أريد أن أحدثك عن طفلة صغيرة أحست أنها وئدت في زمن كانت تحسب أن الوأد فيه اختفى
...كانت تلصق أنفها بزجاج النافذة..كانت تدير ظهرها لوالدتها التي تجلس في احدى أركان الغرفة...كانت بين الفينة و الأخرى تمسح أنفاسها من زجاج النافذة بيديها الصغيرتين...كانت تمعن النظر الى الخارج...تتأمل من يلعبون خارجا الى هذا الوقت من النهار...الشيء الذي منعت منه منذ فترة...كانت تتساءل...أليست لهم أمهات ترتكن في غرفة و الصمت يطبق على المنزل بأكمله...يبكين تارة و يبتسمن أخرى....كانت تتبعهم عينيها حتي يختفون...كانت تتطلع الى زرقة السماء و هي تستحيل سوادا...ينقبض قلبها لمقدم الليل....تترامى الى مسامعها خطواته في الدرج...تغمض عينيها و تمسك بصدرها...سرعة خفقان قلبها...تجعلها تمسك به لكي لا ينخلع
ماذا سيقول لو علم ما فعلته بالسوط؟...كان يحيرها شكله ...طويل كالعصا و ملتوي كالضفيرة، لم تتجرأ على لمسه حين لاحظته يوما في غرفة السطح...سألت عنه والدتها حين نزلت، تنهدت ثم قالت..."يضربني به"...الألم الذي أحسته في صدرها حينذاك..."الضربة"...لم تبرحها...تعاودها كلما أحست ظلمه...و لو ان السنين مرت و لو ان "ذاكرة النسيان" ابتلعت جل ذكرياتها...لكن تبقى بعض منها و خاصة تلك التي جعلتها يوما تقول "لن أترك له الفرصة يوما لإيلامي...أبدا"...تطفو...و تظهر...لتعيد النزيف.
- لماذا يضربك؟
- لأشياء تافهة
- ما هي هاته الأشياء؟
- أتذكرين يوم أحضرت صديقتك، أردت أن أترككما على سجيتكما و طلعت للسطح...و في فترة نظرت من النافذة...كان عائدا...انظري
شقت والدتها عن صدرها لترى كدمات زرقاء....."الضربة"...
- لماذا؟...و لماذا نظرت من النافذة؟
قطبت والدتها متمتمة
- كنت أروح عن نفسي قليلا بالنظر الى الخارج...قال ان جيبي كان ظاهرا...انا حتى كنت أنظر من طرف النافذة...قال ...كان هناك رجال في الطرف الآخر من الزقاق
أحست الصغيرة بنوع من الاختناق...
- لا تنظري من النافذة مرة أخرى رجاءا..لا تجعلي رجلا ينظر اليك رجاءا
- لم يكن هناك أحد
- اتركيه اذا...لا تبقي معه
- أين أذهب بخمسة أطفال؟
كان أكبر من أن يحتمل احساس صغير...أكبر من أن يجيب عقل ما زال على ما في الدنيا...لم يع
طلعت الى غرفة السطح...تقدمت نحوه..أمعنت النظر فيه...اقتربت أكثر...مدت يدها الصغيرة...لمسته...صلب...حجر...ك يف يمكنه أن يلمس الجلد و لا يدميه...أخذته...كان ثقيلا على محملها الصغير...خرجت الى السطح...أدارت عينيها في كل الاتجاهات...و بعد برهة...رمت بكل قوتها....طار في الهواء...ليستقر...فوق سقف السطح
متى سيحتاجه ثانية؟...متى سيذهب في طلبه؟...ماذا سيقول حين لا يجده؟.....
كانت عائدة من المدرسة، و كما عهدها دائما في طريق العودة...كان سؤال واحد يستحوذ على ذهنها...هل ستجدها باكية؟...هل ستجد المنزل ساكنا...الصمت المطبق...الرهيب...و ستنتظر...مقدم الليل...لتحضر له العشاء هي...هل ستنتظر الليل و هي تحاول أن تغرق في كتبها المدرسية....
دخلت البيت، رائحة الطعام تملأ الجو...الحمد لله...احدى بشائر الخير...تقدمت بخطى أسرع...والدتها غيرت ترتيب الأثاث...و....باقة الورد الاصطناعي تقبع في أحد أركانه...تقدمت....كان يأخذها بين ذراعيه....
عادت ادراجها...لتحدث جلبة عند دخولها...ليست المرة الأولى التي ترى فيها دفئهما، ليست المرة الأولى التي ترى عيني والدتها تستحيل من شيء لنقيضه...من غمامة سوداء..لبريق ساطع...ما لا تستوعبه هو لماذا كل هذا الألم...لماذا كل هذا العنف...لماذا كل هذا التناقض.
حتما لم يكن لدى عقلها الصغير جوابا...و طبعا عرفت مع السنين...انه الحب...لعبته...و أكيد أن لاعبيه لم ينتبهوا الى أن المشاهد تحت السن القانونية لاستيعاب قوانين اللعبة و أن تلك "الضربة"..."الضربات"...تجمعن ألما...تمردا...رفضا...صيحة " لن أهان يوما باسم الحب"...و "لن أترك له المجال ليتسرب الي"...و " لن أنظر في عينين يأسراني"....
وئدت الصغيرة....