الحصار
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
....................................
(1)
يبحث «مجدي» عن نسمة نقية لرئته التي حاصرها دخان السجائر، يبحث وهو واقف في مدخل مطار القاهرة عن نوافذ لم يلوثها غاز العوادم، ينظر خلفه إلى مسافات مترعة بالشوق، ومساحات في قلبه مترعة بالحزن، وذكريات ملؤها لوعة الحنين. كان على الطريق يلحظ أن الغازات تنشر أجنحتها الضبابية فوق المزارع والطرق، والقرى .. طفرت دمعة من عينيه، إذ تذكّر أن الجو مليء بعوادم السيارات، وعوادم الخطب السياسية الملتهبة المنبعثة في موسم انتخابات مجلس الشعب الجديد.
ها قد عثرت على حفرة هادئة، محاطة بالخضرة وزهرات النرجس الأصفر، وستدفن فيها نفسك .. أو تدفن أحزانك .. سيان! .. لماذا لا تكف عن الشكوى؟ ماذا تريد بهذا الصراخ؟ لم يعد الفرق مثيراً إلا للنفوس المجبولة على الصراخ والكذب، من السادة الكبار الجالسين على الكراسي الوثيرة إلى الفلاحين والبنائين الذين يشيدون الزرائب للحيوانات الهزيلة في الأرض المليئة بالطحالب، والجثث المسكونة بهاجس الخوف، وانتظار الموت!
يذكر آخر لقاء له مع أبي خديجة .. «مصطفى مبروك» المتشبث بأوتاد الكلمات الضالة والرؤى القديمة لمحدث نعمة:
ـ ماذا تريد مني يا سيدي؟
كأنه يتجاهل ما أريده .. أو لا يعرفني:
ـ أريد خطبة خديجة!
ـ ابن بيتك أولاً، ثم تعال واخطب خديجة!
ـ إنني أملك شقة ورثتها عن أبي في «بيت القاضي».
ـ هذا بيت تستوطنه العفاريت، ثم إن ابنتي لن تقيم في القاهرة .. لن تُقيم إلا في العصايد.
هذا رجل مخرف يسير خلف الأوهام، وبنته ليست «ديانا» أميرة ويلز؟. مستحيل أن أسير خلفك أيها المرابي القديم الذي تأكل مال الله!
(2)
قلت:
سأسير خلف خديجة في الطرق التي تتبعها، سأظل ساكناً الطرق التي تسير فيها إلى المصرف الذي تعمل فيه. حين أتأمل الطرق التي تسلكها لا أجد من البنات الأبكار من تشبهها. بحثت عن بقعة مشمسة، وهواء طلق، فلم أجدهما إلا تحت سماء خديجة.
هو ذا قدر الإنسان أن تفسد خطواته حين يصمم على أن يفعل «معروفاً» في ابنة خالته. عاجز طوال عمري عن عمل شيء مثمر. يا أيها الأوغاد حاصرتموني حتى الملال!
ها هم أقرباؤك جميعاً عاجزون عن أن يمنحوك شيئاً.
ـ أرشدني يا خليل .. عفواً، ماذا قال لك «أبو المال الحرام»؟
ـ لقد رأيته أمس يفرش حصيراً أمام البيت، ويجلس مع الصيدلي «عدنان» .. رميت عليهم السلام، فرد «عدنان» من طرف أنفه، ولم يرد «أبو المال الحرام»؟!
ـ لماذا؟
ـ يعرف أنك أخي، وحبيبي، وصديقي، وابن خالتي .. (يبلع ريقه) خديجة أيضاً بنت خالتنا، لكني لا أكلمها ولا أراها إلا من خلف حجابها، عبر زجاج النافذة العريضة ـ في الدور الثاني ـ كلما خرجت من البيت متوجهاً إلى المدرسة.
ـ إذن فمشكلتي لن تُحل؟!
ـ أبوها غليظ .. جاف يا عزيزي. كيف أذهب إليه وهو يكره كل أقارب المرحومة «عنايات» خالتنا الراحلة.
ـ أستطيع أن آخذها إلى بيت القاضي في القاهرة، وأتزوجها.
ـ لن تستطيع أن تدخل «العصايد» مرة ثانية!
ـ لا أريد أن أدخل هذه القرية!
ـ وماذا تفعل بأخيك العاجز وأولاده الثلاثة؟
ـ يتكفَّل بهم خالقهم.
كانا قد وصلا إلى مفترق الطريق. أخرج سيجارة أجنبية من جيبه وأشعلها .. أضاف خليل في آلية، وكأنه يتخلص من الكلمات:
ـ لا تحزن يا مجدي .. ستكون خديجة من نصيبك .. إنها ابنة خالتك «عنايات».
ـ أنت أيضاً يا عزيزي خليل لا تُشاركني مأساتي، وكم شاركتُك أفراحك أيها الجبان، وسيكون من نصيبك أن تفرح بي عندما أتزوّج.
سأذهب لأبيها الليلة.
سأقول له: «لا أريد مالك أيها المرابي .. سآخذها وأذهب إلى «بيت القاضي». وابق أنت أيها الجرذ الأصفر الحقير مع زوجتك البيضاء الجافة على مقاعدكم المهترئة إلى الأبد، وانعما بكراهيتكما لي».
لم أر وجه خديجة منذ ثلاثة أهلة .. ذهبت إلى بور سعيد أعمل في أعمال الحفر والبناء ـ وأنا الحاصل على بكالوريوس التجارة ـ وأولاد الأفاعي يعملون، وزمانهم يقبل وزماني يموت.
أولاد أخيك يصهل حبهم في داخلك بعد أن تتنفّس هواء الشارع الثقيل، ثم تكبح جماح غضبك على «أبو المال الحرام»!
