عسعسة نهار
للأديبة انتصار عباس
المكان: وادي رم
الزمان: أوقات مختلفة من الليل والنهار
الشخصيات :
مقدار
مصدع
الشيخ
سالف
العرافه
عنيزه
صدَوق
آخرون
جارية
الأصوات
القوم الذين يسكنون الخيم
-امرأة
-رجل
-مغني
-بدو (4)
-رجال
-امرأة لعوب
-خيم
المشهد الأول:
*المكان: وادي القمر (وادي رم)
طريق رملي ممتد، تحيطه الجبال الشاهقة، حيث امتدت خيام أسفل الوادي
الزمان: ساعة الظهيرة
(*رجل مهلهل يسير على غير هدى، يتهاوى في مشيته، يلف جسده بقطعة قماش (خرقة) ممزقة بالكاد تستر عورته،.. أجرد الصدر والرأس (أصلع) محني الظهر لطول قامته، عريض المنكبين.. بدا على وجهه التعب والإعياء الشديدين.. ...)
*صوت يتردد يشبه خرير الماء.. حفيف الشجر، هسهسه برية.. بدا خافتاً وبعيدا...
يعكز في الرمل... يا الله... يا الله! ما هذا الصوت الذي يجري، ....يستبعث القلب نبضه.. يزهر في الرمل .. يستيقظ الماء ..ينفث مزامير الروح ... .. يا الله. .يا الله .. ( ينظر السماء )
يتردد في التلابيب .... في أوصالي وشراييني.. .يعّرش حياة .. يتوحد في الزمان والمكان .. وفي الوجود .. أيها الصوت (ينادي بأعلى ما فيه) من تراك تكون..؟! ومن أين جئت؟! ولِمَ أتيت .. وكيف... ومتى؟! وإلى أين ستأخذ بي؟! أيها الصوت...
يختفي الصوت...
إنك تستبسل فيّ الحياة.. أيها الصوت.. اقترب وأمطرني بروائح الحياة... وزفير الماضي... أيها الصوت زفني الجسد الموات.. فقد حانت ساعته..
(يعود الصوت يتردد صوتان – صوته والصوت الآخر)
صوت.. رفرفة..
دبيب
أزيز
هدير
طنبن
نهيق
عويل
لهاث
صراخ
وشوشه
هسهسه
يرفع رأسه... أيها الصوت .. لا تخف ( يهمس كنت زمنا صوتي ) اقترب .. اقترب
تثقب الريح الجسد ، تصفق الغطاء الذي يلفه، يتصاعد الدخان والضباب... يستنشق الهواء (يحادث نفسه): كم أشتاق لصدري وهو يعلو ويهبط.. للهاث، لسعال..
يجول بعينيه المكان.. يتبعه صوت الحصى وأطياف الرمل والريح...(يتلمس الصخر كأنما أم حنون تستيقظ ابنها وقد أبى أن يغادر فراشه) :- ألم يحن الوقت بعد؟!
لا حراك... يهز رأسه بأسى.. ويُكمل... (يعود ليحادث نفسه والطريق): أي نزف خلفناه خلفنا ؟! تطل الوجوه من الصخور، ترقبه كيفما دار... يعيد السؤال :-
ألن تخرجوا.. أما زلتم على طغيانكم..؟! ويحكم..(وحيداً وهذا الموات... منْ تراه يحصد شوق المطر، وقد سال العمر على حين فجأة واندثر، يواري القلب في زقاق الجسد، مستبيحاً روحه للحياة؟!
الحياة.. الحياة.. الحياة ( يردد بلا وعي )
يداه تتلمسان جسده.. تنتابه حالة هستيرية من الضحك والبكاء في آن واحد ..يشير إلى الصخور.. تلدينني كما تلد النساء ، فأخرج كما الوليد.. الفرق بيننا، ذاك مغسولاً بالدم والحياة. وأنا مغسولاً بالموت واللعنات...
آه ما أشقاني... ما أشقاني... آه.. (بألم وحسرة )
يتهاوى على الأرض يسمع صوت.. دق دقه.. دقه.. دقه.. دقه ثم طقطقة طق.. طق... هسهسة... هسهسه .. هسهسه .......
يرفع رأسه بوجل. وخشوع
صوت خربشات في العشب..
عواء..
نقيق
لهاث
ولولة ريح
نبضات ماء
يبقى على صمته وخشوعه... تسكت الأصوات، يدفن رأسه بيديه.. صوت قهقهة... يبق مطأطأ الرأس مكذباً سمعه...) يتعالى صوت صراخ.. (يجعل أصابعه في أذنيه... ويركض... يركض .. الأصوات تتبعه.. تتكاثر
نحيب
قهقهات
خيول تجري..
