الـنمـر الـمـحـنـّط
كان في الحسبان أن أبدأ اليوم في تدوين قصّة عن حب برجوازي بائس، لكنني عدلت عن ذلك لأسباب غير إرادية، وسوف أكتب عن المنصوريّة. ولعلي سوف أكون أوّل من يكتب أدباً عن هذه البقعة، وليس في ذاك مفخرة أو مدعاة للزهو، إذْ هي ليست ذرّة من ذرّات الوجود الغائبة عن المدرَكات. إنها تلك المساكن الممتدة على خطّ أفقي واحد موحّد الطلاء، مستقبلةً الغرب، وعلى الخط الذي يمتد ويتلوى، في أنشوطة كقلب الفاجر، تلقاك عن يسارك، بعد المقبرة المسمّاة "مقبرة المنصوريّة"، ومن سخرية الزمن أن المقبرة معروفة أكثر من الحيّ الصغير نفسه، فأيهما يستحقّ أن تُناط به التسمية؟! لا نطيل في مقدّمتنا (لأن من شأن المقدمات أن تفقدك قارئا لا يتحلى بالصبر). يكفينا أنك تعرف أن هذا المكان حقيقي وموجود، وإذا كانت شروط وجوده فنتازية بالنسبة لأحد فهذه ليست مشكلة الواقع.
وكما قيل، يرقد هذا الحي ومن فيه شرق الشارع العام، بل قُل على حافته، (بعد أن زحفت تعديلات الطريق بها حتى كادت تتلمس بها أنوف الحيطان)، يتنفسون ببطء وهدوء، وحواسهم المغيَّبَة تصغي إلى أصوات السيارات المارقة بجانبهم، ومن الراقدين فيه: عبد الله، وحسين. إضافة إلى باقي القاطنين، ومنهم عائلة مكوّنة من خمس وعشرين فردا، خمسة منهم زوج وزوجاته السمر، وكتاكيتهم العشرون. وأؤكد أنني رأيت تهاطلهم كالنمل الأسود على السيارات التي تأتي بزكوات الفطر ولحوم الأضاحي، وهم يجرّدونها مما على ظهورها في جلبة وخصومات كبيرة جدا، أو صغيرة جدا ، فيما بين القاطنين السمر أنفسهم (وهم الذين عرفناهم الآن)، أو بينهم وبين بعض البيض، (الذين نذكر منهم على سبيل المثال عبد الله وحسين). وكما أنّ أهل الحيّ الصغير لا يلفتون النظر إلا قليلا، فقليلا ما يلفتهم (مشتل الورد الملكي) الذي يستنشق رائحة الإسفلت العام، وهو جزء من المساحة المتراميَة التي بدأت العائلة المالكة لهذه الأرض (مؤخرا) في تأجيرها لبعض المزارعين، وتركت باقي المساحات السكنية وقفا، أسكنت فيه بضعاً وعشرين أسرة من فقراء البلد، وجددت القسم الأرستقراطيّ منه، لينتجع إليه من يشاء من العائلة بأطفالهم، لركوب لخيل في الإسطبلات المهجورة، أو لرياضة المشي، أو حتى للبحث لأحد الأطفال عن صديق من الجيران، لكي يزيح عنه شيئا من عزلته في العطل الطويلة. وهنالك تعرّف عبد الله (ابن العائلة) على حسين، فما الذي جرى لهما؟
في العاشر من أغسطس الماضي، (وهو اليوم المتوقع لعودة تغريد العصافير إلى أشجار النبق في الحيّ، بعد أشهر مديدة سطت فيها الشمس فشردت كل شيء)، انقطعت المياه والكهرباء عن القسم الموقوف من الحي، نظرا لازدحام مستأجري المزارع على مصادر الطاقة، ولم يهتم المالكون بهذه المعضلة كما ينبغي، فوقع سكّان الوقف في يوتوبيا أشدّ من الأولى: بدأت الأسر ذات الاقتدار بالانتقال تدريجيّا، وبقي الآخرون يقاسون شروط البقاء، وأصبح حسين يملأ مع الأطفال جالونات الماء من المسجد ويعود بها إلى الدار، وتأقلمت الأجساد والعيون على الرقاد بعد العشاء فورا. ثم انفرجت الأمور قليلا، عندما خلا مشتل الورد الملكي ممن فيه:
وكان ذلك إثر صباح داهمت فيه دورية أمن تسعة عمّال شرقيّين يعملون في المشتل، بغرض التأكد من أوراقهم الثبوتيّة، فلم ينج منهم سوى عامل واحد يدعى (وحيد)، وتبعا لذلك: تسلّل سكان القسم الموقوف من الحيّ إلى المشتل، ومدّوا خراطيم الماء إلى بيوتهم، واستعانوا على ذلك بوسائل سباكة بدائيّة، ومراقبة متوجّسة حتى الأنانية.
