الموت علي أنغام الموسيقي
عبدالغني خلف الله
كانت فتاة حلوة يحبها الجميع ..ليس بسبب جمالها الساحر ولا شخصيتها المرحة والمنفتحة علي الناس والحياة وثقافتها الواسعة وشغفها بالكتابة والموسيقي وإنما لأنها فوق كل هذا وحيدة أبويها ومليكة الأسرة المتوجة علي قلوب الأعمام والأخوال ..العمات والخالات وكل شباب العائلة بلا استثناء ..رحل أبوها مبكراً فعاشت في كنف أمها التي رفضت الزواج للمرة الثانية وكرست بقية حياتها لرعايتها وتربيتها كأحسن ما تكون التربية ..وفجأة وبدون مقدمات يتقدم لخطبتها شاب من أسرة عرفت بالثراء وكرم المحتد ..فهي أسرة محترمة تتمدد تجارتها في جميع أوجه الحياة بتلكم المدينة الصغيرة ..مضت لحظات الخطوبة هادئة وأنيقة لا يعكر صفوها شيء ..فقد كان الحفل مقتصراً علي الأسرتين فقط ..وصدح المغني عبر جهاز المسجل بأغنياتها التي تحبها ..إذ عرف خطيبها حقيقة ولعها بالموسيقي والغناء وعزفها الراقي علي آلة ( الكمان ) ..فأحضر معه كل ال(ألبومات) التي صدرت لذلك الفنان المعروف ..وأٌرسلت زغرودة من هنا وأخري من هنالك وتمايل الجميع طربا ًوحبوراً باستثناء الأم ..لم تكن سعيدة بذاك الحدث الاستثنائي ولم تزغرد كما فعلت شقيقاتها وشعرت وكأنما شخص ما ينتزع قلبها من بين ضلوعها ويضغط عليه دونما هوادة ....شعرت بتأنيب الضمير لهذا الإحساس المروّع ..هل هي أنانية لهذه الدرجة ؟ ..إن الزواج مصير كل فتاة وكان عليها أن تهيئ نفسها لحقيقة أن وحيدتها ستغادر هذا العش إن عاجلاً أو آجلاً ..أما الفتاة فقد كانت سعيدة لدرجة لا يمكن وصفها ..فقد دخل الفرح أخيراً منزلهم منذ وفاة والدها ..ومضت أيام وأسابيع والخطيب يزورهم بين الحين والآخر ومع كل زيارة هدية جديدة.
وذات مساء استأذن الأم لتسمح له بأخذ خطيبته في نزهة بالعربة ..وافقت دونما تردد ..وخرج الاثنان وهما يكادان يطيرا من الفرح ..لعلّه يود مناقشتها حول تفاصيل الفرح وتحديد الموعد المناسب له ..فلماذا هذه العجلة وهي تحتاج كما والدتها للمزيد من التجهيزات ..توقفت العربة عند شاطئ النهر وكان القمر بازغاً وقتها ليضفي علي الأجواء لمحة رائعة من الرومانسية ..أدخل الشريط في آلة التسجيل بالعربة لتنساب الموسيقي في رفق وتؤدة تدوزن المكان بالحب والجمال ..قال لها ..كم أحبك وكم ..وكم ..ومن ثمّ تسللت يده تداعب خصلات شعرها ..والموسيقي لا تزال تتدفق شلالاً من النشوة والحبور ..أراحت جسدها علي الكرسي فانزلقت يده لتلامس خديها وعنقها ..ولكن ما بال أصابعه تضغط علي عنقها بهذه القوة ؟** ..حبيبي أنت تؤلمني ..بت لا أقوي علي التنفس ..حبيبي ماذا تفعل ؟**** ..واليد الآثمة تنضم للأخري لتضغطا معاً ..الموسيقي تزداد عنفواناً وأنفاسها تعلو وتهبط ..وفي محاولة يائسة منها شرعت في التملص من قبضته ولكن دون جدوي ..ورويداً رويداً أسلمت الروح إلي بارئها ..تركها داخل العربة وصار يهرول في الطرقات وهو يرد عبارة ..( لا ..لا ..لم أقتلها ..لم أقتلها ) ..إلي أن وصل إلي منزلهم ليخبر ذويه بما حدث ..أعيدت الفتاة جثة هامدة إلي والدتها التي التزمت الصمت المطلق وصامت عن الكلام وقد ارتسمت فوق جبينها كل أجيال المعاناة والأحزان التي يذخر بها الكون ..اقتادت الشرطة الجاني ليعترف بجريمته ..لتكتشف أسرتها بأن العريس قد عاني في فترة سابقة من اضطرابات عقلية واعتقدت أسرته بأنه قد شفي منها ..وبينما الكبار في الأسرتين يناقشون موضوع الدية والقصاص ..كانت الأم المفجوعة في وحيدتها تجاوبهم بنظرات ساهمة وهي تحدق في البعيد البعيد .