أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 19

الموضوع: عشرون ووجهة واحدة ..أقصوصة ..

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي عشرون ووجهة واحدة ..أقصوصة ..

    بسم الله الرحمن الرحيم
    عشرون ووجهة واحدة - أقصوصة
    عبدالغني خلف الله

    أوقف(علم) عربته الجديدة التي تعمل علي خط كسلا ـ الخرطوم وقد كتب علي صفحتها الخلفية عبارة(علي كف القدر نمشي ولاندري ما المكتوب). أوقفها في المكان المخصص للركاب المسافرين للخرطوم..وقبل أن تتوقف تماماً فتح مساعده(الجوكر) باب الباص بحركة بهلوانية وبدأ يردد(الخرطوم..الخرطوم) وعلي غير عادة(علم) جاء للموقف متأخراً بعض الشئ إذ كان عليه أن يحمّل بعض طرود المانجو والجوافة من السواقي الجنوبية..ولأن سقف العربة ضاق بتلك الطرود.. إستغني عن المقاعد الخلفية.
    علم إنسان بسيط.. رمت به الاقدار الي كسلا بعد أن غادر موطنه الاصلي بضواحي(مكوار) وكان يعمل سائق تراكتور بمنطقة الدمازين.. وهو متزوج من (نعيمه) المعلمة برياض الاطفال .. سيدة من أسرة عريقة لها جذور من البني عامر والصومال واليمن.. والحلنقة.. وعندما جاءت والدة(علم) من البلد برفقة إبنتها لخطبة(نعيمه) تساءلت في سرها.. هل هذه البنت من الإنس أم الملائكة ؟.. حتي أن شقيقته حين عادت إلي البلد أطلقت إشاعة بأن شقيقها تزوج جنية..
    أولاد الحي الذي يقطن فيه ينادونها بـ (جميلة ومستحيلة) وهي من فرط رقتها وعذوبتها تعطي كل من تقابله إنطباعاً بأنها تهتم به.. فمثلاً صاحب البقالة المجاورة لهم لا يقيّد الدين كما ينبغي من شدة اعجابه بها..يكتب سلعة ويتغاضي عن أخري .. صاحب الملحمة القريبه من حيهم يوزن لها ربع كيلو من أجود اللحوم زيادة كلما جاءت للملحمة ..مفتش رياض الاطفال المتزوج من ثلاث زوجات هام بها عشقاً بالرغم من صدها له..وأطفال الروضة هم أيضاً أدركوا بحسهم الطفولي بأن ماما نعيمه تتميز علي زميلاتها بشئ لذيذ يجهلون كنهه.. غير أن الطفل(هشام) ابن مدير المصرف عبر عن إحساسه صراحة أمام أمه ونعيمه عندما حضرت لاخذه آخر اليوم الدراسي.. قال في براءة يحسده عليها الكثيرون من الذين يكتمون مشاعرهم نحو اخرين(ماما..ماما..أنا أرغب في الزواج من ماما نعيمه) ضحكت نعيمه من أعماقها وقالت لامه وهي تغالب الضحك(ولدك مفصول من الروضة لسوء السلوك).
    أما(الجوكر) فهو من منطقة غرب القاش وأطلقوا عليه هذا الاسم لأنه يجيد اللعب في جميع الخانات ضمن إحدي الفرق في الجانب الآخر وما تفعله فرق كسلا شرق القاش مع الجوكر لا يعدو عن كونه إحتيال صريح .. فهي تنصب له مصيدة تسلل.
    * * *
    كان أول من ركب البص إمراة جنوبية تدعي(أكواي) وأبنتها(مونيكا)..فقد حضرتا من منطقة(كنقر) القريبة من(بور) بأعالي النيل لزيارة(روبيكا)..التوأم لمونيكا الطالبة بالثانوي العالي للبنات ..ونسبة لعدم وجود أسّرة كافية بداخلية البنات فقد قامت زميلتها في الفصل وصديقتها(آمال) بإستضافتهما بحي المرغنية العريق..
    آمال طالبه في السنة الاخيرة وستجلس هذا العام لإمتحانات الشهادة.. وهي جميلة الجميلات بالمدرسة..غير أنها موزعه شعورياً بين ابن عمها بشير وابن عمتها عصام..بشير أكمل دراسته بكلية الزراعة ـ جامعة الخرطوم وظل عاطلاً عن العمل لمدة عامين وأخيراً قام بفتح بقالة بسوق كسلا وكانت آمال كثيراً ما تسخر منه عندما تلمحه من نافذة بص المدرسة وهو يمتطي دراجته وأمامه طاولة من الخبز كأي عامل بسيط...
    عصام يعمل سباكاً بالسعودية.. سباك ؟!تري ما هذه المهنة.. لقد سمعت بمهندس وكهربجي ونجار.. ولكن سباك هذه لم تسمع بها من قبل.. ربما لهذه المهنة صلة بسبائك الذهب.. ربما.. وبرغم أن الاثنين تلازما في الدراسة بالمرحلة الاولية.. إلا أن عصام كان ميالاً للفوضي والتهرب من المذاكرة والشئ الذي لا تفهمه آمال أن عصاماً هذا رغم تخلفه في الدراسة بني منزلاً وأحضر في الاجازة الماضية عربة بوكس تقبع داخل حوش منزلهم وقد تحولت الي حظيرة للدواجن.. ولكنه عاد واردفها بواحدة أحدث وأجمل.. فالعربة الاولي كانت تعزف موسيقي عندما ترجع الي الخلف..أما العربة الثانيه فهي تتكلم.. وتقول لك(خذ حذرك.. السيارة ترجع للخلف).. والدتها الحاجه نبيهه..عندما سمعت ذلك أستغربت الأمر وقالت(لحظه لحظه يا بنات .. عربية تتكلم عديل؟ دحين ده ما آخر الزمن) الحاج عبدالرحمن والد آمال وافقها فيما ذهبت إليه وهو الآخر في حيرة من الأمر .
    آمال معجبه بطريقة عصام في قيادة العربه خاصة عندما يمسك مقود العربة بكلتا يديه..والسيجارة علي طرف الفم دون أن تسقط..واذا كانت آمال تراهن علي أن عصام سيكون لها إن هي قبلته..بحجة أنها جميلة ومثقفة إلا أن عصام هو الآخر موزع بين آمال التي تستفزه بتعليقاتها الساخره وقوة شخصيتها وبين (علوية ) إبنة خالته التي تسكن مع أسرتها بحي السكة حديد ببانت.. والدها الاوسطي بشار سائق قطار ووالدتها الحاجة ميمونه من كسلا..ولكن ما يحار له العقل.. علوية بجسمها المكتنز بالرغم من أن والدهانحيف كالعصا ..وأمها تكاد لا تري لنحول جسمها.. وعلوية تسعي جاهدة لإنقاص وزنها ثلاثين أو اربعين كيلو علي المدي القصير .. وهدفها من ذلك الرشاقه والجمال ..وتتمني أن تكون يوماً ما..مثل الممثلات الهنديات..إذ أن علويه لا تفوّت أي فلم هندي تبثه سينما كسلا.. شقيقات عصام يعلقن عليها بأنها جاهلة ولا تحسن التصرف.. لكن عصام عندما يتطلع الي وجهها المستدير كالقمر ليلة تمامه يقسم بينه وبين نفسه بأنه سيتزوج علويه.. فقط لو أنها تقلل من وزنها.. وقصة علويه قصه محيرة حقيقة.. فقد كان والدها الاوسطي بشار في سنّي شبابه الأولي يحلم بجسم مفتول كزملائه بالسكه حديد.. وقد جرب كل الوصفات البلدية لعلاج نحافته الزائدة عن الحد..وفي إحدي رحلاته الي الغرب..تعطل القطار بمدينة (بابنوسه ) فأمضي الليل هناك..وفي تلك البلده النائيه تعرف علي (جار النبي) أحد أبناء المدينة وشرح له مشكلته..فنصحه بأن يشرب سطلاً من السمن وآخر من عسل النحل.. ووجد الاوسطي بشار أن هذا كلاماً معقولاً.. أشتري السمن والعسل وعاد الي كسلا..وأخبر زوجته الحاجه ميمونه بهذا الاكتشاف الخطير..وكانت علوية وقتها في السنة الثالثه الإبتدائيه..طفله ربعة القوام تزدرد بقايا السكر المترسب بقاع الفنجان..وكثيراً ما وبختها والدتها علي هذه العاده أيما توبيخ..غير أن الاوسطي بشار إنشغل بأسفاره العديده عن سطل السمن وسطل العسل وبدلا عن تناولهما بإنتظام.. قامت علويه بهذه المهمه إنابة عنه وعقدة الشحم هذه ظلت تؤرق علوية ولا تفارقها ليل نهار.. وإن تنسي لاتنسي ذلك الصبي اليافع الذي ظل يلاحقها عندما تتهيأ لمغادرة السينما ويهمس في أثرها (بأكثر من عبارة).. ونسبة لانها لم تكن متأكده إن كانت تلك العبارات تغزلاً أم تهكماً.. فقد كانت تضغط علي أعصابها ولا ترد عليه..وعلويه هذه لا تأبه كثيراً لعصام فقد إستحوذ تاجر الاقمشة الهندي علي كل ذرة من مشاعرها..إذ كان يشبه ممثلها المفضل(شامي كابور)..خاصة عندما يتلوي كالثعبان وهو يردد(تلك الأغاني الراقصة..) أو عندما يغمض عينيه ويعقد كفيه فوق صدره ويغني.وماذا لو كانت هندية بحق وحقيقة ؟! فهي تملك كل مواصفات الممثلات الهنديات من حيث شعرها الطويل الذي يلامس قدميها أما نقطة المونيكير عند مفرق الحاجبين فهذه مقدور عليها..
    * * *
    (آمال) بذلت أقصي ما تستطيع لإظهار الكرم والاريحيه نحو والدة زميلتها(ربيكا) وشقيقتها(مونيكا) ولاحظت أن ابن عمها بشير يبحلق في مونيكا كلما زارهم.فقد أعجبته بقوامها السمهري وصفحة وجهها اللامعه كزيتونه مبلله ولاحظ أن وجنتيها مشدودتان إلي أعلي كأن شيئاً ما يسندهما من داخل الفم وأن ثمة غمازتين تغوصان عميقاً في الخد عندما تبتسم وأسنانها بيضاء كاللبن وجسمها يقبل القسمه علي أثنين..وعندما أخذهما هي وآمال في نزهة علي الأقدام حتي (توتيل) لم يبد عليها التعب بعكس آمال التي أدمي قدميها المشوار..(مونيكا) أخبرتهما أنها تعودت علي قطع المسافة من(كنقر)حتي (بور) سيراً علي الاقدام وحكت لهما كيف أن الطريق تحفه المستنقعات..اذن تلك هي منطقة السدود التي قرأنا عنها في الجغرافيا..وحدثتهما أيضاً عن نقارة(كنقر) حيث يجتمع الشباب من الجنسين للرقص..إذ تقف كل فتاه خلف خطيبها ويشكل الجميع حلقه كبيره وكل واحد يغني لفتاته ولثوره الأبيض الجميل..وكلاهما: الأولاد والبنات..يرتدون قمصاناً من السكسك المشدود علي الصدر والبطن.. ذلك هو سر الأجسام المتناسقه..أم أنها راحة البال والطبيعه البكر بعيداً عن المدينه بكل أوجاعها وأسقامها..
    (آمال) أضفت البهجه والمرح علي المشوار.. حدثتهم عن ربيكا ودعاباتها الكثيره.. فهي تضع مثلاً كوباً مملوءاً ماءاً علي حافة الباب وتشده إليها بخيط عند مرور أي طالبة فيندلق الماء علي رأسها فجأة فتصاب بالذعر..أما هي فتضحك وتضحك..وكيف أن ربيكا إنسانه منفتحه وصاحبة نكات بكل اللهجات. خاصة بالنسبه لاهلها بالجنوب..وكانت النجم الاوحد في كل أمسية سمر تقيمها الداخليه التي تسكن فيها..مونيكا إستعادت إنفتاحها وحكت لبشير وآمال عن خطيبها(جارلس) الذي يعمل ببنك السودان بالخرطوم.. بشير توقف كثيراً عند عبارة(بانكي بتاع سودان)..والطريقة التي نطقتها بها وأحس أنه أمام (كيلوباترا) جديده..
    ومن(توتيل) عرج ثلاثتهم علي الحقول الممتده حتي حافة القاش جنوباً ولدي مرورهم علي احواض البرسيم المتراميه كبساط أخضر.. قال بشير وهو يوه حديثه إلي آمال(بالمناسبه يا آمال..أوراق البرسيم وأوراق شجرة التبلدي تصلح للاكل كسلطة..آمال أعترضت علي هذا الافتراض بحجة أن بطن الانسان ليست كالحيوان ثم وفي تهكم واضح قالت له..الآن عرفت السبب في عدم حصولكم علي وظائف..لانكم معشر الزراعيين تنظرون أكثر مما تعملون.. بشير قال لها تذكري أنك ستنضمين إلينا بعد شهور..أجابته بتصميم واضح..لا..طب يا بلاش..بشير حاول تخفيف حدة التوتر الذي ران عليهم فجأه وسأل مونيكا عن السلطه في الجنوب..كيف ومم تتكون..مونيكا أعملت تفكيرها لإيجاد معني لكلمة سلطه في قاموسها العربي المحدود..وأعتقدت أنه يقصد السلطة بضم السين..وبما أن السلطه لدي القبائل الجنوبيه بيد السلاطين وهم بالطبع من كبار السن أجابته بهدوء شديد(ناس كبار في السن..)جحظت عينا بشير دهشة وإستغراباً فأدركت مونيكا علي الفور أنها وقعت في خطأ فادح..وعندما فهمت المقصود من السؤال أجابته بمرح واضح وأحياناً برضو أولاد جامعات ..) مونيكا إستعادت مزاجها فحكت لهم عن الحيوانات المتوحشه في الجنوب والحشرات والثعابين..حدثتهم عن سلطان القرود وهو نوع من الشمبانزي يولد ويعيش ويموت فوق رؤوس الاشجار ولا تطأ قدماه الارض أبداً ووحدثتهم عن ثعبان إنتهازي معروف..لا يحتمل بطبيعته لسعات الرمضاء في النهار القائظ فيتحين مرور أي حيوان أو إنسان ويتسلقه في هدوء شديد..واذا ما مر بك موقف كهذا..قالت لهم..ما عليك إلا التوجه الي أقرب شجره ظليله..فينزل الثعبان من علي رأسك..آمال همهمت..(ووب عليّ..ووب عليّ..أكان دي أنا غايتو بموت)
    * * *