مياه تتدفق
يصيح: أيها القوم.. أيها القوم...
يعدو.. وتعدو الأصوات خلفه... يتوقف.. تصمت... يتابع سيره... أيدي تشده للخلف.. تلكزه خاصرته...تناوش وجهه ، رأسه ..و كل ما فيه .... يدور حول نفسه .. ما من أحدٍ سواي..( وبصوت حزين ) أيها الجسد الظنين .. أيها الجسد الظنين.. ما عاد فيك مني غير هذا الوهم .. عد من حيث أتيت ، يتلمس رأسه كيف لي أن أعود ؟! (يحادث الصخور ) أيتها الحجارة خذيني .. وضمي هذا الجسد الرّعاش .. أيتها الصخور ..(صراخه يقطع كل صمت ) صوت أزيز يدور حوله
أيدي تهزه...
يصيح أيها الموات.. أيها الموات... أيتها الحجارة... كنا رفقاء.... إخوة...
تسكت الأيدي... ينظرهم بألم وحسرة..( يصيح بأعلى صوته..) إرم استفيقي... إرم استفيقي.. واتركي الكفر والعصيان.. فصوت الله في كل زمان، ومكان.. استفيقي... لا تخشي شيئاً.. إن الله معنا... يركع... الرحمة يا الله... الرحمة... يا الله... يا الله...
يعود الصوت...
هسهسه
عسعسة
خربشات على العشب
طرطقة
يسري الصوت في مفاصله .. يطرب لحاله ويسير...
يشد الغطاء إلى صدره العاري..( يحادث الصوت ):
-لِم لا تخرج يا رفيق... على هذه الأرض ننشر ظّلينا نشارك هؤلاء... (يشير إلى القوم الذين سكنوا الخيم
صوت: لكنك بلا ظل...لكنك بلا ظل
(يتردد صدى الصوت): لكنك بلا ظل... بلا ظل
يخر مغشيا عليه ... لا يقوى على الحراك .. على الكلام...!
المشهد الثاني:
يتحرك سكان الخيم ، ترسم ظلالهم الأرض.. ترقص الناس.. فترقص الظلال... تتضاحك... فتضحك... تبكي ..فتبكي..
(ينظرهم بأسى ) :- كنا وظلي ذئبين نتغوغل في الطرقات، نذبح الورد، ونشرب دمه.. نتجول في الريح الضالع في ورق المدى.. نصطاد نهارات الفضة.. في غزالات الرؤى... نتعب . نطعم الأجساد للعليق... ونمضي...، تتفتح الحياة في قراطيس الجسد الغض.. تتوجس في الدماء خفة .. وفي الجسد الحركات.... تتلون فينا حياة .يسكننا الشموخ .. ننحت في الجبال بيوتاً... وقصوراً...
وكنا لما يموت قرص الشمس، نشعل النيران ، ونرقص نرقص طويلاً... طويلاً، فإذا ما حالت علينا العتمة وفتكت بنا، أوينا إلى بعضنا، نشلح أجسادنا.. نضيء المكان.. يشح زيتنا، نتلحف الظلام وننام... نصحو، نسرق الشمس نهاراتها، فيسبقنا ظلنا، نتبعه، يتوارى والنهار، نعدو خلعه، تفاجئنا الحياة.. فنترصد لها.. ولا ندري.. أننا عربات في غيهب الأيام نجري ... (يأخذ نفساً عميقاً) أيه كنا.. وكانت .. ولّى كل شيء، وذهب إلى غير رجعة..
يتردد صوت
ولولولة ريح
هسهسة
أزيز
وشوشة
صفير
عسعسات فجر
همهمه
يسير بخطى ثقيلة.. يتفحص خطاه على الأرض .. فلا ترتسم.. يعب نفساً عميقاً... يستجمع أنفاسه، ينفخها في الهواء.. بروده تلسع شفتيه.. لا يشعر بأنفاسه... يداه في الهواء ترتجفان...( تراني شبح؟ يساءل نفسه)
يحادث ما حوله : أيها الرمل .. لا تأخذ بصري ، وأوقد بصيرتي ..
أتوجس ظلي فيك... (يهمس محدثاً نفسه) هذا يعني أنني في الحياة أموت.. وفي الموت أحيا...!
المشهد الثالث:
المكان: تلة رملية مطلة على الوادي
الزمان: ساعة العصر
*يجلس على تلة رملية يرقب الناس.. يروحون ويجيئون.. يتراقصون.. صوت دندنات المغني على العود.. قهقهات تتردد هنا وهناك.. وشوشات... أحاديث جانبية..
يضع يديه على فمه يصيح بأعلى ما فيه...
هيه يا أنتم..يا أنتم.. يسمع صدى صوته يرتد إليه... يبتهج... يعود للنداء.. يا أنتم.. يا أنتم...
