إنها القضية نفسها .. والصراع ذاته ..
قضية الحق والباطل .. صراع الشرك والتوحيد ..
ما إن اعترضوا على خرافات العقول التي ضربت بالأغلال الفكرية وبالتصور الهزيل الذي لا يكاد يقف على قدميه حتى بدأت سياط الجلادين تخترق الأجساد التي تعلن وهي تتمزق تحت طغيان الطواغيت ..
أن لا اله إلا الله ..
هكذا دائماً ليس لأصحاب الفكر السقيم ولا العقائد المستوردة إلا أن يلجأوا إلى السياط والمطاردة والملاحقة لأنهم لا يملكون اقلاً أسلوب الخطاب البشري ولا يعرفون معنى الأخذ والعطاء ذلك لأنهم وضعوا الأحجار في الرؤوس بدل العقول وزنجروها بالسلاسل والقيود ولهذا فإنهم قوم لايسمعون وإذا سمعوا لا يفقهون ..
لقد آثرت فتية آمنت بالله رباً والهاً واحداً لا يشاركه فيهما احد , آثرت أن تبتعد من المدينة الظالمة التي حجرت عقلها بالأصنام والأوثان فغدت لا ترى إلا احجاراً صماء تحسبها آلهة !!.. آثرت أن تبتعد عن هذا الافتراء العظيم الذي لا يليق بصاحب العظمة والجلال والكمال .. الله تعالى .. آثرت أن تهرب من عقيدة لطختها الأوساخ والأقذار ، وشوه معالمها أولئك الذين يصنعون من البشر والحجر آلهة ثم يعبدونها من دون الله تعالى ..
آثروا الابتعاد لأنهم كانوا يعلمون الحقيقة .. حقيقة التوحيد التي جبل الإنسان بها وفطر عليها .. حقيقة أن هذه الأصنام الحجرية أو البشرية لا تنفع ولاتضر بل هي اصلاً لا تملك من أمر نفسها شيئاً ، فإذن هذه الأصنام لا تستحق أن تعبد ..
ولهذا آثروا الابتعاد من منطق الجنون والهلوسة والتخبط ..
ابتعدوا وآووا إلى الكهف !!..
حيث هناك كل شيء يتغنى بأبيات التوحيد التي تعيد صياغة الإنسان من جديد بعد أن تعب وهو يطارد شبح الآلهة المزعومة ..
والغريب أنهم حينما اتجهوا إلى الكهف تبعهم كلب !! ..
ما الذي أقحم الكلب في هذه القضية التوحيدية الكبرى ؟؟
أتعلمون .. لقد خرج الكلب مع هذه الفتية وهو يرفض التصور البشري الهزيل ، التصور الذي يجعل الأحجار آلهة تعبد من دون الله تعالى ..
أتعلمون .. ان الكلب من طبعه النباح ، فهو لا يحقق السرية لهذه الفتية الذين هربوا بعقيدتهم من سياط الجلادين .. انه سينبح ويكشف أمر الفتية .. ولكن الكلب هنا نسي طبعه فراح لا ينبح ابداً .. لان الأمر يتعلق بالتوحيد .. انه نفس التوحيد الذي حرك فطرة طائر الهدهد ومن ثم جعله يقطع المسافة بين اليمن وفلسطين ليخبر أن هناك من يعبد غير الله تعالى ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) ) ..
وهكذا هربت الفتية المؤمنة من شرك المدينة إلى كهف التوحيد وهم يقولون : ( ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشداً ) ..
انه الهروب من الظلم العظيم .. الشرك .. والهروب ليس بالشيء الغريب ، ألم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن الدجال ( من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب انه مؤمن فيتبعه ) رواه أبو داوود والحاكم وابن عساكر .
نعم .. هروب من شذوذ .. كيف يكون الدجال الهاً ..
هروب من شذوذ .. كيف يتخذ الله تعالى ولداً ..
هروب من شذوذ .. كيف يعبد هذه الأصنام التي لا تملك لنفسها شيئاً ..
هروب من شذوذ .. كيف يعبد الإنسان انساناً مثله ..
والهرب هنا لا يعني السلبية ، فهذه الفتية أعلنوا إيمانهم في علانية ( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) ، ولكنهم إعتزلوا أهلهم وقومهم وأرضهم ليخلصوا لله بدينهم ، ويفروا إلى ربهم بعقيدتهم ، حين عزّ عليهم أن يجدوا لها مكانا في الوطن والأهل والعشيرة .
انه وجه آخر للنصر ، نصر بالحفاظ على العقيدة والدين ، حيث لا يستطيع فرعون ولا ابوجهل ولا دجال من الوصول إلى المؤمن لينزعوا منه رداء التوحيد ويجردوه من لباس القيم والأخلاق ومن ثم يتركوه على قارعة الطريق عرياناً لينتظر ( وبالطبع ليحلم ) الدجل لكي يلبسه القمصان ذا الياقة البيضاء والأربطة الأنيقة والأحذية اللامعة لأنهم بذلك سيضحكون عليه ويجعلون منه ومن أمثاله جسوراً يعبرون عليها ليصلوا إلى غاياتهم القذرة .. أما أولئك فسيظلون حيث ما كانوا .. تحت الأحذية والأوساخ ، يلتصقون بالطين ويلسعون الوحل ..
انه الفرار من شرك المدينة إلى كهف التوحيد ، بعد أن بُحت أصواتهم من منادات صاحب العقول المتحجرة والفطر المنكوسة والطبائع المقلوبة التي داس عليها اولئك الذين نصبوا أنفسهم آلهة في الأرض واستخفوا أتباعهم فأطاعوهم .. اولئك الذين يتبجحون عندما لا يرون من يقف في وجوههم .. يتبجحون ويتطاولون ليقتلوا التصور الصحيح ( لن ندعوا من دونه الهاً لقد قلنا اذاً شططاً ) .
لقد هربوا وكأن لسان حالهم يقول : ليس في المدينة أو في البيوت أو في المساجد ( فقط ) يعبد الله تعالى .. بل إن الله تعالى يعبد في أي مكان كان .. في صحراء قاحلة تعصف بها ريح السموم أو في جبال شاهقة بين كهوفها أو في غابات تتمايل أغصان أشجارها بعضها من بعض .. تتهامس نشيد الخلود .. وترتل آيات رب الجنود ..
( شهد الله انه لا اله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا اله إلا هو العزيز الحكيم ) ..
بهجت الرشيد