين .
    فالشاعر يقطع عهدا بالوفاء والوصال الأزلي بوساطة أسلوب الشرط الذي حوى طرفاه استحالة التجاهل والنسيان ، فعاقبة النسيان المستحيل؛ أن يذوب أو يموت حنينا للبحر ، ويحدد الشاعر موقع البحر الميت تحديدا جغرافيا وجدانيا حزينا :
    يقع البحر الميت بين برية كنعان
    وجبال قلبي التي تصل الأرض بالسماء
    منكسر الروح
    مسجى كشهيد قديم ، جرحه اخضر( ج 1 ص 330 )
    قد يكون امتداد برية كنعان من شاطئ البحر الميت إلى جبال الخليل ، أو من الشاطئ إلى أرض كنعان كلها ، وفي الحالتين تبقى جبال القلب مركّبا استعاريا يتعانق فيه رحيق الحب مع أجنحة الروح في فضاء بين الأرض والسماء . وسرعان ما يتحول فضاء الحب إلى فضاء جنائزي يرتسم فيه طقس سياسي يصور البحر تحت الاحتلال شهيدا مسجى لم يقو الزمن على تجفيف دمه الأخضر .
    وينشئ الشاعر أواصر قربى بينه وبين البحر الميت ، ينبعث منها دفء القرابة وحرارة الدم :
    أنا حفيده الوحيد
    دموعه من دموعي
    ابكيه كشهيد
    كشجرة زرعتها في غبار ضلوعي
    فاقتلعوها في ليل الليل
    هو جدي وشقيق روحي
    .....
    لقد طوبته
    في دائرة عقارات الكنعانيين ( ج 1 ص 336 )
    والأنا في قوله : (أنا حفيده الوحيد ) هي أنا الفلسطيني ، والأحفاد هم سلاسل الأجيال ، ونعت الحفيد بالوحيد هو إبطال لزعم الآخر في حقه وملكيته للبحر الميت

  2. #2
    الصورة الرمزية د. نجلاء طمان أديبة وناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : في عالمٍ آخر... لا أستطيع التعبير عنه
    المشاركات : 4,224
    المواضيع : 71
    الردود : 4224
    المعدل اليومي : 0.68

    افتراضي

    أسجل غاية إعجابي بالخيوط المكانية التي تناولها الدارس في دراسته للديوان, كما أشيد بالجهد المضني الذي بذله لمحاولة ربط الحالة النفسية للشاعر بالحالة المكانية واللفظية في الشعر .

    للدارس والشاعر جل التحية

    يرعاكما الله
    الناس أمواتٌ نيامٌ.. إذا ماتوا انتبهوا !!!

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2008
    العمر : 60
    المشاركات : 8
    المواضيع : 4
    الردود : 8
    المعدل اليومي : 0.00

    افتراضي

    بسم الله الرحمن الرحيم

    وأنا أيضا أسجل شكرا موصولا للدكتورة نجلاء طمان على روعة وصفها للدراسة

    مساؤكِ قناديل فرح

المواضيع المتشابهه

  1. أحمد المناصرة
    بواسطة عمر ابو غريبة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 28-03-2020, 12:52 AM
  2. التناص والتلاص في الموروث النقدي - عز الدين المناصرة
    بواسطة عبدالصمد حسن زيبار في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 13-07-2010, 02:42 PM
  3. دلالة جفرا في ديوان عز الدين المناصرة
    بواسطة عمر عتيق في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 26-11-2008, 07:21 PM
  4. لا تعترف للشاعر الفلسطيني بسام سالم المناصرة
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 14
    آخر مشاركة: 19-08-2006, 05:14 PM
  5. قصيدة: (في القلب عزّ الدين) - رثاء للشهداء
    بواسطة أيمن العتوم في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 13-04-2005, 01:18 PM