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثانية
    وبينما كان الاولاد يمرحون في السواقي في سرور وحبور..يشربون من ذلك الالق المنساب من صفحة جبل (أولوس)..ويتقافزون كالفراشات علي ضفاف نهر القاش..كانت الحاجه نبيهه قد وضعت اللمسات الاخيره علي صينية القهوه الموشاه بالسكسك والفناجين المذهبه ونفخت علي المبخر بهدوء فإنداح عطر(بخور التيمان) في دوائر غامضه وكأنه يقبّل جدران الحجرة..ووضعتها أمام(أكواي).. وهي تعتذر عن عدم وجود تمر هذه الايام..إذ أن الموسم هو موسم المانجو..(أكواي) تعمل ممرضه بمستشفي بور..ولديها الكثير الذي تود أن تقوله لنبيهه بعد أن المت تلميحاً بمأساتها المتمثلة في ضرتها(رشيده)..فالافتقار للعداله والاحساس بالظلم سمه غالبه في جميع العصور..وبينما يفجر الرجل كل دوافعه وذاتيته عبر القوة لاخذ ما يريد وبسرعه وإن أدي ذلك الي تدمير الآخر وإقتلاع جذوره.. نجد أن المرأه تراهن علي عامل الزمن وتحث نفسها علي الصبر والإنتظار..حكت(أكواي)لنبيهة تلك القصه التي رواها لهم حكيم القريه.. قال لهم تشاجرت الشمس والرياح علي جبة موشاه بالذهب كان يرتديها أحد الامراء وقد خرج للنزهه..قال الريح أنا آخذها منه..ضحكت الشمس وقالت للريح لن تستطيع أيها العنيف أبداً..وبرغم ذلك سأمنحك الفرصة لتحاول..إمتلأ الريح بالهواء وركض صوب الامير ودهمه بكل ما يملك من عنفوان..إلا أن الأمير تشبث بجبته وظل يدور ويدور..وعندما أصاب الارهاق والتعب كلاهما..إنصرف الريح وذهب إلي الشمس التي كانت تراقب الموقف عن كثب وإعترف لها بفشله..وجاء الدور علي الشمس..فبدأت بتسخين الجو شيئاً فشيئاً..والامير يتضايق من شدة الحراره..وزادت من ضغطها عليه فما كان منه الا أن خلع جبته..ساعتها قالت الشمس للريح..إذهب وخذ جبتك فهي هديتي لك..الحاجه نبيهه لم تتابع مجريات القصة..فقد كانت مشغولة بزجر الدجاج (والغنيمات) ليخرجن الي الحوش..فالحاجه نبيهه بالرغم من نباهتها التي لا يدانيها فيها أحد..فشلت في ملاحظة ذلك الاعجاب المتنامي بين زوجها وصديقتها(رشيدة)...والتي كانت تأتيها من حي(المربعات) بين الفينة والفينة تشرب معها القهوه...واحياناً تحضر معها(عموداً) مملوءاً طعاماً شهياً يسيل له اللعاب..وقهوه إثر قهوه..والعشق يكبر بين زوجها ورشيده..وكان عبدالرحمن كلما وجد زوجته تمشط لها شعرها الطويل يرتجف كما القصبه في الوادي وتسأله نبيهه..يا راجل مالك بتترجف؟! فيرد عليها بأنه يشعر ببعض الحمي..ويالها من حمي حولت حياة نبيهه إلي جحيم .

    لا يزال الوقت مبكراً علي الحكم بالغاء هذه الرحلة فالساعه الآن قد تجاوزت الثامنه بقليل..وبدأ القلق علي وجه(علم) ولكن هاهما راكبان يتقدمان نحو الباص..إنهما عروسان..نعم عروسان..وأعتليا درج البص بأناقه لا تصدق..هرع الجوكر وأخذ عنهما الشنطة السامسونايت الكبيره وأختها الاصغر وترك لهم الثالثه..ولاحظ الجوكر الشبه الشديد بين الحقائب الثلاثه..ودفع العريس عروسته برفق وكأنه يخشي عليها من ملامسة قوائم كراسي البص..إنها وفاء من مدني..وعريسها المهندس حيدر مغترب بالسعوديه..ووفاء هذه أدهشت أولاد وبنات كسلا وحيرت عقولهم..فقد تعودت علي الخروج عصر كل يوم من الفندق والتنزه علي شاطئ القاش الذي فاض بصوره لم يتعودها أهالي كسلا..نعم وفاء هذه جعلت فتيات كسلا وهن الغارقات في الجمال حتي النخاع يتأملنها في ذهول كلما مر بهما العروسان..حيدر يعمل بالسعوديه منذ عدة سنوات ووفاء تعمل موظفة بامانة الحكومه بمدني..ومن فرط جمالها تباري شعراء المدينه القدامي والجدد في وصفها..ووفاء أجمل انسان في مدينة مدني تقريباً وانت لا شك تدري حجم أهمية مدني في مثل هذه المسائل لذلك كان من الطبيعي أن تحول بنات مدني الي وصيفات فبالله عليك تخيل معي كيف يكون..
    * * *

    فرجت والله العظيم..فرجت..همههم(علم) (خرتووم..بالليل يا شباب توتيل) خرجت من فم الجوكر كمطلع أغنية شبابية وما يميز الجوكر أنه أحياناً يتعاطي الشعر القومي ويحاول تجويده ما أمكنه..
    (وفجأة دب النشاط في (علم) ومساعده فقد تقدم نحو الباص كل من أدروب وأوهاج..والمستر(هارتمان) وصديقته(ريناتا)..اربعه ركاب دفعه واحده..والبقية تأتي..).
    * * *
    لم يدر بخلد الجوكر وهو يوجه الراكبين الجدد نحو مقعديهما بأن هذين السيدين هما أدروب وأوهاج ـ فقد غيرا ملامحهما تماماً..قصوا شعرهم الذي يشبه(القطية) وأرتدي كل واحد منهم بنطالاً وقميصاً وحذاءا..ووضعا نظارتين سوداوين علي العينين..ولكن أين(السروالوك) (والشوتال) والصديري الزي التقليدي لقبيلة الهدندوة ؟ لا أثر لها جميعاً ذلك أن كلاهما هارب من العدالة..بل ومطلوبين للمشنقه..لقد كانا ضحيتين للجمال..نعم وللاسف الشديد..قتل أدروب أبوفاطمة من أجل بلقيس وقتل أوهاج أوشيك من أجل النسيم..وتتلخص القصة في ان اوهاج هذا كان يرعي الابل في سهول القاش مع حفنة من اصدقائه الرعاة..وقد هام حباً ببلقيس رائعة الرائعات في دلتا القاش..والدها عمده وأمها سليلة ملوك البجا وصناديدها..ومن فرط عشق أوهاج لبلقيس تنادي بقصتهما الركبان..وتقدم أوهاج يطلب يد بلقيس..ولكن والدها العمدة ولثأر تاريخي توارثه أباً عن جد لم يوافق..وجن جنون الفتي وصار يهيم علي وجهه بين الجبال أياماً وليالي يدوزن القصائد ويبكي..وكان أهلوه يبحثون عنه فيجدونه مرمياً أمام كهف من الكهوف تقرض أطراف سرواله الفئران..وجربوا كل الاولياء والصالحين ولكن لاشفاء من بلقيس..ثم ومن غير ميعاد جاء أبوفاطمه من نواحي (همشكوريب ) وهو أبن خالة بلقيس..تلقي قدراً لا بأس به من التعليم وعمل في إحدي شركات الطرق التي تشق تلك الانحاء حتي مدينة (هيا)..وجاءت لحظات الزفاف قاسية وقاتله بالنسبة لبلقيس التي لا حول لها ولا قوة..جمّلوها وأهرقوا عليها العطر والزيت..وخرجت مجلوة بالطيب كالشمس في رابعة النهار..وعندما أسلمت يدها اليسري لابوفاطمه وأقتادها نحو العربه التي ستذهب بهما الي كسلا..إنشقت الارض فجأه عن أوهاج وفي لحظه أرتجفت لها الجبال والانهار أغمد خنجره في صدر أبوفاطمه وخر كلاهما علي الارض..العريس وهو يسبح في بركة من الدماء وأوهاج وكأنه خرقة قماش ولا حراك..هاج الناس وماجوا وأرسلوا في طلب العمده وأنطلقت العربه بأبوفاطمه نحو أروما في محاوله يائسه لإسعافه..وفي الطريق الي هناك أسلم الروح الي بارئها..ومن ثم أودع أوهاج السجن الكبير باروما..أما أدروب فقد كان يعمل في مكتب المدير برئاسة مشروع دلتا نهر القاش..شاب يمتلئ حيوية ونشاطاً..أحبه رؤساءه وكل العاملين برئاسة المشروع..ولم يكن بإمكانه مداراة إعجابه بإبنة عمه النسيم الطالبة بالثانوي العام..الفتاه المحيّره أو فالنقل المعجزه..لم تكن جميله فحسب بل إنها كانت تشع نوراً تماما كالنيون..فقد لاحظت والدتها أنها لا تجد أي أية صعوبه في تحديد موقع إبنتها من بين أخوتها ليلاً عندما تغضب عاصفة ( الهبباي ) وتلون الكون بالظلمه..إذ ان النسيم ترسل نوراً خافتاً ينداح من بين وجنتيها علي من حولها..وسافرت أمها حتي كسلا لإحضار الرقي والتمائم..وقد خافت علي النسيم من هذا الاشعاع المنساب من جسدها..وعندما كبرت النسيم ظل هذا الامر سراً بين أفراد أسرتها يتكتمه الجميع..وفي ذات يوم والتلميذات في المذاكرة ليلا داخل الفصل إستعداداً للإمتحانات انقطع التيار الكهربائي فجأه..وساد هرج ومرج في أوساط التلميذات وهن يتدافعن نحو باب الفصل..وعندما التفتن الي الوراء بدت النسيم وكأنها أباجورة تشع ضياءاً..انعقدت السنتهن دهشه وهرولت احداهن نحو الاستاذ( تميم ) أستاذ العلوم الذي كاد أن يغمي عليه من شدة الرهبه..هتف في سره..سبحان الله العظيم..ودنا من النسيم يسألها في رعب..يابت إنتي نصيحه..يابت إنتي شديده؟ أيا..شديده..أيا نصيحه يا أستاذ..أي كيمياء هذه التي حولتك الي قطعه من (الفوسفرس)..؟!
    وشاع خبر النسيم في أروما وكان أدروب أول من ُهرع الي منزل عمه مع شقيقه أبوآمنه..ومنذ ذلك اليوم نصب أدروب وشقيقه أبوآمنه نفسيهما حراساً للنسيم في غدوها ورواحها من والي المدرسة..وفي المساء يعقدان رماحهما أمام منزلهما وكأنهما جنوداً من جنود سيدنا سليمان..ولكن أوشيك ابن تاجر الخردوات باروما قرر أن يمتطي العنقاء ويخطب النسيم..وكان وفدا رفيع المستوي علي رأسه ضابط الشرطه وضابط المجلس ورهط من أعيان أروما..وباركت أسرة النسيم الموضوع وتحدد موعد الزفاف..ومرة أخري يتحول الزفاف الي مأتم مع إختلاف الاداه المستعمله في الحادث..كانت هذه المره بندقيه(أبو عشره)..وأثناء الحفل الاسطوري الذي أقيم بهذه المناسبه تقدم أدروب في ثبات غريب نحو العريس الجالس وسط قريباته وكف المغني عن الغناء وأدروب يصوب بندقيته نحو أوشيك وتجمدت الدماء في عروق الحضور ثم طاخ وآه خرجت من فم أوشيك وفي برود سلم أدروب نفسه لضابط الشرطة الذي كان موجوداً وقتها بمكان الإحتفال..ولكن الاحداث تبدو أحياناً في غاية الغرابة..فقد حدث تمرد خطير داخل سجن أروما بينما كانت سلطات السجن تجهز أدروب وأوهاج لإرسالهما للسجن العمومي ببورسودان لتنفيذ عقوبة الاعدام وكان الجناه هذه المرة من إحدي الجماعات الثورية بإحدي دول الجوار..إستولت علي مخزن السلاح وقتلت عدداً من الحراس الذين تصدوا لهم..وأمروا كل المساجين بمغادرة السجن.

