مرثاة الصّداقة وملهاة الصّديق
عاد "خالد" من عمله ، وعلامات التّعب والإرهاق والغضب تسطر خطوطها على ملامح وجهه. الوجه الذي اتَّسم بإظهار البشاشة، ولو مجاملة؛ خوفا وحرصا على أمزجة أصحابه ومَن يتعامل معهم في مكتب عمله؛ إلّا أنّ هذا الوجه سرعان ما تغيّرت سحنته إثر جدال وأحد زبوناته، وهو صاحب ملفّ في قضية ما، حلم أَن تدرّ عليه قضيّته الكثير من المال، ولكن، لعدم تحقيق ذلك، فقد وَجَّهَ أصابع الاتهام "لخالد" صديقه قائلا:
لا أخفي عليك يا صديقي أنّي أشعر بأنّك استغللت قضيّتي لصالحك، وأنّ المبلغ الذي أستحقّه أكثر ممّا تلقيته!. أدرك أنّ عملك هدفه الرّبح الوفير، لكن لم أتخيّل أن يكون ذلك من أرباح قضيّة لصديقك الذي بنى آمالا كثيرة يحققها بما توقّعه من تعويضات سوف يتلقّاها بعد إصابة العمل التي سبّبت له بعض العجز الجسديّ... أراك مثل غيرك، لا تهمّك سوى مصلحتك وجيبك!...
كانَ ضجيج هذه الكلمات شريطا يكرّر نفسه منذ لحظة خروجه من مكتبه وحتّى تهاويه على مرقده.
كيف لا وهو الذي تدَّتر بدثار العطاء والاهتمام ومراعاة ظروف قاصديه من المحتاجين الذين لا يستطيعون تسديد ما يطلب منهم، وخاصّة الأصدقاء؟ّ!...
وعبثا جلس ضاغطا على أذنيه، وعاصرا جفنيه لمحو صوت وصورة الشريط، ولم يخطر بباله في هذه اللحظات سوى "أنس" صاحبه الغالي العزيز- حتّى زوجته لم يعرها انتباها عندما سألته عمّا ألمَّ به.
هاتفَ "أنس" طالبا منه المجيء إليه بأسرع ما يمكن، وألحَّ عليه أن يفعل كلّ ما في وسعه، ويترك مشاغله؛ لأنَّ ما يشغله أهمّ من أشغاله... وعاد وكرّر له أهميّة مجيئه وذكّره بقيمته عنده، التي توازي قيمة نفسه.
مرّت الدّقائق ومرّت السّاعات، التي اعتصر طولُ الانتظار فيها مشاعره، ولم يأنس بحضور "أنس"، فعاود مهاتفته، وكان ردّ "أنس" بأن الشوارع تعجّ بالسّيارات، وأنّه ربّما يتأخّر.. ممّا زاد من غضبه، وبات يحدّث نفسه بجمل تعكس ذاك الغضب الذي يتفاقم ولا يستطيع السّيطرة على منابعه.
وأخيرا طرق "أنس" باب غرفة صديقه ودخل ليجده يصرخ بصوت مخنوق يجهد في إصداره " ألا تبَّا لك أيّها الورق الذي تسمّى مالا، ويتّهمونني بعشقك وأنا منك براء!".
اقترب "أنس" منه وقبل أن ينبس ببنت شفة، صاح في وجهه: "تخيّل يا صديقي أنّني شخص لا يهمّه سوى المال؟! ... ومن الذي يتهمّني؟ إنّه أحد الأصدقاء القدامى..
أنا الذي لا أترك شاردة ولا واردة إلّا وآخذها في الحسبان؛ كي لا أحرج من لا يستطيع دفع كلّ النّفقات ويتحمّل ما لا طاقة له به، أأستحقّ أن أنعت بالنّفعيّ ؟!... وأن أتّهم بعشقي لجيبي فقط ؟! ...
لم تبدُ علامات التّأثّر على وجه "أنس"، بل طلب من "خالد" وبكلّ هدوء، واتّزان، ورويّة أن يجلس ويهدّئ من روعه. وذكّره أنَّه اعتاد رؤيته بشوشا، منضبطا، لا يسمح لغضبه أن يفلت من عقال السّيطرة، متّزنا، رابط الجأش حتّى في الصّعاب من الأمور. فما الذي حدا به الآن؟.
استجمع "خالد" قواه واستحضر باقة الصَّبر التي جمعها طيلة مسيرة عمله، وحرص عليها طويلا... استحضرها - وهو أحوج ما يكون إليها الآن- كي يداوي بها جراحات أشواك الصّبّار التي خَرَّشت وجرّحت أَجزاء من جسده ونفسه، وليتمكّن من التّحدث إلى صديقه ويشرح له عِظم ما يمرّ به وما يعتريه.