بعد أسبوع من ذلك كان عبد الله يتمشى مع حسين، وانتبه الأول إلى شتلات وأصص الزهور النائمة في ظلّ خيمتها الخضراء الصناعيّة، فخاطب حسين قائلا:
- احملها لي إلى المنزل.
قال حسين:
- لا أستطيع اليوم، أنا متعب من مراقبة الماء، ومحموم.
عبد الله:
- لماذا تكلمني هكذا؟
حسين:
- رأسي يوجعني.
عبد الله:
- احملها لي وسوف أريك النمر المحنّط في مجلس أبي.
حسين:
- لا يوجد لديك نمر محنط، وحتى لو وجد فأنا لا أستطيع.
انصرف عبد الله غاضبا، وانتظره حسين حتى اختفى وراء جدار المسجد، المؤدي إلى مدخل القصر، حيث السنترال وحارس الباب. حمل حسين في إبطيه شتلتين من الباتونيا، (لنبتتين لا يعرف ما هما)، وركض بهما إلى المظلّة التي ركزها أبوه أمام مدخل غرفتهم، وكان يجلس أمامها ليتبرّد من عناء الحرّ، في انتظار انفراج قد يأتي. وسرعان ما رأت قرية النمل ما يجري، فركض بضعة عشر طفلاً إلى مشتل الورد الملكي، ونهبوا كل ما فيه من الزهور، ومن الغد علم عبد الله بما جرى فشعر بالخديعة وانتابه حزن أسود. أما حسين فقال له أبوه:
- لماذا سرقت الشتلتين؟
أجاب الطفل وهو ينفض يديه التراب ويحاول إراحة عضلاته: إنهما ليستا لأحد.
انصرف والده ببصره عنه، فخيّل إليه أن المسألة انتهت، فزحزح غنيمته جانبا، وجلس إلى جوار أبيه على الجدار الذي يودع غروب الشمس كل يوم، كانت حركة الهواء خفيفة، وقال الأب:
- هل تعرف آخر من سيبقى على الأرض؟
حسين:
- لا!
- إنه طفل سارق، يموت أبوه وأمه، ويموت الناس، ولا يبقى في العالم أحد يسليه، سوى عنز وحيدة.
حسين:
- وما فائدة العنز؟
- تطارده بثغائها وصياحها، ولا يستطيع الفكاك منها.
حسين:
- ولماذا تطارده؟
- لأنها لا ترى أحداً من الأحياء غيره.
حسين:
- هل يشرب حليبها؟
- ليس فيها حليب، إنها تطارده عقابا له على سرقته.
حسين:
- سوف أرجمها بالحصا.
- سوف تختفي وراء صخرة وتعود، تلاحقك حتى تتعب، وتموت من العطش وحيدا.
