أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 9 من 9

الموضوع: عندما كنت هناك

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي عندما كنت هناك

    عندما كنت هناك

    بين غفوة مساء وغفلة خداع تثائب الوجع حلماً مغلولاً بالصمت، حملت شوقي وحنيني بلهفة طفل حيث العالم السفلي؛ لعلّها تضمّني بين خوافي دفئها، أمسح الغبار عن الشاهد، ( كلُّ نفسٍ ذائقة الموت)*، أشعل عود البخور، أرشّ ماء الورد، أرتّل سورتي الفاتحة ويس بخشوع، أمدّ كفّي نحو السماء؛ فيضوع المكان بعطرها. كانت هناك قبل الرحيل بخطوتين، الهناك متّشح بزمن شاحب بالوهم ينذر بالتيه والخذلان، يتلو عليها سيرة الرحيل حين أعلن النهر انتحاره عند طرف جدائلها، فانسلّتْ من غلالة حرائق الجفاف تبحث عن موطِئ حلم، كانت الخطوات مهداً من دمع، وكنتُ أنسج لهاثي تحت دفء مئزرها، أسمع أنين صمتها وأشمُّ احتراق أحلامها النافرة. لم تكن أمّي كباقي النسوة تقنع بالهزيمة حين كانت الشواطئ تنذر بموت العشب، وكان وجه الأرض يعوي من قلب بستانها أغنيات حزينة ترفع شراع الخوف والألم والعجز، حين كان الجميع هائماً بالاحتمالات، يبحث في الأنقاض عن دليل أو شفّة رصيف أو ضفة نهر، كانت تتوثب إلى ظلّ جذع نخلة رغبة لأمل يطلّ من نافذة صبرها، يتوق إلى نبع عينيها الصافيتين. تحدّثت إلى النهر بعتب شديد، عتب مشدود بالدمع والآه، رمقت بطرف عينيها صمت الأرض وحزن العشب الحالم بالضوء، بكت بلوعة لمشهد أشجارها اليابسة وغياب ظلّ الظهيرة. ولمّا أزف الرحيل لملمت أسمال وحدتها بعدما تكحّلت بالصبر، تعطرت برائحة الطين، شدّت على خصرها حبل العزيمة، لم أنس تلك الابتسامة وقبلتها التي طبعتها على طرف خدّي الأيمن بعدما دثّرتني بتميمة جنوبها :
    - حافظ عليها من الضياع، ياولدي.
    - وما فائدة هذه الخرقة؟.
    - لا تقل خرقة، ستحرسك من الأشرار. قالت ذلك، وكأنّها توحي إليّ بمشقات القادم من المجهول، ترسم طريقاً معطّراً بالأحجيات. أطلقت في كوخٍ يتدثّر برعشة القصب والبردي بخورَها تحت ظلال سكينة ستصبح ذكرى بعد حين من الزمان ، وقبل الرحيل بخطوة التهم الوهم ماتبقّى من طفولتي. كانت النهارات فتنة ممتلئة بالأسى والغواية، والليل ينذر بيأس أعمى، وأنا ما زلت ألهث خوفاً خلفها، ممسكاً بطرف عباءتها، كانت تطفئ يأسي وخوفي بابتسامة شفيفة تأسر بها ضوءاً أعزل، تحوكه بصلاتها شراع حلم يهفو لسفن النجاة، تتوسّد أنفاسها بين الحركة والسكون، مسندة رأسها لقنديل أبي المتوهج بالغياب.
    - إلى أين يا أمّي؟ وهل سنترك أرضنا؟
    كانت الخطوات القادمة حاجزاً يرتبك بالضباب ويضيق به المدى، وأنا تحتلّني الوساوس ويدركني ظلّ من حسرات، فكم من لعب الطفولة غابت فوق أرض مفجوعة بالوحشة وتحت سماء غاب عنّها السحاب، وكم من أحلامٍ ذوت في أفق الخيال، ولمّا لفظت السواقي آخر أنفاسها طلّت الغربة بوجهٍ من رخام، فلم يبقَ غير مرايا خلعت براقعها؛ لتكشف عن ساقَي فتنة مزيّنة بالقهر والعوز والحرمان، مرايا خلعت خلخال عشق الأرض لندى الفجر وأطفأت أوكار الدفء؛ لتصافح ألم القادمين،
    - أمي، هل سنرجع يوماً ما إلى قريتنا؟
    حدّقت في وجهي بألم شديد، مسحت بطرف ( شيلتها ) دمعة انحدرت على طرف خدها:
    - يا مهجة قلبي، ( سيأتي يوم، يصبح فيه لنا أن نركض أو نصرخ حيث نشاء، ونلعب حيث نشاء، وقد نترك للبحر بأن يتلألأ بينأصابعنا )*.
    كنّا مثل طيور مهاجرة غاب عن أفقها رائحة الطين ودفء تنور أمّي، رائحة الأهوار المدافة بالعشق والسكينة، كنّا مثل ذكرى مهدّدة بالنسيان، نبحر نحو المجهول دون معرفة وبلا شراع، نحو خرائب غاصة بالعتمة، يجثو فوق جثتها ضجيج المدن وصراخ عالم يكتنز بين محجريه نصف عين تعصف برغبات مجنونة. نتوسّد ضفاف (شطيط) الحالم بعطش وجوه شاحبة. وحين رصدت مرايا الغربة آخر خطواتنا، لملم الجميع أحزانهم، وهم يطوفون غرقى حول بحرٍ يعجّ بالموت والحياة، يتمرّغ على أهداب حيرتهم تراب قرى ستغيب إلى الأبد، غفت العيون على بحر من الظنون، ظنون تبرق بالدمع والخوف من غياهب الغربة وطقوس شتّى لم يألفها الجميع أعدها القدر لهم سلفاً. كنّا خطيئة الطغيان حاك خيوطها الزمن على حافة ربيع موهوم، نراقص أوهام الغد، ونضحك من عذاباتنا، عذابات لن تفارق أرواحنا وكأنّها علامات فارقة خطّها الوجع فوق محيّانا، نحمل رؤوسنا فوق الكفوف، متأهبين للموت كلّ حين، أقدامنا ضائعة بين هجير الإثم وفطرة قُرآنا المنسيّة، أدمنّا الذكرى وقبور الموتى، نغفو في جفون صرائف طينية أغنية تحكي نبوءة الخراب الممتدة بين سحر الخطيئة وبين مآتم لانعرف كيف تلاشت.
    - أمّي، ألم تسمعي ندائي؟ لِمَ كلّ هذا الصمت، لوكنتِ تمرين هنا لطلبتُ منكِ الحلوى وسألتك مرّة أخرى، متى نعود لطيبة قرآنا الجميلة، ياأمّي؟ لرأيتكِ تقولينَ كما قلتِ بالأمس:
    ( سيأتي يوم، يصبح فيه لنا أن نركض أو نصرخ حيث نشاء، ونلعب حيث نشاء، وقد نترك للبحر بأن يتلألأ بين أصابعنا).
    وها أنا وبعد خمسين طقساً من الفصول أنتظر ذلك اليوم، فهل يأتي ياترى؟.