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثالثة
    وفي خضم تلك المعركة الرهيبة و الشرطة تطوق السجن تذكر أحدهم العريف (شقالوا)..الذي يعمل ضمن القوه المناط بها حراسة المدينة ..ومعروف عن شقالوا هذا أنه الاول في الرماية علي السودان وأنه فتي شجاع لا يخشي الموت..وجئ بشقالوا..وتقدم نحو الثوار وكانوا أربعه..تصدي له أحدهم من أعلي سور السجن وأمطره بزخات من الرصاص..وحدد شقالوا الهدف واطلق رصاصة واحده أصابته في رأسه فهوي نحو الارض وهو يصرخ تماماً كما في أفلام(الكابوي) خرج زميل له من(القرقول) حيث كان يسيطرعلي مخزن السلاح فتناوله شقالوا برصاصة فأرداه قتيلاً..ومن ثم تقدم نحو الثائر الثالث الذي تراجع ليحتمي بعمود الكهرباء في ساحة السجن وبدأ يطلق عاصفه من الرصاص نحو شقالوا فما كان منه إلا أن سدد نحوه رصاصه عبر الفتحه الموجوده بعمود الكهرباء فأرداه قتيلاً..وتجمهر سكان أروما وتابعوا ذلك الفلم الحقيقي برعب شديد..ولم يجد المتهم الرابع بداً من التقهقر نحو السوق وأتخذ من جوالات الفحم المرصوصة أمام أحد المتاجر ساتراً وأطلق وابلاً من الرصاص نحو شقالوا وفي لحظة خاطفه أستغل الاخير محاولة المتهم الانسحاب الي داخل المتجر فأصابه بطلق ناري فخر صريعاً نحو الارض..وعندما أستلم المواطنون شقالوا وحملوه علي الاعناق كان كل سنتيمتر بقميصه قد قُد أو احترق..ومن ثم جاء مدير الشرطه فأمر بترقيته لرتبة الرقيب الاول ومنحته رئاسة الشرطة بالخرطوم ترقية إستثنائية فأصبح الصول شقالوا..ولكن تبقت مهمه عسيرة بإنتظار الشرطه وهي إعادة الفارين من السجن ومن بينهم بالطبع أدروب وأوهاج..
    (خرتووم..بالليل..ياالله علينا..يامسافر عديل..) ذلكم هو (الجوكر) لايدخر وسعاً في إجتذاب المسافرين..وهاهم الركاب يتوافدون..
    (الخرطوم..الخرطوم) الجوكر يردد وأحياناً يقوم بتلحينها..ويشدو بها كأغنيه..وأحياناً أخري يتوقف للرد علي مشجعي الفرق الاخري لدي مرورهم به..وهاهي عربة دكتور ماجد تتوقف ويخرج منها رجل وإمراة..هتف(الجوكر)..مرحب دكتور ماجد ومن لا يعرف دكتور ماجد في كسلا..فهو شخصية رياضية وإجتماعية من الدرجه الاولي..همس دكتور ماجد في أذن(الجوكر)..أسمع يا كابتن..ده الوالد والوالده..تخلي بالك منهم لغاية الخرطوم..طبعاً..طبعاً يا دكتور..في حدقات عيوني يا(دوك)..شكراً يا جوكر قالها دكتور ماجد وهو حزين لحال الناس هذه الايام..فالكل يتثاقف. أستلم الجوكر العفش وأجلس الراكبين في مقعدين أماميين..الحاج خليل والحاجه عيشه لم يقتنعا بالفوضي (الحاصله) داخل البص..إيه ده يا حاجه عيشه..ما قلنا لك نجي لحد هنا بعربيتنا..قلت السواق مش ولابد..دلوقت ورينا حتعملي إيه مع السخانه دوت..والله يا شيخه دماغك قويه وناشفه وما بتسمعي الكلام..الحاج خليل من أهالي حلفا القديمه علي الحدود مع مصر وكانت له بقالة متواضعة قريبة من مكتب الدلال المعروف الحاج عبدالكريم بالقرب من مسجد التوفيقيه يدخنان الشيشه أما حاجه عيشه فهي من حي التوفيقيه ووالدها مثله مثل الحاج خليل يعمل بالتجارة و لديه أيضاً بقالة صغيره وسط السوق..وكان حاج خليل في صباه شغوفاً بالغناء..فهو يغني في الحفلات العامة والخاصة وأغانيه سائده حتي اليوم في حلفا..وما أن يبدأ الحقل و يرفع عقيرته بالغناء ..حتي تهرع الي باحة الحفل عشره بنات دفعه واحده وهن الحرونات الشحيحات وقد لمح الحاجه عيشه في حفل زفاف أبوحديده الفوال المعروف..ولم ينم ليلتها.. وظل خيالها مسيطراً عليه حتي الفجر..خطبها مساء اليوم التالي تأكيداً لمبدأ الحب من أول نظره..وحاجه عيشه كانت ذات جمال لا تخطئه العين.. عاشت طفولتها في الاسكندريه مع خالها وعندما غادرت الاسرة نهائياً جاء وأستقرت بحلفا..ومضت الايام وأنجبت لحاج خليل ثلاثه أبناء..عصمت وماجد وتيسير..وعندما كبر عصمت وصار فتي يافعاً..قال عمه عثمان لوالده..إبعت الواد لمصر يا خليل أخوي إسمع كلامي وإنت مش حتندم..وعمل خليل بنصيحة شقيقه وأرسل عصمت للقاهره وأعطاه كل العناوين المتاحه بمصر ليساعدوه في الحصول علي وظيفة..وبعد مضي أقل من شهر أرسل لهم عصمت خطاباً يخبرهم فيه بأنه إستلم عمله كبائع في إحدي محلات (الاناتيك) بخان الخليلي..وكان عصمت يتميز بالهدوء الشديد..ولا شأن له بأحد.. ويبدو أنه كان علي موعد مع أكبر مصادفه ستغير مجري حياته وتقلبها رأساً علي عقب..فقد دخل المحل ذات مساء ملياردير فرنسي إسمه(رافينو) بصحبة زوجته(إيزابيلا)وإبنتهما الوحيده(تانيا) وكانا يمضيان فصل الشتاء كعادتهما بالقاهرة هرباً من ثلوج أوروبا..ولاحظ الخواجه أن عصمت هذا يمتاز بالهدوء واللباقه ويناوله طلباته دون أن ينبس ببنت شفه..فقرر في نفسه إصطحابه معه أثناء الزيارة لكسر ضوضاء وزعيق(إيزابيلا)..وافق عصمت علي ذلك العرض..وبعد إنقضاء العطلة أكمل له المسيو رافينو إجراءات سفره واصطحبه الي باريس..وشيئاً فشيئاً تعود عصمت علي أجواء باريس وصار السائق الخاص للصغيرة (تانيا)..وذات ليله وعندما كانت تانيا تحتفل هي وأصدقائها بعيد ميلادها السادس عشر..لعبت الشمبانيا برءوس الجميع ومن بينهم بالطبع تانيا التي شربت حتي الثماله..وبنهاية الحفله أصرت علي أن تقود عربتها بنفسها لتوصيل بعض أصدقائها الي أماكن سكنهم إلا أن عصمت رفض إعطائها مفتاح العربه..وتحت تهديدها ووعيدها أعطاها مقود العربه إلا أنه أصرعلي أن يركب في المقعد الامامي قريباً منها..وبصعوبه شديده تمكنت تانيا من توصيل أصدقائها لكنها وفي طريق العوده إصطدمت هي والسيارة وعصمت بعمود كهرباء واصيبت بجرح عميق في جبهتها فأنبثقت الدماء منها كالنافورة..عصمت إستلم المقود وأدار العربه الي الخلف وانطلق بها الي أقرب مستشفي..وهنالك قرر الطبيب أنها محتاجه لعملية نقل دم مستعجله..عصمت قال للطبيب خذ ما تشاء من دمي يا خواجه ولما كان الظرف حرجاً ولا وقت لسحب الدم من عصمت في زجاجات..فقد ربط الطبيب وريده بوريدها وسحب كذا زجاجه تماماً كما تفعل الطائرات وهي تتزود بالوقود من الجو..وعندما أستيقظت(تانيا) من تأثير البنج..أدرك عصمت أنه سكب في جسمهاعصارة كل التمور والالبان التي تلقاها منذ أن كان طفلاً في عامه الثاني..
    سمع الملياردير(رافينو) بما حدث وكافأ عصمت بأن زوجه من إبنته(تانيا) التي أنقذ حياتها..ولم يكتف بذلك بل ساعده في الحصول علي الجنسية الفرنسية..وفي ذات يوم ماطر..وحلفا نادراً ما تعايش المطر..وصل الي الحاج خليل إخطار من بنك باركليزd.c.o..بأن المسيو عصمت من باريس قد فتح له حسابا بأسمه بالعملة الحرة علي الرقم 205 فاصله313 فاصله13 علي 14 وأودعه نصف مليون دولار أمريكي..
    * * *