بدأ يسرد، ويردّد الجملة التي قصمت ظهره، وأثارت ثائرته بكلمات مرتّبة تارة، ومشوّشة طورا. لكنّه ظلَّ محافظا على قالب معناها.
وأثناء حديثه الذي غصّت به حنجرته لحيظاتٍ، شَدَّ انتباهه أنَّ صديقه لا يزال يجلس بهدوء مشبّكا راحتيه، ومسترخيا على الأريكة، ويمعن النّظر فيه، دون أن يزيد على ما تلفّظ به عند وصوله، ولو كلمة.
اعتقد "خالد" أَنَّ صدمة قد أصابته جرَّاء ما يسمع ،وتأثّرًا على حاله، ولكنَّ الطّامّة الكبرى كانت عندما سمعه يقول، وبأعصاب باردة- بعد أَن أيقن أن "خالد" يريد أن يسمع منه شيئا – أَلأجل هذا الحديث تهاتفني وتطلب منّي مغادرة مكان عملي والمجيء إليك؟!...
فأجابه خالد وجفاف فمه يكاد يمنعه من الإجابة :
وهل هناك أفدح وأقبح من اتّهام صديقك بعدم الأخلاص والأنانيّة، في الوقت الذي تبذل فيه النَّفيس، وتقف وقفة البئيس لمواساة التَّعيس؟!...
أنّك إنسان يطبّق ما يؤمن به، وتعتقد أنَّ معتقداتك هي الأصحّ والأمثل. ولكن، هناك من لا يعجبه ما تفعل وما تعتقد، ولا يرى الأمور بمنظارك. لذلك، ما تراه مثاليّا وضروريّا، لا يعتبر هكذا في نظر غيرك ، وما تقدّسه قد يكون مدنّسا لدى الآخرين.
رَدَّ "أنس" محافظا على هدوء أعصابه:
هل تؤمن يا صديقي بما يؤمن به هؤلاء؟... وهل تعتقد أنَّ ما يقدسّه صديقك قد يكون في نظرك ترهات – سأل خالد بحنق ودهشة... وفي أعماقه طمع بأن تطرق مسامعه كلمة (لا). إلّا أن هذه المسامع تلقّت صفعة، عندما اخترقت قنواتِها كلماتٌ تدفّقت كسيول جرفت معها الكثير من صخور الكلام، الذي تجمّع عند المصبّ مكونا سَدَّا لا يسمح لأي صوت آخر بالعبور، هذه الصّخور نقشت بكلمات "أنس" التي مفادها: "إن الانسان يتصرّف حسب ما تقتضيه مصلحته وراحته، وليس حسب ما يريد أو يؤمن به صاحبه أو حتّى أخوه".
كلمات صدرت عن شفتين جعلتا "خالد" يتسمّر في مكانه ليراقب حركتهما الهادئة، وبثقة المستهزئ. لكنّه، لم يسمع في هذه الأثناء بقيّة ما صدر عنهما، وخيّل إليه أنَّه يرى بابين من أبواب جهنم يقذفان الحمم الكاوية!
أغمض عينيه وفتحهما؛ كي يتأكد من حقيقة من يقف أمامه.... الإنسان الذي أعزّه إعزاز نفسه. وتباهى به أمام أصدقائه، وأمام زوجه وأهله، الصّديق الذي يتعامل معه، ويدعو له، ويفكّر به بصدق أمام الله وأمام النّاس.
هل هذا الذي يقف أمامه هو "أنس" الذي استنجد به ليخفّف من وطأة ما يشعر به وما اتُّهم به؟ ألا تكفيه طعنة سكين صديقه القديم؟ هل كان واهما كلّ تلك السّنين التي قضياها معا؟... وهل كانت العلاقة علاقة لهو ورحلات، وولائم فقط؟!... وهو الذي يحسب أنّ كلّ جارحة من جوارحه تتذكّره مثلما يفعل هو!...
أفاق من غيبوبة أفكاره على صوت "أنس" الذي أظهر له حقيقة شخصه؛ داعيا إيّاه للخروج من البيت، ومرافقته إلى عمله؛ كي يتحرّر من احتلال مشاعر القهر التي فرضت على أفكاره منع التّجوال، ولا يراها تستحقّ التّضخيم مثلما فعل. إلّا أنّ جواب "خالد" كان:
الأفضل أن تدعوني لحفل تأبين صداقتنا!.
بقلم : كاملة بدارنه
( عذرا لكل الأصدقاء الأوفياء .)