قراءة لأقصوصة عشرون ووجهة واحدة ..

هذه الأقصوصة الجميلة البسيطة الوديعة على ما حملته من إبداع وجمال وتبرج سيعاني الموجودون هنا في سبر أغوارها كونها تحملت بحمولات محلية مغمورة حتى لأبناء السودان أنفسهم ناهيكـ عن لمن خارجه ... لو حاول صاحبها أن يجعل لها هوامش فستزيد الهوامش على المتن .... لا يستمتع بهذه الرواية إلا الراسخون في علم العامية السوداني ، ولكن الكاتب يريد أن ينقل بساطة الأشياء الى حيز الخيال للمتلقي الغريب ، فحينما كتب الطيب صالح راويته ذائعة الصيت (موسم الهجرة للشمال) لم يخرج من حيزه المكان الصغير في قريته الوديعة (دومة ود حامد الراقدة على ضفاف النيل) ، ولم يستخدم تكنيكـ لغة فصحى في كثير من المواضع بل أستخدم ذات اللغة العامية التي يرددها اهالي دومة ود حامد ، ورسم التقاليد والعادات والمناقشات والمجادلات والمفاكرات على نطاق خريطة دومة ود حامد ومع ذلكـ لم تتأثر الرواية بل ذاع صيتها وترجمت لأكثر من عشر لغات ، ولقيت حظها من القراءة في مشارق الأرض وغربها ، لذلكـ فأن القول بحظر الأشياء المحلية في حيزها الجغرافي قول غير مبرر لبقاء الأعمال الادبية الإبداعية بل ينبغي نشرها لتعم الفائدة ويتسع خيال المتلقي من خارج الدائرة ولتقول رسالتها الجميلة (بان ثمة أناس لا تفصلهم الحدود عن تذوق المغمور) فبمثلما كان القأري العربي قد هشم أعمال السوفيت والدول اللاتينية وتفاعل مع شعر اليانكي والهايكو فلا غرو أن يتفاعل مع مخطوطة محلية غائرة في الغموض سرعان ما تتكشف الغازها له كعادة مقيمة ...

لعل الكاتب اراد ان ينقل لنا الميثولوجيا السوداينة الذاخرة الى حيز الواقع والتجسيد فالنسيم التي يخرج النور ويهيم بها الناس ما هي إلا ضرب من ضروب الاِمنيات لشعب يطمح أن يكون الوطن كما النسيم .. مضيئاً كلما شرفت عليه ، جميلاً كلما دنوت منه ، متسامحاً كلما أوغلت في التعامل معه ، كما أن النور الذي يشع من جسد النسيم جعل الجميع يتابعون بشوق مآلات سر هذا النور وهذا الهبة الآلهية الجميلة ... بل أنه قد صور المرأة على انه إتساق بين الواقعية والميتافزيقية التي تتأثر بها شعوبنا إيما تأثر ولا تستقيم حياتنا بدونها ... وفي هذا السرد الباذخ الذي أسعدنا به الكاتب سرت في أوصالنا نشوة غامرة وتحسست أنا بالذات فرحاً كبيراً كلما أنتهى بي المطاف من احدى الحلقات الناضحة بالجمال وأحدى الحكايات والمواقف المتباينة .. لقد أستطاع الكاتب بخبرته ان يوظف التداخل الاجتماعي الرائع وجعل مسرحه لهذه الرواية الجميلة (رحلة الباص) وكان في ذلكـ بارعاً ممسكاً بتفاصيل الحكايات المتداخلة مستصحباً معه زمن جميل ورحلة طويلة تخالف واقع اليوم ، فالسفر للخرطوم لا يكلف الأن أكثر من ساعات قليلة بينما كان في ا لماضي يستغرق زمناً طويل قد يزيد عن اليوم ...

العنوان للراوية (عشرون ووجهة واحدة) يشيء بهذا التداخل والتمازج الرهيب ... وهو عنوان وُفق فيه الكاتب وبرع كونه ضغط كل الحكاية في ثلاثٍ كلمات فقط أدت الغرض وأوصلت الفكرة بسهولة للمتلقي ، إلا أن الكاتب قد اختار إيقاعاً سريعاً لهذه الرواية وشحنها بالأحداث معتمداً على خلفية الفلاش باكـ في كل مرة حيث يرتد الحكي لنقطة سابقة لتسليط ضوء معرفي عن أحدى الشخوص ، وهذا التسارع في الأحداث حسب وجهة – نظري الضعيفة – قد أنهكـ القأري وجعله يركض خلف الكلمات ركضاً يستصطحب معه عدم التركيز ، كما أن التفاصيل الكثيرة لحياة الشخوص الموزعة على فصول الراوية والغير محصورة في مكان معين ، قد تكون أسمهت وشاركت في تشتيت تركيز القأري في الإمساكـ بتفاصيل الشخوص المختلفة ، فقراءة مثل هذه الرواية المضغوطة والمليئة بالتفاصيل المتباينة تحتاج الى تركيز عالي من قبل القأري وتحتاج الى مذاكرة ومراجعة من قبل المتلقي ولا يستطيع قأري عادي (مثلي أنا) من الوهلة الاولى الإمساكـ بطرفي خيط الأحداث إلا بعد مراجعتها تكراراً ومراراً ، وهذه النقطة هي في وجهة نظري - الضعيفة – مبررة فالاحداث قد تمت على سطح بص سفري وهو مسرح وحيز وجودي صغير تتداخل فيه الأشياء ، كما هي محاولة من الكاتب لإشراكـ القأري في رهق الكتابة الذي عاناها وهو يقوم بإجتراح مثل هذه الفضاءات التي تنم عن خيال خصب ومعرفة رصينة بالشخوص والعادات التي أنطلقت منها تصرفات الشخوص ( الثار الذي أتسمت به قصتي أوهاج و أدروب ) والسخرية اللاذعة التي تميز بها العم خليل وهي أحدى سمات القبائل النوبية التي تميز فطنتهم وتعاملهم مع الحياة ، والفكاهة التي صاحبت شخصية الجوكر ... والإهتمام بالتوثيق الذي صاحب الخواجة هارتمان ... والحساسية العالية للأجهزة الحكومية ضد هذا التوثيق وحشره في خانة نظرية الموامرة وقد تأ كد لنا ذلك من خلال موقفين (الأول حينما نزعت السلطات المحلية بكسلا الفيلم عن كاميرا الخواجة وهو يقوم بالتصوير في الأسواق الشعبية ، والثاني حينما لاحقت عربة النجدة البص من اجل صور تذكارية للمظاهرة) مع أن التوثيق هو احد مقومات السياحة التي تتنافس عليها الدول وتشجع الناس على القيام بها حتى تحرض اخرين على الحضور للسياحة في ذات الأمكنة ...