    *أوهام ريفية-3/ شعر- ص38

  2. #2
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    هو الشّتات في المنافي بعيدا عن الأوطان يغرز سكاكين القهر في القلوب!
    لغة ساحرة في الوصف، وسرد رائع حتّى النّهاية
    شكرا لك على روعة ما قرأت رغم الغصّة
    بوركت
    تقديري وتحيّتي
    (تثاءب)

  3. #3
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,788
    المواضيع : 392
    الردود : 23788
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    وصف راق وسرد ماتع وبيان ساحر أجدت من خلاله نقل الصورة عندما كنت هناك فنعيش معك بهاء اللوحة
    نص مطرز بالألق سررت بمعانقته فشكرا لك أديبنا الفاضل
    كل عام وأنت بخير
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي س

    استحضار ابداعي متقن لمكونات الحدث القصي، وأداء توظيفي للمعطيات ناجح وفق فيه السارد بتقديم نسيج قوي بلغته وفكرته وعرضه
    أنت قاص متمكن ولحرفك عليك حق متابعته حيث تقدمه

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت القديرة ربيحة الرفاعي
    ممتن لك على هذا الإطراء والمتابعة لنصوصي ... كلماتك البهية شهادة أعتز بها... لك مني خالص الود والتقدير

  6. #6
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت الفاضلة كاملة بدرانه
    خالص التقدير لك على بهاء تعليقك على النص

  7. #7
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت الفاضلة آمال المصري
    أشكر لك إطراءك وإعجابك .. خالص المودة لك

  8. #8
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,156
    المواضيع : 318
    الردود : 21156
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    تعليق على قصة: عندما كنت هناك.
    سيأتي .. لابد وأن يأتي .. هذا وعد الله ومن أصدق من الله قيلا.
    قالوا قديما .. وراء كل فن عظيم ألم عظيم..
    هذا ما شعرت به وانا أقرأ رائعتك ( عندما كنت هناك) ـ وهل هناك أعظم من ألم من اقتلع
    من أرضه ، وعاش عمره ينتظر لحظة العودة..
    سردية رائعة موشاه بلغة متميزة ـ ومخزون لغوي ثري
    وقصة مكتملة البنيان والفكر، وبراعة في الوصف.
    سلم إبداعك ولك جل إحترامي وتقديري. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    ملحوظة : يجب أن تكون كل قصة في موضوع مستقل حتى تحظى بالتعليق المناسب لها.

  9. #9
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الأخت نادية محمد
    أشكر لك حضورك، ممتن لكلّ حروفك البهية...خالص التقدير لك.

المواضيع المتشابهه

  1. ما كنتَ يوما لي و ما كنتَ يوما لغيري ..
    بواسطة وفاء شوكت خضر في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 36
    آخر مشاركة: 04-11-2007, 01:19 AM
  2. الصحافه العربيه هل هناك يترى وجود لها ام غدت هى ايضا فى ظل اقدام القمع السياسي
    بواسطة نعيمه الهاشمي في المنتدى الإِعْلامُ والتَّعلِيمُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 27-12-2005, 05:38 PM
  3. ... مازلت .. غافية هناك ...
    بواسطة دموووع في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 20-12-2005, 01:31 AM
  4. عندما كٌنتُ
    بواسطة د0 احمد فنديس في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 03-09-2005, 11:11 AM
  5. و ينسى العرب ان في يوم ما كان هناك مجرما يدعى شارون
    بواسطة علي قسورة الإبراهيمي في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 24-01-2003, 11:28 PM