وبرغم ذلك حمل حسين شتلتيه تحت إبطيه ودخل بهما، ووضعهما جوار سطل الماء في امتداد الجدار الصغير، لكنه لم يستطع النوم، ما إن هدأ هدير المولّدات في المزارع القريبة، ولم يبق إلا حنين الجنادب وصرّارات الليل، وأصوات الضفادع في المجاري البعيدة التي تحتضن أسرارها في جنوب وادي حنيفة، ما إن حانت تلك اللحظة حتى ازداد تململه، وبسرية تامة، حمل شتلتيه وتحرك تحت بصر أبيه الناعس، وما إن خرج حتى أراح يده متلمّسا جذع زوجته. أما الطفل فركض في رهبة الليل المقيتة، حتى وصل إلى مدخل المشتل بنفس منقطع، فتناهى إلى سمعه وقدمه صوتُ ورطوبةُ الماءِ المتقافز من بين شقوق الخراطيم، وأراد أن يعيد الشتلتين إلى موضعهما، فلاحظ حركة جسم أسود تتحفّز في العمق، وتضيء مصباحا بالبطارية، وعرفه حسين فقال معتذرا:
- وحيد، جئت لأرجع هذه.
وقال وحيد:
- لا مشكلة، خذها لك.
حسين:
- أين الباقون؟
- راحلون إلى الهند.
حسين:
- وأنت؟
- وجدت شغلا جديدا.
كرر ما قاله في المرة الأولى، (وقد بدأ التعب يغزو عضلات يديه الضاغطة لما تحت إبطيه):
- وحيد، جئت لأرجع هذه.
وقال وحيد:
- لا مشكلة، خذها لك.
وفي انهزام شمس العصر اقترب عبد الله من الرجال والصبية المتفرقين على حواف الماء، وجلس على حجر صغير أمام خرطوم الماء، ينتظر صديقه ومعه عود في يده الطريّة، ينكت به الأرض على مدخل المشتل، وجاء حسين ليأخذ دوره في طابور الماء، فسأله:
- لماذا خدعتني وسرقت الشتلتين؟
حسين:
- لأنك طالما خدعتني بالنمر المحنّط، ولأنني لم أحصل على الورد في حياتي، وأنتم لديكم ورد كثير.
قال عبد الله:
- هل تريد أن ترى النمر المحنّط؟
حسين:
- وهل هو موجود؟
- نعم، وأحلف لك، فهل تريد أن تراه؟
حسين:
- نعم، لكن أخاف أن تضربني.
عبد الله:
- لا تخف، لن أضربك، اتبعني.
تجاوزا المدخل الشماليّ، الذي يقف فيه سوداني طويل مرعب، وتحلّي مقدّمته شجيرات صغيرة ومساحة عشبيّة أخّاذة، وتردد حسين فأكد عبد الله مبتسماً:
- ادخل، لا تخف.
ووصلا إلى البهو، فراعته الأيقونات المدلاّة من ثريّات الصوالين الجميلة، والمقاعد الفخمة ذات النقوش النباتية الزرقاء الفاتنة، وأردف عبد الله وهو يقف خلفه:
- هل تريد رؤية النمر المحنط؟ انظر.
التفت، ففوجئ بقبضته تنفجر في وجهه، فانحنى على الأرض، ووجّه له ركلتين أخريين، ورفسة بباطن القدم على رقبته، ووسط آلامه خرج حسين تائها راكضا، فاصطدم بشّباك كلب الحراسة الذي انتهره بأن أرسل نباحا مريعا، ووسط مخاطه ودموعه رأى البوّابة فجرى إليها، ومن باب البهو ظهر عبد الله صائحا: - امسك امسك. لكن حسين راغ من تحت يد الحارس المعترضة كالعمود، وفقد فردتي حذائه عندما غاصت قدماه في الوحل المختلط بالسماد، في الأرض التي بدأ يحرثها عمال المستأجر الجديد، خلف مشتل الورد الملكي، ومن بين العمال المنهمكين في خاتمة جهود يوميتهم، رفع وحيد رأسه وصاح بغلظة: ابعد يا ولد.