    تململت الحاجه عيشه من طول مكوثها داخل الباص فقد جلس الحاج خليل والعريس تحت ظل شجرة المانجو العتيقة يتجاذبون الحديث وبقيت هي وأكواي وأبنتها إضافة الي العروس داخل البص..ليست هذه المرة الاولي التي تزور فيها إبنها الدكتور ماجد بكسلا فهي الزيارة الثالثة أو بالاحري الزيارة الرابعه إذا وضعنا في الإعتبار زيارتها لماجد عند زواجه من(ندي) مع شقيقاتها أم الحسين ومروه ورقية..فقد أصررن علي زيارة ماجد لدي وصولهن من حلفا ليباركوا له زواجه من(ندي) ولكن شقيقاتها وقعن في خطأ فادح بمنزل إبنها ماجد..فقد انهمكت هي و(ندي) القادمه من الخرطوم في إعداد الغداء للضيفات العزيزات..وقامت ندي بإعداد المائده بان وضعت اربعه اطباق ثم إناء مملوء ماءاً وعدداً من الاكواب..وقالت لهن تفضلن بالجلوس للغداء..وفي الواقع لم يكن علي المائده سوي الخبز والماء.. ولكن لم هذه الاطباق يا تري؟..تساءلت أم الحسين..أجابتها مروه وهي الاكثر إحتكاكاً بالاغراب لابد أن هذه الاطباق لغسل الايدي..وهكذا صبت كل واحدة لاختها الماء في الطبق الذي أمامها وطفقن يجففن أياديهن باكمام قمصانهن..وفي هذه الاثناء عادت(ندي) وهي تحمل حلة الطعام سعيدة بضيوفها ولكنها فوجئت بالاطباق وهي شبه ملئ ماءاً فما كان منها إلا أن أعادت الطعام ثم أخذت الاطباق من أمامهن وعادت باخري نظيفة..حاجه عيشه التي كانت تراقب الموقف..وبختهن علي هذه التصرف اللاحضاري..شقيقتها رقية شتمتها وشتمت بنات الخرطوم في شخص ندي..إذ لم يكن هنالك داع أصلاً لمثل هذه الاساليب.. ولكن رقية لو دخلت منزل الحاج عبدالواحد بالخرطزم إثنين ورأت العز والبذخ الذي يحيط بكل شئ لالتمست العذر(لندي)..ومن في الخرطوم لا يعرف الحاج عبدالواحد..فهو أكبر مصدر للضأن لمنطقة البحر الادرياتيكي..وكل قطعة لحم تشوي أو تسلق في يوغسلافيا وما جاورها من بلدان من حر ماله..الحاجه عيشه أحبت ندي وأحبت طفلتيها ميساء وميسون ودكتور ماجد هو أقرب أبنائها الي نفسها وهو الذي رفع رأسها عالياً اما أهلها وعشيرتها.
    أما العروس وفاء فقد أسندت خدها علي زجاج النافذة وأستسلمت للنوم..خاصة وأنها لم تنم الليلة الماضية..فقد تدفق نهر القاش بصورة مخيفه الشئ الذي جعل المسئولين يبثون النداءات للاهالي عبر مايكرفونات المساجد..لاخذ الحيطة والحذر درءاً لخطر الفيضان بينما ظل بوق قدبم يرسل صفارات الانذار المتقطعة..وعلمت وفاء أن هذا البوق يخص البلدية وهو من مخلفات الحرب العالمية الثانيه..وكانت مونيكا أحسنهن حالاً وظلت تثرثر وتحكي الحكاوي الطريفه وإنطباعاتها عن كسلا لوالدتها..بلهجتها..أما(أكوا ) التي كانت تستمع اليها شبه نائمه فقد أكتفت بترديد عبارة(مش كدا ؟!)

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الرابعة
    لكم يعشق هذه السحب العملاقة وهي تدنو قريباً من فضاءات كسلا المفعمة بالخضرة والجمال وكأنها تريد ملامسة كل إنسان بها وهي تغادر .. ولو كان الأمربيد (علم ) لأعتذر للقلة القليلة من الركاب التي انضمت لرحلته نحو الخرطوم البعيدة ..سبعمائة كيلو متر يمشيها كل يوم من وإلي ..وثلاثة ليالٍ في الأسبوع يعيشها بالخرطوم بعيداً عن زوجته الحبيبة ( نعيمه ) ..ولكنها المعيشة الصعبة ولقمة العيش التي تضطرك أحياناً للتضحية ببعض الأشياء التي تحبها ومنها بالطبع أمسيات نعيمه زوجتك الرائعة ( نعيمه ) المربية الفاضلة التي تغرس في الأطفال حب الأوطان والقيم الدينية السمحة .. تقف أمام طابور الأطفال قبل أن يدخلوا للفصل وهي شامخة كنخلة نيلية وتقول .. نشيد العلم ..وتغني الحناجر الصغيرة بكل العنفوان الذي باستطاعتهم ( نحن جند الله جند الوطن .. إن دعي داعي الفداء لن نخن .. نتحدي الموت عند المحن .. نشتري المجد بأغلي ثمن .. ) ثم .. تكبير .. الله أكبر ..ألله أكبر ..تهليل .. لا إله إلا الله ..لا إله إلا الله ..صفا ..إنتباه .. معتداً مارش .. لكنك يا عزيزي الفاضل ( علم ) لاتنسي أنك ملزم بالسفر وفوق سقف عربتك تلك الطرود من الفاكهة الطازجة وإلا فإنها ستتلفوتتحمل أنت تبعات التأجيل ..علي كلٍ فلننتظر قليلاً لربما..وقبل أن يكمل ..
    توقفت عربه تابعه للجيش وترجل منها اثنان من الجنود .. الرقيب الضي والجندي عبدالرسول وكلاهما من أبناء المسيرية وكانا بكسلا في مأمورية قصيره وهما الآن في طريق عودتهم لقيادتهما العسكرية ب (القضارف..) وأستلم الجوكر حاجياتهم واستبقيا أسلحتهما علي كتفيهما وللتو توقفت عربه أجرة ونزل منها رجل أثيوبي وبصحبته فتاه بيضاء..ثم عربه أخري أقلت علي والشيخ وكلاهما مزارعان بالسواقي الجنوبية..وقبل أ، ينتهي الجوكر من ترتيب ذلك الكم الهائل من الحقائب والطرود فوق سقف البص عاد الدكتور ماجد مرة أخري وبصحبته دكتور سيد أخصائي الجراحة بمستشفي الخرطوم والاستاذ هاشم المحامي بامدرمان..وقد أحدثت عودته المفاجئة العجائب في الحاجه عيشه..وناولها دكتور ماجد عبر النافذة بعض المأكولات..وقال لها..هل نسيت يا حاجه أنك مريضة بالسكري..تناولي إفطارك وخذي جرعة من الدواء الذي معك..وودع أصدقائه بالاحضان بعد أن عرفهم بوالده ووالدته..وهكذا أنتهت ساعات الإنتظار القاسية..وطلب(علم)من (الجوكر) أن يتأكد من الحقائب والطرود أعلي الباص..
    أعطي(الجوكر شارة البدء لعلم بأن أدخل أصابع يديه في فمه ثم أطلق صافره تشبه تلك التي يأتي بها رواد الشعب بسينما كسلا لاسيما عندما يكون المشهد فاضحاً وإذ يقترب الخائن من البطل وهوساه عنه ثم اتبع صافرته تلك بـ (ياهوو) طويلة..وعندما عبر البص كبري القاش باتجاه الخرطوم كانت المياه تلامس حافة الشارع وقد تجمهرت أعداد غفيرة من الناس..معظمهم أتي للفرجة وليس لديه أي تصور عما يمكن عمله إذا ما أنفلت القاش متخطيا السدود..العربه تحازي المطار وعبر النافذة أرسل الركاب النظرات الجانبية باتجاه كسلا التي بدأت تغيب شيئا فشيئاً..في البداية بدأت وكأنها أم تكشف أثدائها لترضع طفلها..ثم أخذت جبال التاكا شكل اليد الممدو4ة محبة وعطاءاً ومن ثم تحول المشهد الي ما يشبه أكمام الوردة..ومرت سحابه عريضة احتوت حسناء الشرق المشرقة ولا يكاد الرائي يلمح بعد ذلك شيئاً.
    وبالقرب من احدي قري الرشايدة المحاذية للطريق مرق كلب ضخم من بين شجيرات الماسكيت من أمام البص..وصرخ ركاب المقاعد الامامية(حاسب حاسب) إلا أن (علم) دهسه دون أن يختلج له جفن..اخيرا جلس الجوكر علي صندوق الماء المثلج وأخرج من لفافة كانت تحت إبطه طعامه..وبدأ يقضم فيه بتلذذ..أدروب همس في أذن أوهاج..السواق نمرة(2) تأكل لوحدها إفطارها..أوهاج رد عليه مازحاً..(كرامتوك لرقبتوك).
    أسترخي الجميع واطلق كل راكب العنان لافكاره..حاول دكتور سيدإعادة تشكيل حركة التاريخ بهذه المنطقه..وتساءل بينه وبين نفسه تري كم من الحروب والغزوات مرت من هنا..جيوش وآليات ومعدات تحملها العربات وأحياناً الحمير باتجاه الشرق..نعم حروب وتذكارات..قوافل العرب الرحل وهي تجوب تلك الاصقاع تنشد الخضرة والماء بعد أن ضمنت الوجه الحسن وزركشت له الركائب وحفظته في قلب القافلة وأشرعت له السيوف..إذ لا يسلم الشرف الرفيع من الاذي..حتي يراق علي جوانبه الدم وهناك قطاع الطرق واللصوص والانتهازيون حتي في هذا الركن النائي من الكون؟! نعم..تلك النماذج من البشر تنمو وتزدهر في كل مكان..وفي جميع المناخات..وحتي في عمق اللامكان واللازمان..أما الاستاذ هاشم المحامي فقد كان مهموما بالآم وأوجاع هذه البلد القاره..عاين المساحات الشاسعة الممتدة حتي الافق وأدرك أن الجغرافيا تكذب عندما تقول لنا ان السودان مليون ميل مربع..اذا كانت المسافه من كسلا للخرطوم سبعه ساعات بهذه العربة التي تكاد تكسر حاجز الصوت..من كسلا وليس بورسودان..أما اذا اردت السفر تجاه الابيض والنهود وسودري غرباً..فأحرص يا صديقي فأنت تحتاج الي أيام وستجد انك وبعد أسابيع من السفرلم تبتعد عن جبال النوبة..التي هي في وسط السودان..وان ينسي الاستاذ هاشم لن ينسي كيف ان الطائرة الفوكرز ظلت تحلق ثلاث ساعات من جوبا للخرطوم..كل هذا ونحن في العمق ولم نذهب نحو الاطراف..وعلي الجانب الآخر..كان المستر هارتمان يتحدث الي دكتور تسفاي الاثيوبي الجنسية حول الغرض من زيارته لهذا البلد بينما إنهمكت كارولين كريمة تسفاي من أمها الامريكية تتبادل الكتب والمجلات مع ريناتا صديقة المستر هارتمان..هؤلاء القوم يعشقون الاطلاع..خاصة في السفر..وحتي داخل المدن..أما نحن فنكتفي بالصحف..
    دكتور تسفاي أستاذ في علم الكيمياء العضوية بجامعة متشجان والمستر هارتمان أستاذ لغات بمدينة كاسل بالمانيا كل واحد منهما أخذ رفيقه في أحاديث لا تنتهي..وفي هذا الاثناء عطست وفاء الجالسة أمامهما مع عريسها المهندس حيدر..عطسة أجبرت المستر هارتمان علي أن يقطع حديثه هنيهة ثم وفي أدب جم قال لها عبر الممر..(قوزند هايت)..إلا أن وفاء أردفت العطسة بأخري أرق وأندي وكأنها تداعب أوتارقيثاره..ولكن ما معني ذلك أيها السيد..تدخل حيدر في الحديث..قوزند هايت ..معناها بالمانية بالصحه..فماذا تقولون أنتم..قال له المهندس حيدر أما نحن فنقول يرحمكم الله فيجاوبنا من عطس بعبارة..يغفر الله لنا ولكم..وهل يدخل ذلك أيضاً في العبادة ؟! تساءل المستر هارتمان..إنه والله لإمر مدهش أن يكون التدين عاملاً ثابتاً في كل حركه وسكنة من سكناتكم معشر المسلمين..هل تعلم يا أخي أننا كالمان شباب.. من النادر أن نصلي قبل الاكل كما كان يفعل آباؤنا..إذ لا وقت لذلك البته..وتبادل الجميع الاحاديث والتعليقات المرحه..وكان الجو رائقاً داخل البص لولا سحب الدخان التي تتصاعد من الأستاذ هاشم المحامي الذي ظل يدخن سيجاره إثر سيجارة حتي ان المستر هارتمان لم يخف تبرمه من ذلك فطلب منه بإنجليزية رصينة أن يكف عن التدخين لأن ذلك يضايقه..وشيئاً فشيئاً خفتت الاحاديث وتحولت الي ما يشبه الهمسات ثم خيم السكون علي الجميع إلا من صوت عجلات العربه وهي تدغدغ الاسفلت..الشيخ يتململ وعلي يغط في نومه..أي مصيبة هذه التي أخرجتك من السواقي..الشيخ يوبخ نفسه..هل تترك سنيه وتسافر للخرطوم؟ قالت لك دع أخي يسافر لوحده..ولكنك لا تسمع الكلام وكأنك بلا إحساس..علي أستيقظ فجأه وسأل الشيخ:
    • بتقول في شنو يا زول؟
    • قلت ليك(اليانمار يطير..طيار أبريش من الدريش)
    • منو من المزارعية ما كايس اليانمار؟
    • علي الطلاق تغير ليه الزيت يوم الجمعه..ما يقيف إلا الجمعه الجاية..
    الشيخ لم يتابع بقية الكلام إذ طار بذهنه نحو عشقه الآوحد(سنية) يناجيها بحرقة وأسي..ايه يا سنية( ما هردت كبدي بسماحتك ودلالك..)
    علي يستيقظ من نومه ويسأل الشيخ..
    • دحين راجعت الفلوس آآ الشيخ؟
    • نعم نعم يا علي من ألف لستين ألف جنيه.
    • برافو عليك.