لماذا لا يُتابع خليل مساعيه، إذ ما جدوى الشتائم وقلبُ أبيها كالزجاج الغليظ الذي لا تنفذ منه الرصاصة .. رصاصة حبك الصادق؟ .. ماذا ينفع الغضب، وأنت تطلب البسمة النقية من المرابي الذي يجلس على تل من مال حرام؟!
قالت لك أختك «سناء» إن النظرة في عيني خديجة مثقلة بالحزن، وإن زهورها تذبل، وصوتها يخفت ـ لكأنها مريضة ـ كالقمر تغيب ثم تظهر، يكاد شعاعها الأخير ينطفئ، وهي تلوذ بالنوافذ والجدران هرباً من دفقات الغاز الأسود في البيت، تطلقه زوجة أبيها، كما تطلقه في الشارع عوادم سيارة أبيها البالية، التي ينطلق بها إلى الزقازيق مرتين أسبوعيا بسرعة عشرة أميال في الساعة.
لم تستطع «سناء» أن تمنحني بصيصاً من ضوء.
«أبو المال الحرام» يركض بكلية تالفة وأخرى سليمة، ويأخذ زوجته الصفراء في حضنه، وهما يعبران البحار والمحيطات لا يعبآن بالسابح الصغير.
كم ساعده أبي في بداية حياته ـ حينما كانت خالتي موجودة ـ لماذا لم أعد أسمع الكلمات العذبة تصوغها الألسن الصادقة، حتى من أمي «خالة خديجة»؟!
(3)
تساءلت موظفة الاستقبال ببسمة مصطنعة (أو قل ببسمة متهكمة):
ـ هل أنت متخصص في إدارة الأعمال؟
ـ نعم.
ـ تقديرك؟
ـ جيد جدا.
ـ لماذا لم تُعيَّن معيداً؟
ـ الكليات لم تعد تعين معيدين.
ـ ترتيبك على الكلية؟
ـ السادس على دفعة 1982 من «تجارة عين شمس».
ـ ولماذا لم تعمل في مصر طوال خمسة عشر عاماً؟
ـ الفرص ضيقة .. أشبه بثقب الإبرة!
ـ هل تُجيد اللغة الإنجليزية؟
ـ نعم.
(أعطته استبانة ليعبئها)
(منظر تكرر خمسين مرة في البحث عن فرصة عمل بالبلاد العربية).
(4)
في استراليا يستطيع أن يبدأ من جديد .. الهدوء في المكتب يبعث على الضيق.
سأل:
ـ هل سيتأخّر المدير؟
أشارت موظفة الاستقبال إلى الحجرة البعيدة في آخر الممشى، قالت:
ـ إنه يُجري بعض المقابلات مع مهندسين زراعيين يريدون السفر إلى استراليا.
قال بصوت هادئ مثقل بالحزن:
ـ أريد استراليا! .. بعيداً .. حيث أنسى خديجة!
قالت الموظفة:
ـ جئت بعد الأوان!
أحس بالحزن يُثقلُ صدره، لكنَّ الأمل عاوده من جديد، حين رآها تكلم شخصاً آخر.
خليط من رجال صامتين ومكتئبين، وجوههم مهمومة في تأمل وحيرة، الإعلانات التي تمثلها فاتنات التليفزيون في الجهاز الضخم ذي الثلاثين بوصة لا يشد أعينهم، ولا ضجيجه يستهوي آذانهم .. عجوز روسية جدائلها بيضاء تبحث في بقايا صناديق القمامة عن غذاء .. وزعيم عربي يصرخ «بضرورة الحل السلمي مع إسرائيل، وعبثية الحرب في عصر الهيمنة الأمريكية» .. وخبير يتكلم عن «التحضر واللا عنف» .. والدخان يتصاعد من جدائل الراقصات ليضلل المصابيح في شوارع القاهرة!
(5)
قال خليل وهو يضع مرفقيه على القائم الحديدي في مدخل مطار القاهرة: أنا أعرف حقيقة سفرك، وما فعله فيك «أبو المال الحرام» بشكلٍ خاص (بلع ريقه) .. أنت تهرب يا عزيزي!
وقال له الأستاذ عبد الغفور مدرس الفلسفة ـ وهو يُصافحه في هذا الصباح المعتم:
«سيكون جيلكم من اليهود الجدد .. لستم مثلنا .. نحن عشنا في عهد هادئ رغم حروبه المتعددة وهزائمه الكثيرة .. خروجكم متعب لنا .. ممزق لمشاعرنا .. وكلامي لن يفيدك ـ الآن ـ بشيء، فقد حزمت حقائبك! .. ولن تحل مشكلتك بالسفر أو الهروب!».
ـ لم يعد هناك من أمل يا أستاذ عبد الغفور!
…
كانت أمه تتشنج، وتطلب منه أن يرسل خطاباً حينما يصل إلى استراليا، وأولاد أخيه الصغار تركوا ألعابهم، ووزير الداخلية يُلقي بياناً عن نتائج الجولة الثانية من انتخابات مجلس الشعب التي أدارها القضاء في حيدة وفي نزاهة .. وكان خليل يقول إنه لن يستطيع أن ينعم بالحياة و«مجدي» يعيش بعيداً في قارة أخرى!
«يعيش؟!!».
أود أن أعيش معك يا خليل .. لكن كل كلماتك الطيبة لن تبني لي بيتاً في قريتي، ولن تُعيد لي خديجة الضائعة الساكتة!
وأنا لا أذهب لأستراليا لأبني لي بيتاً في «العصايد»، وإنما لأكون مواطناً استراليا!
الرياض 28/10/2000م