ثوابت القضية
ليست ثوابت القضية الفلسطينية تلك التي بات الحديث يدور عنها تحت مظلّة مدريد وأوسلو وأخواتها، وكأنّ ذلك أمر بدهي لا يحتاج إلى نقاش.. فهذا يقول عودة اللاجئين، وذاك يؤكّد مسألة القدس الشرقية، وثالث يضع تفكيك المستعمرات اليهودية الحديثة في موضع الثوابت.. بل هبط من هبط بعنوان الثوابت ليربط مصير القضية ببعض الأشخاص أو بعض المنظمات، بدلا من أن تكون الثوابت هي المعيار لقياس الأشخاص وإنجازاتهم والمنظمات وسياساتها أيا كانوا وكانت، وتقويمهم وفق ما تخدم الثوابت أو تنتقص منها.
"الثوابت" ليست شعارات قابلة لتغيير مضامينها وصياغاتها حسب الظروف.. وليست ملكا لفريق من الساسة أو المنظمات يكيّفونها على حسب اتجاهاتهم أو ظروفهم هم.. فهذا ما يتناقض مع ما تعنيه هذه الكلمة تاريخيا وسياسيا ومنطقيا، بل ولغويا أيضا..
التحرير.. لا ينقلب إلى حبر وورق وخارطة لمقاطعات ألف وباء وجيم..
وتقرير المصير.. لا ينقلب إلى وصاية زعيم أو منظمة
والحقوق التاريخية المشروعة.. لا تنقلب إلاّ بنود في اتفاقية أو قرار سيّان من يصنعها أو يصدره
والشعب.. لا ينقلب إلى "بقية" منه ممّن استطاع البقاء في الأرض
والأرض.. لا تنقلب إلى دويلة ممسوخة
هذه الثوابت وأمثالها لا تنقلب بجرّة قلم أو زلّة لسان أو انحراف إنسان من حالتها الأصلية، إلى أشكال كاريكاتورية هلامية، يتفنّن في صياغتها من يشاء كيفما يشاء، من بلفور إلى بوش أو ممّن استجاب لما أراد بلفور يومذاك إلى من يستجيب لبوش هذه الأيام!..
الثوابت ثوابت.. لا تسقط بالتقادم، ولا تتغير وفق إرادة ساسة محترفين وآخرين هواة، ولا تحت القصف والحصار، وبتوقيع من لا يملك حق التوقيع، وتصريح من لا يملك حق التصريح، سيّان من كان، فالحق للشعب، والشعب وحده، والشعب بكامل فئاته، ولا يتحقق التعبير عن الشعب، دون تصويت في استفتاء مضمون الإعداد والتنفيذ والنتائج، وبآليات تضمن عدم وقوع أي شكل من أشكال الإكراه والتزوير والتزييف، كما تنص المواثيق الدولية، ولا يتحقق شيء من ذلك ما دام العدوان.. أي القصف والحصار والتجويع والتشريد وسائر ما يصنعه الاستعمار الاستيطاني والاحتلال التوسعي.. ولا يتحقق أيضا بطريق الوصاية من جانب أي جهة من الجهات، وإن زعمت ذلك أي جهة، فإنّ مشروعية وصايتها تتحقق أو تضمحلّ بمقدار تمسّكها هي بتلك الثوابت، وليست الوصاية لا سيما تلك المفروضة فرضا على الشعب "من أجل" تغيير الثوابت.. مع الزعم أنّها تصنع ذلك باسم الشعب!
ولقد أصبح تمييع الثوابت أو قتلها هو "الرسالة" التي تؤدّيها تلك الحملة المكثفة على الصعيدين السياسي والإعلامي علاوة على الإجرام العدواني العسكري، وبلغت كثافة هذه الحملة درجة تجعل حتى من يعارض هذه الخطوة الجزئية أو المرحلية أو تلك، من مثل أوسلو أو جنيف، ينزلق..
- من ضرورة تعليل رفضها باعتبارها (خطوة من خطوات متوالية) جميعها مرفوضة على طريق التصفية المرفوضة ابتداء.. جملة وتفصيلا
- إلى تعليل رفضه لها باعتبارها تناقض هذه المسألة الفرعية أو تلك، مثل "حق العودة" أو "شرقي بيت المقدس" أو تناقضها جميعا.. وهي جميعا فرعية، مهما بلغت أهميتها، هي فروع من جذور القضية المصيرية.. وإنّما أصبحوا يطلقون عليها وصف "ثوابت" لتكون بديلا عن الثوابت الأصيلة!..
إنّنا في حاجة إلى هزّة فكرية عنيفة تقضي على ما صنعته عملية غسيل الدماغ الجماعي المواكبة منذ عشرات السنين لِما يسمّى المسيرة السلمية، لنعود بالقضية إلى مكانتها الأصيلة:
- قضية مصيرية ليس لشعب فلسطين فقط، بل على صعيد المنطقة بأسرها
- وقضية "اغتصاب استيطاني استعماري عدواني توسّعي" مقابل طريق المقاومة المشروع لاسترجاع الحقوق بكاملها، تحريرا للأرض بكاملها، وللشعب المستعمَر والمشرّد بكامله، وللإرادة السياسية والشعبية بكاملها.
كل ما هو دون ذلك إنّما هو من صنع منحدر التنازلات.. ولا يمكن تسميته ثوابت، حتى وإن بلغ الأمر بالساسة والسياسيين مبلغ التوقيع على اتفاقيات "استسلامية"، طواعية أو كرها.. فالفارق كبير بين التصريح بالعجز.. ما داموا متشبثين بموقع الزعامة، وبين تزييف القضية نفسها وتسمية القليل الذين يحصلون عليه "نصرا" أو "حنكة سياسية" أو "سلاما عادلا" أو استرجاعا للحقوق الشرعية.. أو ما شابه ذلك من المسمّيات المخادعة شكلا ومضمونا..
----
لعودة إلى الثوابت في طرح القضية ومواكبة الأحداث، هو محور الحديث في مقال:
خواطر في قضية مصيرية..
(عندما تنحرف الواقعية عن الثوابت )
في مداد القلم