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الخامسة
    كانت مونيكا كلما نظرت بإتجاه شارع الاسفلت الممتد بلا نهاية والذي يؤجل لقائها المرتقب مع جارلس لحسم موضوع زواجها منه إما ((Yes أور No))..تصطدم عيناها بعيني(الجوكر)..وظلت المقاعد الخلفية تطلب الماء(بإستمرار) وهاهو الجوكر يغدو ويروح في خفة ونشاط يوزع الابتسامات يمنة ويسرة..ذلك لأنه يتعمد الاحتكاك بكتف (مونيكا) في كل مرة..إلا أن الرياح تأتي بما لا يشتهي الجوكر..فقد همست مونيكا في أذن أمها لتحول بينها وبين تصرفات الجوكر الصبيانية..فقامت (أكواي) وواجهت(الجوكر) وشتمته بكل ما لديها من مفردات عربية وغير عربية..ولطمته علي وجهه لطمة أطارت صوابه..وتدخل الركاب من كل حدب وصوب لتهدئة الموقف.. وفى خضم تلك الجلبه والضوضاء..طاش في ذاكرة الجوكر (ذلك الشغب) الرهيب بإستاد كسلا..فقد احتسب الحكم ضربة حره غير مباشره ضد حارس مرمي(الميرغني) لأنه تقدم بالكرة بضعة خطوات قبل أن يطلق الكره..ووضعت الكره علي بعد خطوات من خط المرمي..وشكل لاعبو الميرغني حائطاً بشرياً من كل اللاعبين ووقف الجوكر قريباً من الكره بإنتظار زميله ليرسلها له..وعندما أعطي الحكم إشارته بتنفيذ الضربة..إنقض الجوكر علي الكره فأخذت معها حكم المباراة والحارس وأستقرت في المرمي فوقع الحكم مغشياً عليه..وضجت المسطبة الجنوبية وزأرت والحكم غير قادر علي إعطاء إشارة بإحتساب هدف..وهُرع رجال الاسعاف وحملوا الحكم الي خارج الملعب ورجل الخط يحاول استنطاق الحكم(الكورة هدف صحيح مش ؟ )..وأقتحم الجمهور الملعب وقذفوا الكراسي والزجاجات الفارغة وكل ما وقع بأيديهم وكانت فوضي لا تصدق..وعندما شعر ضابط الشرطة المكلف حبفظ الامن داخل الاستاد بأن الشغب قد يتحول الي كارثة..تحرك بخطي ثابتة نحو منتصف الملعب وأخرج صافرته وأطلقها معلناً نهاية المباراه ، ودخل جنود السواري وعملوا علي إخلاء الاستاد من الجمهور تحت دهشة اتحاد الكرة والمتفرجين ، تري هل يخول القانون ضابط الشرطة صلاحيات انهاء المباريات ؟!! ولم لا..عاد الجوكر بوعيه ووجد علم وقد أوقف العربه وسيطر علي الموقف وعمل علي تهدئة(أكواي) ولكن لم ينجح تماماً ..فقد واصلت(أكواي) احتجاجها كلما رغبت في ذلك.
    ران الهدوء مرة أخري علي الباص..ولم يمض وقت طويل حتي صرخ الركاب بالجانب الايمن بصوت واحد(الإطار..الإطار)..علم استدار ونظره علي الشارع ليعرف ما يحدث فلمح أحدي الإطارات الخلفية للعربة وقد غادرت موقعها وانخرطت بإتجاه الخلاء الموازي للاسفلت وهي تسير بسرعة الصاروخ وكأنما قد ركبها جان..علم إستخدم براعته المعهودة وبحركات بهلوانية عاد بالعربة من نمرة(5) الي نمرة لا شئ وأوقفها خارج الشارع..لم ينتظر الجوكر الباص ليتوقف تماماً وطار في الهواء ثم صار يعدو خلف الإطار وكأنه يطارد الخصم داخل الملعب ..وترجل الجميع ما عدا الحاجه عيشة واكواي ومونيكا والعروس الفاتنه وفاء..ولكن يبدو أن هنالك ماكينة داخل الإطار فقد أنطلق لا يلوي علي شئ جرياً وقفزاً.. وبعد جهد جهيد تمكن الجوكر من السيطرة عليه وعاد به وهو يلهث ولدي اقترابه من الركاب صفقوا له بحرارة وكأنه قائد طائره أجلسها بهدوء علي المدرج ورد عليهم بالطريقة اليابانية..انحناءات سريعه متلاحقة..أقترح (علم ) علي الشباب من الركاب العودة حوالي كيلومتر بحثاً عن(الصواميل) التي تثبن الإطار والتي لابد أن تكونقد تناثرت قريباً من الاسفلت..تبرع الاستاذ هاشم وعلي والشيخ الرباطابي والمهندس بالعودة ولكن وبعد ذهابهم بلحظات أطرق الحاج خليل ملياً وهو يردد الله! ثم يا أسطي من فضلك..لحظه من فضلك..نحنو بدل ما نفتش الحاجات دوت..ليه ما نأخد حبه من كل إطار ونمشي حالنا؟! علم ودكتور سيد..أجابا بصوت واحد..ده الكلام الصاح..
    لم يكن الطقس الخريفي الرائع حاراً ولا بارداً..فقد كانت نسمة من نسمات ما بعد الظهيرة توشوش في وجوه الجميع وقد لاحظ الاستاذ هاشم أن خصلات كارولين تتطاير وتعود لتلتئم مرة أخري وكأنها مروحة ومن ثم تستقر علي الكتفين..كارولين الابنه الوحيده للدكتور تسفاي من أمها الراحلة كارولين..وقد أخذت إسم والدتها التي ماتت أثناء الوضوع بسبب الضعف والاعياء الذي كان يسببه لها ادمانها المخدرات..أما كارولين الصغيرة فقد أخذت من الامهره اللون الذهبي الوهاج ومن الامريكان القد الممشوق..تدرس علم النفس بالجامعة التي يعمل بها والدها..أما ريناتا..التي تأبطت ذراعها وأنتبذت بها مكاناً قصياً بعيداً عن أعين الركاب..فقد عاشت طفولتها مع والدها ووالدتها بمدينة صغيره بالمانيا أسمها(كورباخ) ليست بعيده عن مدينة(كاسل) التي كان يعمل بها صديقها أو فلنقل خطيبها هارتمان..وعندما بلغت ريناتا سن المراهقة آلت علي نفسها وصديقتها العفريته(سوزي) تدمير كل العلاقات الزوجية المستقرة في محيطهما..فكانتا تتصيدان الازواج الذين تجاوزوا سن الخمسين فتنصبان شباكهما حولهم تماماً كما تفعل العناكب..وتعاملت بعض الزوجات بردود الافعال فهجرن أزواجهن وأعتبرت اخريات عاقلات أن الامر لايعدو عن كونه نزوة طارئه..وأن الزوج العاقل لا يمكن أن يفرط في فردوسه العائلي من أجل مراهقتين كريناتا وسوزي..ثم أنتقلت ريناتا لتعمل بمدينة كاسل والتمست العزاء والسلوي من وحدتها القاتلة في الرسم وجمعية الرفق بالحيوان..وكان هارتمان عضواً بارزاً في الجمعية..ونظرة من هنا وهمسة من هناك..ورحلات خلوية وجبلية..والمستر هارتمان يسلم قياده تماماً لريناتا يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر..وأخيراً حزم أمره وأعطي صديقتها(جزلا) ابنة صاحب أكبر صيدلية في المدينه أعطاها أوامره لتحزم حقائبها وترحل..وأستوعب الصغيرة ريناتا أو ربما هي التي إستدرجته بمكرها المعهود..ريناتا أخرجت من حقيبة يدها عدة أسكتشات..كأفكار عامه عن بعض الاشياء التي لفتت انتباهها بكسلا..هذا الاسكتش مثلاً يصور سيّده جالسة علي(عنقريب) وأخري جلست علي الارض ومدت رجليها..أسكتش آخر يمثل أحد أبناء الهدندوة بزيه المعروف وقد وضع سيفه علي كتفه ..وخلف الصورة تظهر جبال كسلا بتضارسيها الغريبة..هكذا فجأة ينهض الجبل من لا شئ..أتفهمين؟! قالت ريناتا ذلك لكارولين التي كانت تستمع اليها بإهتمام شديد .. يبدو لي وكأن ملكاً قديماً قد قام ببناء هذا الجبل..شكله يناقض كل قوانين الطبوغرافيا ويحطم جميع النظريات الجيولوجية...المستر هارتمان أستمتع بالفترة التي أمضاها بكسلا وتعرف علي عدد من الشباب صنعتهم التعرف علي السياح( وقودمورننق ياخواجه) و(هاوآريو ياخواجه) ومن ثم يتبرع بكل وقته لمرافقته..المستر هارتمان الذي تجول في (الملجة) بسوق كسلا لشراء الطماطم وبعض المحال الاخري كان يتحدث اللغة العربية بطلاقه وهو يتجول مع صديقته في سوق الفواكه والخضروات لذلك تمكن من التواصل الحميم مع الباعة والمواطنين ..وتحلق الجميع حول العربة وهم يتبادلون التعليقات المرحة..إذ لا أمل في الوصول الي الخرطوم هذه الليلة..
    المستر هارتمان حاول أن يقنع الدكتور سيد بنمط الحياة الغربية..ناسياً أن دكتور سيد تخصص في إنجلترا ويحمل زمالة الجراحين الملكيين ولا أدري ان كان هذا تصنيفاً أم أن تلك الزمرة من الجراحين تجري عمليات للعائلة المالكه فقط وتوقف الأستاذ هاشم عند كلمة الحرية..هل هي وسيلة لتفعل ما تشاء أم منهج لتعلم مراعاة حقوق ومشاعر الآخرين..المستر هارتمان يعتقد أن أفريقيا لا تزال بحاجة لإعادة ترتيب أولوياتها..فالكلام عن الحرية في ظل الجوع والجهل والمرض ليس سوي ترف..هارتمان دافع عن وجهة نظره بحراره لكنه بينه وبين نفسه يعترف بأن الحرية وبصفة خاصة في إطار العلاقات الشخصية بين الرجال والنساء في أوربا قد دمرت سعادة الجميع..لقد تنقل عبر مشوار حياته بين عشره صديقات..مارس معهن الحياة الزوجية دون زواج ولا حتي أي رباط..خمسه منهن هجرنه دون سابق أنذار وكاد أن ينتحر عندما وجد رسالة من(هايدى) الاكثرهن تفجراً وأنوثة تقول له فيها أنها قررت تركه والسفر الي أستراليا مع رجل أعمال أمريكي يعمل في ذاك البلد..وهو نفسه كان قاسياً مع خمسة أخريات آخرهن(جزلا) ما ذنب(جزلا) وقد عاشت معك خمسه سنوات بذلت خلالها كل زهور شبابها وصباها لاجل عينيك القلقتين..