أعطيت حياتي للطاغوت.. فانظروني (يشير إلى الصخور) يتقلبني السمع والبصر.... وأنا ساكن لا أقدر على الحراك.. كحجر ، وها أنا ذا بينكم .. لا أدري كيف.. ولِم ...لكنني وجدتني هنا .. يا قوم جاءني صوت لا أدريه( يردد بحيرة) لا أدريه ، ودعاني لأخرج.. كما الوليد يخرج من بطن أمه... وها أنا ذا... أتوجس فيكم نبض دفيئ
يصمت قليلاً.. مطرقا رأسه ثم يكمل , وإني من أجلكم لحزين ..
يرفع يديه للأعلى.. يا الله كنا طغاة، جاحدين.. أخذتنا خلياؤنا بأنفسنا.. وبتنا من القوم الظالمين.. ياالله لا تغرنهم بأنفسهم .. فيصبحوا من النادمين ، الرحمه يارب .. الرحمه يارب ..(يتردد صوت الماضي.. الإعصار، الصيحة..، الريح.. الزلزال.. الحجارة... الأرض تدور... ينكمش في مكانه.. وقد تكوم كحجر..)
تمر برهة من الوقت وهو على هذه الحال...
يتردد صوت
هسهسة
رفرفة
نهيق
شهيق
وشوشات
يصحو.. أكثر اضطراباً .. ظمآن... يدور حول نفسه إني ظمئ... أنا حي إذن... أنا حي... يرفع يديه للأعلى.. الشكر لله... الشكر لله...
صوت طرطقة.. دبيب.. يرفع رأسه بحذر متجاهلاً الصوت (يسائل نفسه) انّى لي بالماء..!! فـ البئر بعيدة... ينظر للأعلى.. أأصعد الجبل مرة أخرى.. ما أشق هذا على نفسي... وجسدي خوار لا يقوى على الصعود والهبوط..؟!
( يصعد الجبل باحثاً عن البئر... يلهث... يدور في المكان ، يبحث عن البئر)
(صخرة كبيرة مكان البئر)... تختقه الدموع.. يصيح بأعلى ما فيه:.. بئر ثمود..بئر ثمود .. لبستك اللعنة ! ما أشقاكم بنو قومي .. وما أفزع حالي !
يزداد نحيبه... أين الديار.. والقصور التي كنا ننحتها.. الحدائق.. البساتين... أين كل هذا؟! كأننا لم نكن .وكل ما حولنا ،كان مجرد عاصفة ثلجية أذابتها إحدى الصباحات الدفيئة.. وانتهينا...! يمسح دمعه بيديه ينظر صدره الأجرد.. (يحادثه) كنت حقل بيلسان وسنابل.. غدوت يبابا...!
صوت امرأة ينادي: مصدع... مصدع...
يجفل.. يرتجف قلبه.. من تراه يعرفني.. يراني.. إن كنت لا أراني..!
يعود الصوت: مصدع.. مصدع
(ينصت للصون القادم) محادثا نفسه : - إنه صوت امرأة.. وهو ليس بالغريب! من تراها تكون...
لا تسكت المرأة عن النداء: مصدع.. وقد ازدادت اقتراباً
يقطب حاجبيه... ثكلتك أمك يا مصدع! ثكلتك أمك.. ويسقط مغشياً عليه...
تهزه: مصدع... مصدع...
يفتح عينيه.. صّدوق..!! )فاغراً فاه لشدة الدهشة)
-: هذا الاسم لا يعنيني بشيئ!!(وقد تغيرت نبرات صوتها لتصبح أكثر حدة وصرامة)
يهزها: صدّوق من أودى بالقوم إلى التهلكة؟! صدّوق التي قدمت نفسها ثمناً للطاغوت... صّدوق الشقاء.. المعصية... اللعنة!!
يقبض على عنقها يحاول خنقها.. كنت من أشراف القوم.. وأعظمهم نسباً.. وها أنا ذا انظري حالي.. مصدع بن مهراج تفتك به غواية امرأة...
تصرخ مستغيثة.. يا قوم.. يا قوم...
تهب نحوهما امرأة... محاولة إبعاده...
يمد يده الأخرى.. محاولاً ا مساكها من شعرها...مرحى بالطاغية الأخرى
تصرخ المرأتان...
يردد أنتما شقاؤنا...!
يد تربت على ظهره.. دعهما...(وبصوت أكثر رقة وحنانا) دعهما يا أخي ..
يلتفت نحو الصوت: قدار!!
نعم قدار: الشقي الأخر.
مصدع: بل قل الشقيان... ما أشقانا... بهاتين الطاغيتين (ينظر المرأتين) :- ما الذي أيقظكما؟!