التشويق كان حاضراً في كثير من المنعطفات للراوية بل في معظمها ولعل الكاتب قد أفلح في تصوير منظر الجندي الذكي (شقالوا) وهو يقوم بإصطياد المتمردين في سجن أروما واحداً تلو الأخر في براعة تامة أكدت حرفنة الكاتب وقدرته على تصوير المشاهد بحرفية عالية وخاصة ذلكـ الذي أغتاله من خلال ثقب العمود المحتمي به ...

الرواية غطت في تنوع باذخ خارطة السودان الأثنية وأضفت عليها نوع من التوثيق الواقعي مما يجعلها رواية قابلة للتعامل معها واقعياً أو وإمكانية تخيلها واقعياً ... ووثقت في متونها لعادات رائعة وتداخل محمود أختلط فيه الدم الأوربي السامي بدماء الهضبة الأثيوبية الإفريقية والدماء السودانية السامية بالدماء النوبية والإفريقية والبجاوية ولعل ذلكـ يوكد وحدة ومصير الامة الإنسانية على مختلف تخلقاتها الجينية وتحدرها العرقي ....

وكما قال الناقد نور الدين عن أحداث الرواية بأن عبد الغني خلف الله أتخذ مقعده داخل البص وأخذ يراقب بعينه الحصيفة ذلك الإحتشاد المميز لشخصيات كتومة يلفها الغموض، ولكن تحت ضربات قلمه المتمكن سرعان ما تتداعي وتتكشف تلك الأقنعة مسفرة عن حقيقة مريعة وليقول لنا ببساطة: إن الأشياء ليست دائما هي الأشياء، وأن اللامعقول يكمن أحيانا في واقع حياتنا المليئ بالتناقض!

لقد إستخدم الكاتب تكنيكا ذكيا لقيمتي الزمان والمكان لسرد الأحداث، أعطي خلالها البطولة المطلقة (لبص سفري) ، وهو بذلك يحيل قيمة العمل الدرامية برمتها لرمزية مطلقة إستخدمها لتلخيص رؤية سياسية (إن صحت القراءة) بحسٍ فني و سرديٍ عالٍ ، مستفيدا من ذخيرة معرفية متراكمة عبر مشوار طويل في رصد أنثربولوجي تاريخي لحركة مجتمع متقلب، فالبص ما هو إلا رمزاً للوطن خلال تاريخه الملئ بالأحداث، فهو تارة يمضي في هدوء وسلام، ويتوقف عند محطات يواجه فيها الأهوال ، فيخرج منها سليما أو مجروحا ليمضي ثانية في طريقه مستفيدا أو غير مستفيد مما واجهه، وما الناس فيه كما يقول الشيخ الحبر (إلا هالك وابن هالك) ولكن في كل الأحوال وبرغم تبدل المكان والزمان يبقي القائد هو نفس القائد وبنفس العقلية، وكأن بالكاتب أراد القول (لا تحلموا بواقع جديد).


حفلت الرواية بأحداث مدهشة وصور معقدة كحادثة الإعتقال التي تمت لراكبين في البص وهما يحاولان التغيير (من الداخل) وحادثة إنقلاب البص (التغيير الإجباري) ثم الإشارة لغياب الإستراتيجيات وخطط العمل المنظمة (إلتفاف المواطنين لإنقاذ ركاب البص المقلوب من الأذي الذين كانوا هم أنفسهم قبل قليل يحاولون إيذائهم )
لقد قدم لنا الراوي سفرا عميقا بأسلوب بسيط وسهل دفعنا نحو التفكير بهدوء فيما يدور حولنا

نشكر الكاتب البليغ اللواء عبدالغني مرتين ، مرة على إتحافنا بهذه اللوحة الجميلة ومرة اخرى لتقبله لهذه الأسطر وهذا الهذيان والذي لايجب ان يُقرأ – تحت كل الظروف - على أنه محاولة نقدية داخل فضاءات نصه الرائع فنحن أقصر قامة وأقل موهبة من أن نتطاول على مثل هذه الأعمال الجميلة الرائعة ولكن حديثنا هنا لايعدو على انه عكس لخلجات النفس ووسواسها القهري وهو يمر على مطبات النص الذكية بمحدوديته التي لاتملكـ إي واحدة من أدوات النقد الأدبي العملي الرصين.

صديق رحمه النور -جده -المملكة العربية السعودية