  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الخامسة
    غير أن أثنين من الركاب ظلا بعيدين صامتين لا ينفعلا بما حولهما..وقفا غير بعيد من العربة وقد أنزل كل منهما بندقيته ( الجيم ثري ) من علي كتفه وحملها من نصفها بيمينه وكأنهما يقومان بنوبة داخل المعسكر..إنهما الرقيب الضئ والجندي عبدالرسول وأخيراً وليس آخراً تمت إعادة الاطار ا..وفجأه يقف علي والشيخ وهما يصرخان بأعلي ما يستطيعان..وقف البص يا أسطي..وقف البص يا زول وقف..الفلوس انسرقت..بسم الله الرحمن الرحيم..همهم(علم) وهو يبطئ العربه..فلوس منو يا جماعه؟ والله ستين الف جنيه..البوليس طوالي..عليّ الحرام يا فلوسنا ياالبوليس..الاستاذ هاشم وقف وسأل الجميع بنهج جماهيري متفرد: أيها الاخوة يا رفقاء الدرب لقد أجتمعنا علي خير ونود أن نفترق علي خير..رجاءاً..اكرر رجاءاً من عثر علي أموال هؤلاء الاخوة يتكرم الآن وفوراً بإعادتها لهم..وسرت همهمة في أوساط الركاب(يعني إحنا حرامية)..كانت تلك أول كلمة ينطق بها الرقيب الضي منذ بداية الرحلة..علي العموم يا أخوانا..الجوكر يلخص الموقف..نحن إقتربنا من خشم القربة..وسنعرج علي الشرطة .
    مش حاتفتش يعني مش حاتفتش..عم خليل يوجه كلامه للجاويش..وكانت عملية التفتيش قد بدأت إثر تدوين البلاغ..يا حاج القانون بقول..ماتورنيش القانون..قانون بتاع إيه..مش راح إتفتش..هنا تدخل الضابط المشرف علي النقطة وأخذ عم خليل الي مكتب مجاور.. إهدأ يا عم ..إهدأ ووريني ليه ما عاوز تتفتش..أسمع يا حضرة الضابط..انت تعرف تقرأ وتكتب؟! الضابط رجع خطوتين الي الوراء وأرسل زفرة قوية دليل تبرمه من السؤال..طبعاً يا عم بعرف أقرأ وأكتب.. هنا أخرج عم خليل من جيبه رزمة من الاوراق وأخرج من بينها دفتر توفير بالعملة الحرة علي أحد البنوك المشهورة..أتفضل أقرأ بنفسك..كم الرصيد بتوعي؟!الضابط دخل في شبه كوما وجلس علي الكرسي عندما قرأ(البالانس).339.000 ثلاثمائة وتسعه وثلاثين الف دولار يا حاج؟!! أيوه يا إبني نحمد ربنا..لا خلاص دلوقت أعتبر اني فتشتك بنفسي..كانت لحظات التفتيش بطيئة ومخيفة بالنسبة لادروب وحسنا فعلت الشرطه بتركيزها علي متعلقات الركاب دون التفرس في وجوههم أنه يكاد يجزم بأن بلقيس وبرغم ما حدث لن تتمني له حبل المشنقه...وهو لم ينس أن يملأ عينيه من وجهها الذي بدأ مرعوباً وجميلاً في ذات الوقت وكانت عيناها الواسعتان هما الملاذ الاخير إذ تهاوي نحو الارض... وسمع وهو في داخل السجن أن والدها العمدة حرم علي نفسه الثوب الجديد ولذيذ الطعام وحتي الإبتسام مالم يأخذ بثأره...ان أكثر ما يخشاه أن يطال الانتقام أحد اخوته الصغار الذين كم يحبهم..أيه يا بلقيس لو تعلمين كم أعاني...وكم أتالم...ولولاك لما تعمقت اخاديد الجراح...ربما كنت أهديك روحي وساماً (ويهدون عينيك وعدا بلا حدود)...تري بماذا لوحوا لعينيك الرائعتين يا بلقيس..الذهب والفضة والحوش الكبير؟ وأنا ألم يفكروا بما سيحدث لي إن أخذوك مني؟ وقد أخذوك يا بلقيس يا وجعي ويا جحيمي...كيف فات عليهم أنني أحبك وقد عرف تلك الحقيقة السهل والجبل وحتي وحوش الغابة...بلقيس يا بلقيس..يا رائعتي البعيدة يا أملي الذي ضاع وانطوي...بالله عليك حاولي ان تفهمي أنني ما كنت لاقتل ...وأنا الذي لا يقتل ذبابه...لولا أنهم أخذوك مني...ليتهم علموا أنك هنا بين ضلوعي وليس الحوش الكبير...والان يا بلقيس كيف حالك...هل تترملين وأنت لم تدخلي بيتك الجديد بعد..أنا السبب..اعلم ذلك يا حياتي...وليتني أموت لو كان ذلك يرضيك.
    أخذت عملية التفتيش وأجراءات البلاغ نحو الساعة والنصف...الشيخ انتحي بعلي جانبا وقال له...أسمع يا علي أخوي..الزول بموت في مالو وعيالوا .. نحن نمشي مع البص الخرتوم.. ولما نصل الخرتوم نكورك أنا وانت...يا بوليس انسرقنا...علي وجد هذا رأياً وجيهاً...خلاص يا اخوانا يعوضنا صاحب العوض قالها في مسكنة...يعني خلاص نواصل؟هتفت العروس وفاء في فرحه طفولية طاغية لكن...لكن ياأخوانا والحديث هنا للضابط بنصحكم وبترجاكم تبيتوا في خشم القربة وتواصلوا الصباح لان الظروف الامنية غير مستقرة في غابة الفيل...
    معقول؟ ليلتين بعيداً عن نعيمة؟ علم يقلب في المسألة بينه وبين نفسه لا يا جنابو إطمئن..مابتصيبنا حاجه إن شاء الله..ثم أنو معانا جنود السودان كلهم ما شايف عمي الشاويش والعسكري المعاه؟! الرقيب الضئ أومأ برأسه علامة الموافقه علي تحمل مسئولية البص علي الأقل حتي القضارف حيث وجهته الاخيرة.
    أنطلق (علم) مجدداً بعد أن تباري قشلاق الشرطة في إكرام الركاب..وتدفقت(سرامس) الشاي والقهوة وكذلك الماء البارد..وتجمع الاطفال وهم يستمتعون بالفرجة علي ذلك الخليط الغريب من الركاب..وأصرت زوجة الضابط علي وفاء بأن تنزل من الباص وتذهب معها للمنزل لحين الانتهاء من إجراءات البلاغ..الا أنها إعتذرت لها بشدة وكانت كارولين مندهشة من الاهتمام الذي تلاقيه العروس وفاء من الجميع داخل وخارج البص..وشرح لها والدها أن الناس هنا يقدسون الحياة الزوجية ويحتفون بأي عروس أياماً وليالي بحالها..كارولين قالت لوالدها..اليس لهم مهام أو وظائف يؤدونها..ومن تراه يقوم بأدائها نيابة عنهم خلال أيام العرس..والدها قال لها تعلين أن الامر هنا جد مختلف عن أمريكا..فهنا الامور تسير علي كل حال في كل مرفق من مرافق الحياة ولا تسأليني كيف لأن الاجابة ستكون صعبة..كارولين قالت لوالدها..أراهنك يا(دادي) لو أن والدتي عاشت في هذا البلد لما فكرت في ادمان المخدرات..إن الناس هنا يضحكون من أعماقهم..لا يحملون هماًً..ولا يعيشون أي نوع من الازمات..والدها لم يوافقها علي هذا الراي ..الازمات موجودة يا كارولين ولكن الاهالي هنا قدريون بطبيعتهم..فهم يسلمون أمرهم الي الله ويترقبون..وعلي أستعداد لتقبل كافة النتائج نجاحاً كان أم فشلاً..أظنك يا أبي لا تزال تحن لهذا النموذج من الحياه بالرغم من أنك لا تهتم كثيراً بالامور الروحية هذه..فأنت كعالم بايوكمستري تؤمن بفلسفة المعادلات وبالحقائق العلمية المحضة دون سواها..لا يا صغيرتي ليس الامر كذلك تماماً والا تحولت الي آلة.
    حل الظلام وبلغ التعب أيما مبلغ بالجميع ونام كل واحداً جالساً بالصورة التي تريحه(الراحة يا يما وين؟) همست الحاجه عيشه في وجه الحاج خليل..لسه يا شيخه..وأنت شفت حاجه؟!..
    لقد دخلنا غابة(الفيل) وكلها ربع ساعه ونخرج من هذه المنطقه الخطرة..علم يطمئن نفسه..لقد سمع عن (الشفته) ولكنه لم يلتق بهم عبر خمس سنوات من الاسفار المتصلة بين كسلا والخرطوم..يا ساتر...يا ساتر..!! علم يردد هذه العبارة وهو يبطئ من سير العربه فقد ظهرت له عبر مصابيح العربة ساق شجرة ضخمة وضعت بفعل فاعل علي عرض الشارع وقبل أن يوقف العربة تماماً خرج له مسلحان وهما يركضان بسرعة نحو باب العربة بالجانب الآخر وأطلق ثالث لهما زخات متتالية من الرصاص في الهواء لإرهاب الركاب وعندما فتح لهم الجوكر باب العربة وهو يرتجف من الخوف صاح أحدهما بنبرة تهديد واضحه..(كلو في محلو).. وبلغه (التقرنجا) وجه زميله بتفتيش الركاب وأخذ أي أموال او مصاغ ذهبية بحوزتهم..بسرعه صرخ في زميله..هنا وقف دكتور تسفاي وخاطب الاثنين بلغتهم..ما معناه أن ما تقومان به عمل جبان ولا يشرف أي أثيوبي يعيش في السودان..قائد العملية التفت ورد عليه بلهجته الاثيوبية (باليه تن افتغمد) ومعناها أجلس ولا تكن صفيقاً..دكتور تسفاي جلس وهو يرتجف من الغيظ..وكان أول راكب خضع للتفتيش هي العروس وفاء..ونسبة لانها تزينت بالذهب منقمة رأسها حتي أخمص قدميها فقد شرع الاثنان في خلع مصاغها..وحاول المهندس حيدر إبداء نوع من المقاومة الا أن المحامي هاشم نصحه بالتزام الهدوء..اكتفي الاثنان بما عثرا عليه لدي وفاء وكانت تجلس في مقعدين خلف الباب تماماً..ونزلا بسرعة مغادرين الباص وفي غمرة تلك الدقائق الصعبة كان الرقيب الضي والجندي عبدالرسول قد أحكما خطتهما همساً وتوزعا الادوار المناسبه من زاوية الوضع الذي جلس فيه كلاهما..وفجأة أنطلقت مجموعات من الرصاص في ظهور الجناة ولما ينزلان من الاسفلت..فوقع كلاهما علي الارض مضرجين بالدماء فما كان من ثالثهما الا أن لاذ بالفرار وهو يطلق الرصاص عشوائياً لتغطية إنسحابه..كارولين صرخت آخ آخ..ويبدو أن طلقاً نارياً قد أصابها في كتفها نزل الرقيب الضي والجندي عبدالرسول من الباص وسيطرا علي الموقف ووجدا ان كلا الرجلين قد فارق الحياة..فاستعادا مصاغ العروس وفاء وحملا الاسلحة الخاصة بالجناة وعادا بسرعة للباص وطلبوا من الركاب أن يترجلوا لمعالجة موضوع الشجرة التي تسد الطريق..وفاء أصيبت بهستريا وكارولين نزفت دماءاً غزيرة ولعل من حسن الصدف أن يكون دكتور سيد موجوداً فقام بربط ذراعها بعمامه تبرع بها الشيخ وأنطلقت العربه وهي تنهب الأرض بإتجاه القضارف.
    إثنان التزما الصمت طوال الرحلة وكان دورهما سلبياً تجاه ما حدث ويحدث وظل كلاهما غارقاً في تأملاته الخاصة كلُ يبكي علي ليلاه..بلقيس حبسوها يوم زفافها ورفض أهلوها طي(البرش) حتي يأخذوا ثأرهم..والنسيم منعت من الذهاب للمدرسة وتحول منزلهم الي متحف لا يؤمه الجمهور..فقد كان كل من يمر قريباً منه يشير لمن معه قائلاً..شفت البيت ابو شبابيك خضرا داك نعم ..نعم ...داك بيت ناس الصبية القالو بتنور..البعض أخذ الموضوع علي أساس أنها أوهام وتخرصات..وآخرون قالوا لله في خلقه شئون..وظلت النسيم سراً محيراً وموضوعاً مثيراً للجدل لاسيما بعد وقوع حادث القتل..الشرطة أرسلت أوصاف أدروب وأوهاج لكل نقاط الشرطة في السودان..وقد خمن كلاهما ذلك..ولما علموا بأن الباص سيذهب مباشرة الي مركز الشرطة بالقضارف ارتعدت فرائصهما..وتحسس كل منهما رقبته وتأكدا أن حبل المشنقه لا يلتف حولهما..لقد بذل المحامون جهوداً مضنية للحيلولة دون شنقهما والحصول علي أحكاما بالسجن..وعند النطق بلفظة(الاعدام شنقاً حتي الموت) أستقبل كل منهما الحكم بمشاعر مغايرة..أدروب تقبل الامر بإعتبار أنه شئ متوقع وأنه قد فعل ما فعل أقتناعاً منه بأن العقوبه من نوع الجناية وهو ليس نادم علي شئ..أما أوهاج فقد أدرك بشفافيته المفرطة أن ما قام به كان خطئاً فادحاً وأنه بذلك الجرم قد تسبب في شقاء وتعاسة بلقيس وفقد تعاطفها معه الي الابد.
    هُرع بكارولين ووفاء الي المستشفي بمجرد وصول البص الي المركز الشرطة بالقضارف ومعهم دكتور سيد ودكتور تسفاي وبالطبع المهندس حيدر..بينما قام الاستاذ هاشم المحامي وعلم والجوكر بشرح ما حدث للشرطة ودون البلاغ بإسم الرقيب الضي لاسيما وأنه سينزل بالقضارف وأخذت أقوال عبدالرسول وعلم والجوكر كشهود وأستمرت الشرطة في أستجوابهم حتي الساعات الاولي من فجر اليوم التالي وعندما أعيدت كارولين من المستشفي بعد أسعافها والتأكد من أن الجرح كان سطحياً ووفاء بعد تهيئتها بالعقاقير المنومة أصيب المهندس حيدر بالاحباط عندما علم بأن المصاغ الذهبية الخاصه بعروسته ستحتجز كمعروضات..بذل الاستاذ هاشم المحامي جهوداً جبارة مع الشرطة والقاضي المقيم فسلمت المصاغ للمهندس حيدر بالتعهد علي أن يحضرها للقضارف متي ما طلبت منه الشرطه ذلك..
    وتناول الجميع الشاي بالفطائر الذي وصل في رتل من الاواني أرسلتها نسوة قشلاق الشرطة كبادرة كرم لا أكثر..وأخذ الجميع مقاعدهم وتواصل المشوار.
    مضت الامور بسلام..وقد تزينت السهوب ببساط سندسي أخضر..وكان المستر هارتمان يصور كل شئ..أخذ صوراً لركاب الباص الواحد تلو الآخر وأبطأ قليلاً أمام وفاء ومونيكا وقد أستعادتا مرحهما..وطلب من الحاج خليل أن يبتسم حتي تخرج الصورة بشكل جيّد..وكأنه قرأ افكار الحاج خليل في تلك اللحظة..لقد أدرك أنه أرتكب خطأ جسيماً عندما وافق علي السفر بالباص بينما العربة المرسيدس التي أشتراها لهما عصمت أثناء اجازته الاخيرة قابعة في باحة الدار..السواق مالو يا حاجه عيشه..طيب لما نشوف آخرتها إيه..الحاج خليل منح(الخواجه) إبتسامة عريضة تحولت الي ضحكه وإهتزاز..والله يا خواجه..ما عندكش هم أبداً..كذلك قام المستر هارتمان بتصويرعلي والشيخ الرباطابي اللذين سعدا كثيرا بذلك ..اثنان فقط تبرما من التصوير الجاري داخل الباص وهما أدروب وأوهاج..وطلب الجوكر صورة ثنائية مع كارولين..التي قامت بعد لأي وجهد وهي تحمل ذراعها داخل رافعة من القماش..وابتسمت للمستر هارتمان بقدر ما تستطيع وندت عنها صرخه خفيفه(أوو..ماقنفسنت) ومضت الرحلة لطيفة ورائعه لم لا وقد شارفت العربه علي الوصول الي السودان علي حد زعم الدكتور سيد..فالسودان عند التكنوقراط..هو الخرطوم..قال ذلك وهو يشرح لدكتور تسفاي أهمية الخرطوم بالنسبة للسودانيين..ولكن قل لي يا صديق متي تأسست الخرطوم ولماذا سميت بهذا الاسم..دكتور سيد أسقط في يده..وتوجس خيفة من البت في مثل هذه الامور..سميت الخرطوم يا عزيزي لانها تقبع في نقطة التقاء النيل الابيض بانيل الازرق..وإذ يتشكل نهر النيل بعد ذلك التزاوج فأنه يشبه الي حد ما خرطوم الفيل..هل قلت غابة الفيل..لا...لا يادكتور..لا أظنك ستنسي ذلك المكان..نعم بالتأكيد لقد كان شيئاً مرعبا أن تري شخصا ما وهو يموت ولو كان ذلك الشخص هو الذي تسبب في إصابة كارولين بطلق نارى..أنت تعلم أن لهؤلاء (الشفته) دوافعهم..فقد سمعنا بهذا التنظيم منذ الستينات..وحتي يومنا هذا لا كابح لهم سواءاً داخل الحدود الاثيوبية أو السودانية..أعتقد أن الظروف الإقتصادية التي يعيشها هؤلاء القوم تحتم عليهم البحث عن المال بكل الوسائل ولعلهم استمرأوا حياة الخارجين علي القانون هذه.