-صدوق: الذي أيقظكما.. أيقظنا!!
قدار: سمعت صوت يشبهني..
عنيزة: وأنا كذلك...!
صدّوق: وكأني رأيت لي قرينا...
مصدع: بالأمس لازمت قريني( يصمت لبرهة ) أخذه النعاس مني ، فتركته لينام ..
قدار: كان عليك أن تتلبسه، فتغدو في صحوه ونومه ...
مصدع..(ينظر الصخور بحزن): لم أستطع مفارقتها... وقد وطنت روحي المحبة.. والقدرة على الاحتمال.. والصبر... (يحادث قدار) أترى كل هذه الصلابة والقسوة ما هي إلا قشرة ، تخبئ روح شفافة.. رقراقة ، تغزوها الفصول ، لفحات الشمس الوقادة ، ضربات الريح ، وخز المطر،صفعات العواصف ، لطم الصقيع ، وقسوة الإنسان .. فتهيج مدامع قلبها وتخرج أجاجا ، تسبح
الله، تروي الظامئين ، وبهائم الأرض وزرعها ، والتراب .. وها نحن نخرج منها كما الخير...!
(عنيزه تهمس لصدّوق هذا مصدع لا أكاد أعرفه )
ينظر مصدع المرأتين (عنيزة وصدّوق): إني لا أستطيع عليكما صبرا (وقد تغيرت نبرات صوته لتصبح أكثر صرامة.. تهدد) فلتسلكا درباً غيرنا وإلا...
صدوق: لو لم تكن ضعيفاً.. لِم أتبعت غوايتنا... أين تراه كان قلبك... وأين غاب عقلك.. وأنت ترمي الناقة ؟!
عنيزة: كفاكم.كفاكم . كلنا آثمون ..
مصدع : أنسيت كل ما قدمته في سبيل غوايتنا !
يقاطعه قدار: نسأل الله الرحمه...
مصدع يبكي: كنتما أنيستا روحيّنا... ومأوى جسدّينا.. ومليكتا قلبّينا.. انظرا حالنا.. شاخ القلب.... وبلّى الجسد... ذهب ما فينا.. وبقيت الأصوات تدل علينا...
تصمت المرأتان..
صدوق بحزن وألم شديدين: لنا الله.. يدلنا الدرب..ويخرجنا من هذا التيه .. اذهبا.. وحده يسعدنا.. ويشقينا... ولولا غفرانه لِم رأيتمانا هـ هنا..
صوت القوم يهللون...
قدار: انظروا.. إنهم قادمون.
شاخت الوجوه القادمة...وقد حنت الظهور... أين تلك الأجساد الفارعة، وتلك الرؤوس المتعالية في الأعالي... ينظر قدار ومصدع القوم... وقد أيقظت رؤاهم فيهما شهوة البكاء..
يسرع أحدهم خطاه يسبق القوم ويدعى سالف..
يا قوم.. يا قوم... جاءني صوت يكاد يكون صوتي... ودعاني لأخرج .. تحسست الصوت... شلال الشوق تغوغل بي... ينفث فيّ الحياة ... فنهضت، وضأت فيه روحي..فعطر الآفاق..ولم يكتفِ مشى على وجهي.. طاف جسدي...هام بي .. وهمت فيه ..
يقاطعه القوم : منْ تراه هذا الصوت؟!
يركع الرجل على الأرض:
يا الله القابع فينا... وفي كل زمان ، ومكان.. ما نحن إلا نفحة ، من روحك... (يرددون خلفه)
طهر أرواحنا ، خبثها
وأجسادنا ، رذيلتها.
اغسلنا بالرحمة والمحبة...
وألبسنا الغفران...
وأطلقنا من هذه الحجارة.. اعتق هذا التراب.. للتراب يا الله.. يا الله...
إنا لمن التائبين
إنا لمن التائبين
يا الله... يا الله...
صمت.. صمت...
مصدع: ويحنا كنا طغاة آثمين.. يجهش بالبكاء.. وبقية القوم كذلك ..
يتردد صوت
زقزقة
بشر ينادي... بعضهم بعضا..
خربشات حيوان يهيم على الأرض
رفرفة
وشوشة
يصطرقون السمع.. يا الله.. يا الله..
بدا الشوق واضحاً في نبرات القوم وملامحهم...
يصغون بترقب للصوت...
سالف يكمل حديثه: ما يؤرقني هذا الشوق الذي بزغ في قلبي فجأة.. وها أنا ذا( يشير إلى الخيم الممتدة).. أبحث عن قرين.. فيهم... أحتاج لجسد يشبهني.. يتحرك.. فأتحرك.. ينطق فأنطق..
يجحده القوم لجرأته .. بدهشة عارمة ..