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقةالسادسة
    العربه تتهادي فوق الاسفلت والنهر يتلوي ليس ببعيد والسكون المطلق يلون الناس والاشياء داخل المركبة..وقد بلغ الاجهاد بكل من بالعربة مبلغاً عظيماً..وكانت شتلات الذرة الممتدة حتي الافق تبعث علي التفاؤل والامل وقد ندمت مونيكا ندما شديدا علي مغادرة كسلا..أحست بالفقد لنظرات بشير الدافئة التي كان يلفعها بها وفهمت منها أنه يكن لها اعجابا صامتا حتي لا يجرح مشاعر آمال..هل أحبت بشير؟ انها لاتدري كنه مشاعرها نحوه..لقد كان لطيفاً معها وهي لن تنسي ذلك المشوار الحالم علي ضفاف نهر القاش..أنها لاتشك لحظة في صدق احساسها نحو جارلس ولكنه في الفترة الاخيرة بدأ يتهرب منها ويتجاهلها..وقد أدركت بغريزتها الانثوية أن أملها في جارلس قد وهن إن لم يكن تبدد..ان عشقها الاوحد كان لـ(أتيم)...ذلك الفتي الذي يدرس الحقوق بالجامعة وكان عندما يعود للقرية في الاجازة الصيفية يضفي عليها أجواء البهجة والحبور..فهو يجيد العزف علي آلة الجيتار..وكانت(مونيكا) تشعر بالغيرة والالم عندما يغني أتيم أغنية الفنان شرحبيل أحمد(طفلة من الخرطوم) فتغادر المكان متعللة بالارهاق...وسرعان ما تنقضي أيام الاجازة فتذهب هي مع أمه حتي(بور) القريبة لتكون في وداعه..وكانت لحظات الوداع تمزقها فلا تملك سوي الدموع تذرفها بحرقة وأسي وأتيم يلوح لها من علي الباخرة مودعاً وعندما تعود أدراجها للقرية تظل ساهمة أياماً بحالها وترفض القيام بأي نشاط...فلا تطحن الذرة ولا تحلب اللبن عند الفجر ذلك أنها تحتضن صورة أتيم الغائب ولم تعد تسمع عنه شيئاً..أنها الحياه يا مونيكا لاتدوم علي حال...تمنحنا السعادة بسخاء غير أنها تعود فتصادرها بقسوة...والان هاهو خيال بشير يلح عليها الحاحا شديداً....أنها لا تأسي علي آمال ذلك أنها قد أسرت لها قبل مغادرة كسلا بأنها قد حسمت أمرها وأرسلت خطابا الي عصام بالسعودية تخبره فيه أنها توافق علي الزواج منه بعد أن أقسم لها أنه تخلي عن علوية...أما(ريناتا) فقد أعادها ذلك الاخضرار الموحي الي بلادها وأعتراها شعور غامض بأنها تحتاج هذه اللحظة أحضان أمها..وتمنت لو أنها عادت طفلة كما كانت..تتزلج علي الجليد داخل الصالات المغلقة مع صديقاتها وأصدقائها وهم يمضون عطلة نهاية الاسبوع في ثنايا الغابات وفوق سفوح الجبال...يوقدون نارأ عظيمة تطرد البرد الذي يتسلل الي العظام ويرقصون حتي الصباح....ولكنها أين هي الآن من أمها؟
    (آي سي) تلك إذن ( حنتوب ) المدرسة المعروفة التي كانت كثيرا ما سمعنا عنها باثيوبيا ومن بعد بامريكا..نعم أنها المدرسة التي تخرج منها رئيس الجمهورية..ووصولنا لها يعني أننا بتنا علي ابواب (وادمدني).
    (علم) يهدي من سير العربة ويوقفها عند نقطة التفتيش..وهنا وقفت العروس وفاء وقد أنبسطت أسارير وجهها الجميل...أخيراً يا حيدر..همست في رقة متناهية لعريسها..ثم أستدارت دورة صغيرة والقت نظرة علي الجميع وكأنها تودعهم بها...ولاحظ الجميع أن آثار الاعياء بادية عليها بعد الهستريا التي أصابتها عقب الحادث..ونشط الجوكر في تسلق الباص لانزال الحقيبتين التوأمين وبعض طرود الفواكه...ولا أخال وفاء ستأكل فاكهة هذا العام فقد فاحت رائحة (الجوافة ) من الطرود بالداخل..وحولت كل شئ بما ذلك الناس والاشياء الي جوافه وفي هذه الاثناء كانت عربة شرطة تنحدر من ناحية الكبري ببطء شديد..وتوقفت قريباً جداً من الباص ونزل منها ضابط شرطة وعدد من الجنود بعضهم بالزي الملكي..علم أعتقد أن حادثة غابة الفيل قد شهدت بعض التعقيدات وربما يطلب منه العودة الي القضارف..في هذه الحالة...حدث نفسه...سأعود بعد أنزال جميع الركاب وأختصر الرحلة للخرطوم..سأله الضابط هل أنت(علم)...نعم...أنا علم...الديكم راكبين بأسماء دكتور سيد والاستاذ هاشم المحامي..أعتقد ذلك...إذن هما مقبوض عليهما بموجب قانون أمن الدوله وعليك بتسليمنا حقائبهما فسوف نأخذهما للقسم...ومن عجب أن دكتورسيد والاستاذ هاشم أستسلما للامر دون إبداء أي أعتراض وكأنهما يتوقعان مثل هذا الإجراء..سيطر جو من الذهول والوجوم علي ركاب الباص وهم يشاهدون الشرطة تقتادهما خارج البص..دكتور سيد حاول تهوين الامر علي الركاب..وودعهم بحرارة شديدة خاصة دكتور تسفاي وأبنته كارولين وحدثهما بإنجليزية باهرة كيف أنه كان يرغب في أن يظل بقرب الصغيرة كارولين لمتابعة حالتها حتي الخرطوم ومن ثم مواصلة علاجها في عيادته الخاصة.