ينظرهم برجاء.. يا قوم ما تراني أفعل بقلبي المشتاق سوى.. الاحتراق.. تنسل عنيزة من بين القوم.. تقترب من سالف هي وبناتها.. وجاريتها.
مصدع: ما هذه الرائحة النتنة...
قدار : لها الرحمة ( بحزن )
يتردد صوت
هسهسة برية
طقطقة رمل وحصى
روائح بشر
حشرجات أجنحة
لهاث حيوانات مستنفرة
عطر خبيئ
ظلال النهار
نبض ماء
وسوسه
رقص شجر
خربشات أقدام
رفرفه
نحيب
ولولة ريح
صراخ
قهقهات
وشوشة
دقدقه
همهمه
تلابيب الغسق
غمغمه مطر
زقزقه
يخشع القوم للصوت...
سالف: أتسمعون ( ينصت القوم بوجل ) إنه صوت الله.. يتوحد في كل هؤلاء..
يركع القوم... يرددون... يا الله... يا الله...
صوت الجارية (يقطع صمتهم)...: لنبحث عن قرنائنا فيهم... تصمت لبرهة ثم تعود.. أراني هناك..! تشير بإصبعها لامرأة بيضاء تتردد ضحكاتها رقراقة ك الماء ..فتعشقها الأذن... وتتبعها العين... تتنقل بين تلك الخيمة وتلك... عيناها لا تعرفان طعما للنوم .. تصل الليل بالنهار.. والنهار بالليل... تهيم بها حيوات الليل.. وشقائق الندى.. وفحولة الرجال..
ينهض القوم.. يقترب سالف من الجارية بحنق : تلك البيضاء... ؟!
الجارية: وماذا يعني اختلاف الشكل واللون.. فالروح هي الأساس وروحانا.. تتلاقيان..!!
سالف مستغرباً: لكن روحها.. روح نتن.. (بسخرية) عرفناك طاهرة عفيفة...
الجارية: انظروها... إنها تسرق النهار نوره... والشمس ضوءها... والورد وضاءته... يتمناها الرجال وتحسدها النساء..... وأنا تستحي مني العتمة.. وتهرب مني ظباء الأرض..
تنظر جسدها (بتقزز تحادثه ) لو كنت هذا الجسد البض.. تغبطك القلوب. وتستهويك الأعين.. وتتشاهك الأنفس..
القوم: لكنها امرأة سوء..!
الجارية: سأصلح من شأنها
صوت القوم يتحدثون هنا وهناك.. رافضين أن تتلبس الجارية ذاك الجسد ..
تقترب امرأة.. تتكىء على عصا... حانية الظهر... شعثاء.. غبراء... صوتها يحدث جلجلة بشعة.. (يجعلون أصابعهم في أذانهم وهي تتحدث).
المرأة: إن تلبست ذاك الجسد.. تلاقت الأرواح... وتجتمعان
الجارية: قولوا ما شئتم.. فلن أسبر مكامن الروح...
تتعالى ضحكات المرأة بسخرية... لن يكون بإمكان هذا الشبق ، إلا بسبر الروح الأخرى.. والغور فيها..!
الجارية بحده: أيتها العرافة أوقدي البخور.. والتمائم.. وكل ما لديك من سلطان.. لن يكون بإمكانك ردي..
تخفض من صوتها وبألم: شبعت أكاذيبك.. فما عاد لدي طاقة على الاحتمال...
مصدع ينادي: يا قوم... مهما تخفت الروح (يُصغي الجميع لمصدع بانتباه) لا بُدّ أن تُلقي بحملها.. تستريح.. فيتكشف الوجه الحقيقي لها ... وهذا ما ترونه الآن... اتركوا هذه الروح الخبيث لترحل.. وقد تكشفت لنا ( يحادثها ) لترحلي.. أيتها اللعنة ...!
تنطلق الجارية باتجاه الخيم .. تقف أمام من اختارتها قرينة.. ترتجف.. (تحادث نفسها) البرودة تشلني.. أكاد أتحجر.. ويحي... تتعالى قهقهات المرأة... (تحادث نفسها). أشعر بدفء غريب، يراوغ جسدي.. نيران تلهب أرجائي ..تستعر صدري.. ولأول مرة أشعر بهذا الدفء... منْ تراه أشعل هذا النبض ولا أدريه... ولمن هذه النيران... ولِم لمْ تراودني هذه الأحاسيس يوما ؟!.. تخرج من خيمتها.. تدخل إحدى الخيم...
العرافة: يا قوم... إياكم وتلبس الأرواح... ستعودون ماضيكم.. ولا تدرون...
يتفرق الرجال كل يختار قرينه... يتضاحكون.. أكاذيب عرافة.!
العرافة: ستصبحون من النادمين...
يسيرون بلا اكتراث...