  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الأخيرة ..مع كل الود
    تحرك البص من جديد ولاحظ الجميع أن عربات الشرطة المحملة بالجنود المدججين بالسلاح تجوب الشارع حتي تقاطع طريق كسلا مع طريق واد مدني الخرطوم..وكانوا قد شاهدوا واحدة أو اثنتين بالقضارف قبيل مغارتهم لها في ذلك الوقت الباكر..الحاصل أيه يا جماعه ..ما تفهمونا أيه اللبيحصل ده..هكذا تحدث الحاج خليل ولو علم بالمهام الخطيرة التي أوفد من أجلها دكتور سيد والاستاذ هاشم لادرك أن القبض عليهما جاء متأخراً..فقد غادرا الخرطوم قبل عشرة أيام وعرجا علي الحصاحيصا ومدني والقضارف قبل وصولهم لكسلا وعقدا عدداً من الاجتماعات السرية مع زعماء النقابات في تلك المدن للتمهيد للقيام بإنتفاضة شعبية في يوم واحد بكل تلك المدن ولعل هذا ما يفسر تزامن أطواف الشرطه في كل مكان في هذا اليوم بالذات..وقد رصدت الاجهزة الامنية بكسلا تحركاتهما..وعندما همت بالقبض عليهم أكتشفوا أنهما قد غادرا كسلا..وبالتالي أرسلوا للجهات المختصة بوادمدني لإجراء اللازم..الحاجة عيشه جن جنونها وأرتفع السكري لديها لدرجة أنه حولها الي قطعة سكر..فأنت لو رضعت من أصابع يدها في تلك اللحظات لتذوقت طعم السكر بنفسك..فقد ربطت المسكينة بين المقبوض عليهم وحقيقة أن ابنها الدكتور ماجد هو الذي أوصلهما بعربته حتي الموقف.
    عندما امتطى (علم) طريق مدني الخرطوم أدار مسجل الباص فانطلق صوت المغني (زيدان ابراهيم) ندياً وهو يردد (والله ما منى .. كل الحصل .. ما .. ما منى) وسرت رعشة في اوصال الركاب واحسوا بالطرب ولكن اين كان هذا المسجل طوال الرحلة .. ربما ضمن (علم) الخرطوم لذلك اطلق العنان للموسيقي وعاد الجوكر للطرب .. وتمايلت كل من كارولين وريناتا ومونيكا مع اللحن .. وطلبت ريناتا من هارتمان ان يشرح لها مفردات الاغنية .. هارتمان قال لها أن شخصاً ما يحاول ان ينفي التهمة عن نفسه .. انعقد حاجباها دهشة وقالت له كل هذا اللحن المتميز عبارة عن مرافعه امام محكمه .. علم قلب الشريط دونما استئذان فاذا باللحن يقول (في الليلة ديك .. في الليلة ديك) ومرة أخرى سألت ريناتا هارتمان عن معنى ذلك المقطع .. فقال لها ان المغنى سيحدثنا بعد قليل عن ذلك الذي حدث له في تلك الليلة .. ريناتا تململت وهي تقول له لقد اعتقدت ان الغناء في افريقيا ساخنا كطبول معربدة ولكن هذه النعومه تذكرني بالدنمارك .. هل كان السودان مستعمرة دنماريكية!!
    كل هذه الأشرطه تخص الجوكر .. (وتشغيل) الموسيقي من اختصاصه هو دون سواه وبدأ يردد كلمات الأغنية مع المغنى وهو يحلم (بفك التسجيلات)ويمنى نفسه بالانتقال لنادي المريخ ..أكبر أندية كرة القدم في السودان قاطبة .. وهذا ما فهمه من رابطة مشجعي المريخ بكسلا .. لذلك قرر أنه وبمجرد وصوله الخروم سيتصل ببعض العناوين التي زودته بها الرابطة وهو لن يغالي في المبلغ الذي سيطلبه من (الشياطين الحمر) .. خمسمائة ألف جنيه لا غير.
    أعمدة الدخان تتصاعد إلى عنان السماء بالحصاحيصا .. حرائق وأصوات رصاص وربما مسيل دموع تسد الافق . وتوقف رتل طويل من باصات مدني وبعض العربات الملاكي حتى ينجلي الموقف .. إلا أن (علم) ليس لديه وقت يضيعه .. يعنى الموقف حيكون أسوأ من غابة الفيل؟! لا اعتقد ذلك .. وبدلاً من ايقاف العربة .. صار يمر به وسط العربات وكأنها (فسبا) .. ولدى اقترابه من تقاطع رفاعه غمرت الباص سحابه ضخمه من مسيل الدموع .. فتحول الجميع الى مجانين .. كل الآنسات والسيدات ولولون وصرخن بما في ذلك الحاجة عيشة .. (الشطه يا اخواني الشطه) .. اصبري يا حاجة .. خدي المنديل دوت .. وكانت معركه حقيقه بين عشرات الطلاب الذين احتلوا الشارع وبين الشرطة التي كانت ترشقهم بالقنابل من على بعد .. الشيخ همس في اذن علي قائلاً .. الشي ننسرق ونضرب ونهان وكمان (بنبان ) على الطلاق دي اصلها لاحكت ولا بقت .. مرت الازمة على احسن وجه ونحن الان قد تجاوزنا (أبوعشر) ونتجه نحو (الكاملين) .. وهناك تعرضت كل العربات المتجهة والقادمة للخرطوم للرشق بالحجارة من الصبية والتلاميذ الذين كانوا يهجمون ويتقهقرون في امواج بشرية متلاطمه .. وأصيب اكثر من راكب وقد طلب علم من الجميع ان يضعوا رؤسهم بين ارجلهم .. الحاجه عيشه لم تلتزم بالتعليمات .. الحاج خليل قال لها:
    نزل راسك ما تبقيش عبيطه .. دا الرأس ما لوش غيار .. ظلت العربة تتعرض لوابل من الحجارة لدى مرورها بالقرى الموازيه للاسفلت .. انها ثورة حقيقية ومن المؤسف ان يتلقى علم كل تلك الضربات نيابة عن الحكومه .. انا اصلى (.....) علم يحتج لدى دكتور تسفاي وابنته كارولين الذين تحولا قريباً من علم تفادياً للحجارة ولكن معليش (التقع من السماء تتلقاها الأرض).
    ومن على البعد لاحت عربة نجده ترسل صفارات متقطعه وهي تسابق الريح وعندما باتت خلف البص اعطاها علم الطريق بطريقة مهذبة .. فهو يفهم مثل هذا السلوك الحضاري الذي يمارسه الناس بالخرطوم .. الواحد منهم يخلي الطريق لحين مرور الموكب .. ولكن الجنود الذين داخل البص كانوا يشيرون على علم بالتوقف .. ربنا يجيب العواقب سليمه .. لعلك ما مسحت ليك تلميذ بالظلط لحقتو كلب الرشايده .. علم يحدث نفسه نعم يا جنابو ان شاء الله خير .. ما في حاجه بس عاوزين الخواجه الشايل الكاميرا داك .. المستر هارتمان ترجل على التو فاخبره الضابط بأنه كان يصور (المظاهرة) بالكاملين من خلال نافذة الباص .. المستر هارتمان حاول ان يقنع الشرطه بأن المظاهرات شئ عادي وهي قائمة في جميع بقاع العالم من كوريا الى الاراضي المحتلة .. وهي وسيلة غير فعالة في اسقاط أنظمة الحكم .. قالها ضاحكاً محاولاً أضفاء نوع من المرح على الموقف غير ان الضابط أصّر لى انتزاع (الفلم) ومن ثم سمح للباص بمواصلة السير .. ريناتا قالت له اظنك لم تتعلم من تجربة كسلا عندما أخذت بعض الصور للسوق الشعبية فاخذتك المباحث للمركز وصادرت منك الفلم ... لكنهم لم يصادروا من ذاكرتي تلك الصور يا عزيزتي وهذا يكفي.
    وبعد يا علم كل كل قرية (المسعودية ) في قلب الشارع تماماً وعلي الجانبين علم يحدث نفسه: عاد تمشي وين انزل من الأسفلت والأمطار حولت المنطقة إلي بحيرة عملاقة .. أعود أدراجي والخرطوم علي بعد ثلاثين كيلو متر فقط .. كيف يعقل ذلك يا علم .. يا إخوه تشبسوا جديداً بالمقاعد فسوف أقتحم هذه الجموع حتي يسمحوا لنا بالمرور .. والجموع الغفيرة هربت من الشارع لتفادي الكارثة .. وقبيل الجزء الغربي من المسعودية وقف احد الشباب وهو يحمل حجراً بحجم إطار عربه واوما به نحو العربه .. علم انحرف بها محاولاً السيطره على مقود العربه وهي تتلوى كأنها ثعبان ثم خففت سيرها وبدلاً من ان تستقر على الأرض اندفعت نحو الفضاء وانقلبت رأساً علي عقب و سحابه من الغبار والدخان انعقدت فوق الجميع .. غادر المتظاهرون اماكنهم وتوجهوا نحو العربة ركضاً وهم يتصايحون: انقذوا الناس يا إخوتنا.. ومن ثم تجمهرت اعداد غفيره من البشر ..منهم ركاب الباصات الاخرى الذين شاهدوا الحادث وسائقي اللواري وآخرون ..نساء واطفالاً ورجالاً ينسلون من كل حدب وصوب.
    بدأت عملية اخراج الركاب وكان اول من خرج الجوكر والدم يسيل من على وجهه فاخذوه جانباً وهم يرددون بسيطه بسيطه .. سلامه سلامه .. ثم خرج دكتور تسفاي وابنته كارولين .. وتواصلت العملية .. ولم يصب احد بجروح خطيره وكانت كلها لا تعدوا عن كونها كدمات ورضوض هنا وهناك .. حتى الجوكر نفسه صار يضحك بعد ان تحسس قدميه ووجدهما سالمتين .. دكتور هارتمان وريناتا خرجا دون ان يصابا ولو بخدش وكذلك الحاجه عيشه .. الا أن الحاج خليل واكواى ومونيكا وكذلك علي والشيخ فقد اصيبوا بجروح لأنهم حاولوا أن يفعلوا شيئاً في وجه الطرود والحقائب المتطايره على وجوههم .. وتبقى اثنان .. ظلا محشورين داخل البص دون حراك .. علم صرخ في الناس: يا اخوانا لسه في اثنين مفقودين .. وكانا (ادروب) و (واوهاج) وتكلفت عملية اخراجهما وقتاً وجهداً مضنياً رغم الكثافة العددية للناس واخيراً اخرجا وشكلهما يوحى بانهما ميتين .. مساعد الطبيب بالقرية قرر انهما قد توفيا .. واسدل فوقهما ثوباً أبيض وقرأ الجميع الفاتحه .. ومن لم يمت بالسيف مات بدونه .. هكذا ارادة الله .. هربا من حبل المشنقه ليموتا في حادث حركه (ووب علي ووب علي يا بنات امي) .. الحاجه عيشه تبكي بصوت عال ترك اثره على الجميع.
    = الشيخ !! الشيخ!!
    = ايوه في شنو؟
    = كدى عاين بين (التنك) وعلبة (العادم) .. طرف الصرة التي بها الفلوس
    = نعم نعم .. اياها الصره.
    = اشهد ان لا إله إلا الله محمد رسول الله .. على الطلاق (القلبية انعربت) عشان ترجع لينا حقنا.
    يا ما انت كريم يارب .. يا ما انت كريم يارب. ( انتهت بحمدالله )

  9. #9
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    قصة رائعة بسرد جميل شائق وأداء قصيّ ماتع

    دمت بألق أديبنا

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  10. #10
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    قصة مشوقة وفيها صور جميلة وسرد سهل سلس
    شكرا لك

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. قراءة لأقصوصة عشرون ووجهة واحدة
    بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-08-2010, 04:22 PM
  2. عشرون سؤالا في الشوق اليك.
    بواسطة معاذ الديري في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 29
    آخر مشاركة: 02-03-2007, 03:46 AM
  3. عشرون عاماً فوقها عامان
    بواسطة بلقيس12 في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 22
    آخر مشاركة: 18-10-2006, 01:52 AM
  4. ..،~**؛؛**~،..عشرون وردة فلتنشروا عبقها ..،~**؛؛**~،..
    بواسطة نهى فريد في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 31
    آخر مشاركة: 19-06-2005, 08:51 PM