قدار يحادث مصدع: تلك الروح تستهويني !! يشير بإصبعه نحو جسد .. يتحرك هنا وهناك.
مصدع: ذاك الجسد الضخم..؟!
قدار: تراه قبيحا ... وفي دواخله أجمل روح... لو كنت ترى ما أرى... روح شفيف، وضاءة...
مصدع: يتضاحك جسد بغل.. وروح عصفور..!
قدار: إنها أخف من الهواء.. كالومضة.. تضيء ما حولها... لا يغرنك القبح الخارجي فقد يحمل أجمل روح..
مصدع: (يشير إلى رجل وقد التف حوله الجميع): ذاك يستهويني..
قدار: أينه...؟
مصدع: ذاك الرجل النجم...
قدار: غريب أمرك يا صديق.. ترى القبح جمالاً.. والجمال قبحاً.. !
قدار: روحي لا ترى إلا الطيب...
مصدع: اتفقنا إذن.. أنا ألج ذاك الجمال.. وأنت تلج ذاك القبح.. ولنرى...
قدار: لي روح الطيب.. ولك روح الخبث.. اتفقنا..!
يتنهد.. كمن يحادث نفسه..
أرى البشر.. من دواخلهم.. سئمت التخفي خلف جسد جميل.. وروح قابعة تنفث السقم والعفن.. أتعلم يا صاحبي.. إن تلك الروح الجميلة... تضرب بأجنحتها فيألفها القلب... وتحبها العين ، وإن كانت تمقتها لأول وهلة...
قل لي يا صاحبي.. ماذا أعطانا الجمال سوى الطاغوت.. واللعنات ! انظر صاحبك تتراقص من حوله الناس .. ولا يقدرون على إيواء خواء روحه...( يحادث نفسه ) وهج زائف.. أن نظرته الروح انطفأ...
أحتاج محبة حقيقية تعرّش على روحي.. تداوي السقم... (ينظر الرجل الضخم الجالس بهدوء...وقد سكنت شفتيه ابتسامة لا تفارقهما...): أيتها الروح الشفيفة.. إني لك... سأعليك هذا اليباس.. أتيك ظامئاً..أرتجف ، ضللتني الأيام .. فافتحي ذراعيك لأرتوي ..
(يحادث نفسه )فما هذا الجسد الضخم إلا حبة بندق... أكسرها بعيني المتعبتين ... وأتماها فيه...
العرافة: تحادث نفسها: كل يتلبس ظله.. وأنا لا ظل ولا ظليل.. يا لبؤسي.. سأتفحص القوم علني أجد ضالتي...
عنيزة تحادث صدّوق: ( تشير بأصبعها لامرأة تجلس قرب النار في تلك الخيم) أراني أتلبس.. عينيها المستحمة بالدمع والعسل..
صدوّق: إنها لتستهويني أيضاً...
عنيزة: لي عيناها... ولك قلبها!!
العرافة: ويحكما..! دعاها وشأنها.. ولا تصيبا المرأة بوحلكما...
الاثنتان معاً: سنعود الحجارة حتماً.. إن لم نجد لنا قرينا.
العرافة: ما أعادكم إلا ليختبركم.. وإني لأراكم من الهالكين
تذهب عنيزة تبحث عن قرين..
تبقى صدّوق صامتة... تحدق في الأفق.. يمر برهة من الوقت وهي على صمتها... تنهض فجأة... تشير إلى فراشة (تلك ضالتي)...
بفرح: سأتلبسك أيتها الفراشة.. فأنفث ريحي في ذاك وذاك ،( بخبث ) أحط على صدر ذاك... ورأس ذاك... وعيون تلك..!
العرافة: وإن أغواك الضوء... تحترقين!
صدّوق: هذا أرحم من الحجارة... وتذهب...
تذهب العرافة الى عنيزةتسألها : وأنتِ من تراه ضالتك...
(تشير عنيزة بإصبعها إلى النار) : سأتلبسها... فأشعل المواقد، وأنفث عتمتهم بالضياء..
العرافة: لا بُدّ للنيران أن تنظفء..!
عنيزة: النار أرحم من الحجارة.. وتذهب
العرافة تحادث نفسها... وجدا ضالّتهما.. وأنا شريدة، لا أعرف ضالتي.. تباً لي.. تباً لي.. يتردد صوتها... صوت الماء يسكب في الأقداح.. قهقهات.. أهه مكتومة تتولول في الصدور... وشوشات.. صوت حجارة.
رجل طاعن في الكبر.. يقبل نحوهم.. يتكئ على عصا.. ينادي يا قوم.. يا قوم... يريد الله ليختبركم...
مصدع: يا شيخنا.. فليهدأ بالك.. فما نحن إلا من التائبين.
الشيخ: أخاف أن تلبستم تلك الأجساد.. وغرتكم الحياة.. فتعودوا ماضيكم..
يقاطعه: فليهدأ بال شيخنا الجليل.. لن تزيغ قلوبنا..،بعد الآن ،فما عدنا إلا لنجرب حياة أخرى... راقبنا وإن أخذتنا المعاصي.. ألق بعصاك... نأتيّنك سعيا...
الشيخ : أخاف أن تسول لكم أنفسكم.. بارتكاب المعاصي والآثام.
مصدع... ادع الله لنا.. وإنا لك لمن الشاكرين...
الشيخ: سأدعو الله ليخرجكم من كربكم هذا...( ينظر السماء بوجل..يحادثها ) : - تبشرين بيوم عظيم...
ينادي يا قوم.. يا قوم... عليكم العودة قبل بدء العاصفة وإلا تحجرتم في صدورهم.. وتجمدتم.. حينها لن يكون بإمكانكم مغادرتهم... يا قوم... يا قوم.. (يصيح بأعلى صوته) تدمع عيناه حزناً على القوم..
تقترب العرافة تتصنع الغبطة والسرور: يا شيخنا الجليل وأني أتشهاني لأرتع والبرية حيث الخزامى والصعتر
الشيخ وقد أغمض عينيه لرؤيتها: _ فلتذهبي أيتها العرافة حيث تشائين..
العرافة برجاء لننسى العرافة ..فإني من التائبين...
الشيخ بخبث: . هذا يفرحني.. يا ابنتي !
المشهد الرابع:
(تتخذ العرافة مكاناً قصياً.. بعيداً عن الأعين في طرف الجبل) تخرج كيساً أخفته في ملابسها... تشعل البخور تردد التمائم... تبحث عن ضالتها... لم يبقَ من القوم سوى أولئك البدو المقيمين في المكان... تراهم يروحون ويجيئون...
تردد.. أشتاتاً.. اشتوت.. فرقوا هؤلاء وأروني.. من تراه تبقى من القوم...
ساخ.. ماخ.. سبغ...
(تنظر المغني وقد تلبس أصابعه .. سالف...كأنما تحادثه ):
تتصنع الفرح.. فيك قبح وجمال .. وقد سكن لواعجك.. بعضا من خبث وإن لبست جبة الطيب...
تنفخ في البخور: ترى رجلا يجلس وحيداً... تساءل نفسها: ما هذه الروح الخبيث... تنفث في البخور.. تخرج كيساً آخراً... تردد...أيتها الأحقاد أخرجي من ذاك الجسد .. ( تنادي شياطينها ) شاخ ، كلهوب ، شنفوس ( تعيد النداء ) شاخ ، ماخ ..
تنظر الرجل وحيداً فمه لا يعرف الإبتسام... تراه متعشق لضالتها ..( تنظرها بزهو) : لم أتركك عبثاً... فأنتِ ضالتي.. تكمش حفنة من البخور.. تلقم النار .. تعب نفساً , تسائل شياطينها هل انتهيتم ؟.. ليتني أستطيع اقتلاع يباس روحه واستبدالها بروح يافعة جموح ..!
( تأخذ نفساً عميقا )ً... تنظر حواليها تتفقد المكان... تعب نفساً آخراً... تهيل الرمل على البخور..وتهبط الوادي.. تغني.. يترقرق صوتها والصوت.. المتردد...
صوت هسهسة
عسعسة فجر
لهاث...
ولولة ريح
روائح نهار
بشر...
وشوشات مطر
خربشات
صوت إنسان
شهيق
زفير
الفصل الثاني
تهبط الوادي.. تقترب من ضالتها... يا الله...يا الله .. ما هذا الريح الطيب.! تدغدغ أصابعها.. تمتشق الجسد.. تسري... (الضالة) تشعر بثقل... تأخذ نفساً عميقاً... يا الله... ما هذا الشيء الذي كتم أنفاسي ؟ أشعر ببرودة... أطرافي تيبست ، غدت قطعة ثلج... تقترب من النار.. الرجل يجلس وحيداً... تلتفت نحوه وقد علا وجهها ابتسامه.. يقترب الرجل ... تحط فراشة على كتفه .. وتمضي مسرعة... تحط على صدر الضالة... تتنقل على وجهها... تنفخ عليها العرافة... فتبتعد..تمد الفراشة بأجنحتها نحو النار .. تتلمس الدفء..
يشتد اللهب.. ويضيء العتمة.. يُطل القمر من بين الصخور.. ينير الوجوه المخضبة بالظلام...
ينهض أحدهم.. ينبش النار لكأنما يحادث نفسه : - قاربت على الانتهاء...
يتعالى صوت القوم لمرأى القمر بدراً.. بدأت شقوق النهار تأخذ مسرباً في السماء واحدا ، تلو الآخر... أحد البدو الجالسين في الخيمة المقابلة ينظر السماء.. يبقى صامتاً بعض الشيء.. يرقب الريح القادمة.. من بعيد..ثم ينهض مناديا على أصدقائه.. متعب.. وقاص.. زيد..
يقبلون نحوه...
يحادثهم ً: هناك عاصفة...
أحدهم هامساً: علينا تحذيرهم..
آخر: عليهم أن يرحلوا وإلا هلك الجميع...
يقترب الرجل من القوم: مناديا : أيها القوم... العاصفة قادمة.. ستقتلع خيامكم..وبصوت خائف : عليكم بالرحيل... قبل أن ينتصف النهار..
أحد القوم مستنكراً: الجو رائق ..موشى بالوقار والهدوء.
بدوي آخر: نحن أدرى بطقس هذا المكان، عايشناه دهراً من الزمن...
أحدهم: ما زال الوقت باكراً... لنلهو بعض الشيء ثم نجمع الحاجيات... ونرحل...
البدوي: لن يكون بإمكانكم مواجهة الريح...
أحدهم: وما أنتم فاعلون إذن...
البدوي: سنأوي إلى سفح الجبل..(يكمل بإسهاب ) . ثم إننا معتادون على هذا الطقس ، أما أنتم فلن تصمدوا..
يرحل الأعراب ويتفرق القوم.. كل يجمع الحاجيات.. يدخلون الخيام.. أنفاس تعلو ، تهبط.. ثقل في الصدور. الأرض تدور يخرجون من الخيام مسرعين.. ينادي أحدهم: يا قوم كأن الأرض تدور..
آخر: شعرنا بها...
أزيز الأرواح يتعالى:
يتردد صوت رفرفة
زقزقة..
عسعسات فجر..
تشتد الريح.. يقتلع الخيام... يتراكضون تحت المطر... تنظر العرافة ضالتها مودعة... تتعثر المرأة بظلها في صفحات الماء.. تسقط.. تعانقه .. (تحادث نفسها ) ... كان يُسقط نفسه على الأرض كلما التقيا.. يعانق ظلي.. . .لكم يتشهى دمي دمه .. تنهض وقد بللها الماء.. ( تحادث ظلها )..تذكر أيها الظل .. كنت تسخر منك ، كلما رحل في الغياب فتقول : بالأمس كانت عيني تعتب على قلبي كيف يحيا بلا حبيب.. واليوم يعتب قلبي على عيني كيف يكون لها حبيب ولا تراه..) وها أنا ذا أقولها لك ..تركض.. تشيح بوجهها عن الرجل الذي وقف يرقب خطواتها...
(تحادثه في نفسها) أنت هنا.. وهو هناك.. والحقيقة أنك هناك وهو هنا...!
تبتئس العرافة لحالها... لم تفلح عرافتها في كشف مدامع قلب الضالة ..! تتحسس الكيس الذي أخفته في ملابسها.. تخرجه. ترمي به بعيداً... وترحل...!!
أزيز الأرواح يشعل المكان.. تتطاير حيث السفح... يرحل الأعراب...
يصعد القوم الحافلة وقد بللهم المطر... المغني يدندن..
يقف أحدهم:الحمد لله الذي أرسل الأعراب ليحذرونا ..
يقاطعونه : إنها رحمة الله ..
احدهم: بالأمس حدثني هؤلاء الأعراب عن أرواح تسكن هذا المكان.. (سخرت منهم) لكنهم كانوا جادين.. فيما يقولون.. وسألوني مستغربين .. ألم تشعروا بهم؟!
آخر: بياض يسكنني..كأني أولد من جديد..
آخر: وأنا كذلك.. سحر في المكان ، يغسل الأرواح.. يجلوها العطب والأسقام..
آخر: برغم كل هذا... سأعود.
الآخرون: حتماً.. نعود..
وتنطلق الحافلة..
الريح تقتلع الخيام...
وقف الآخرون على السفح يتشممون الحياة.. يتنهد شيخهم.. كنا مثلهم يصيبنا الهلع لأي شيء... أما الأن فلم نعد نخشى سوى الله..
لنمض للصلاة.. قبل أن تتصلب أعوادنا.. ونعود رقدتنا الأولى... فنغدو حجارة كما خرجنا أول مرة..
سكون يسكن المكان.. وقد التجأ البدو إلى سفح الجبل... يسجد القوم ... الأصوات تتردد.. تتحرك.. ولا شيء سواها...
يتردد صوت
همهمه
عسعسة.
وشوشه...
لهاث
نحيب
صراخ
عويل
ولولة
أزيز
رفرفة ..
ورورة ريح