نتيجة طبيعية أن تنقلب عليَّ معدتي كلما سمعت المقولة التي نُسبَت إلى أحد الشعراء القدامى يقول فيها "عليَّ أن أكتب.. وليس عليّ أن يفهم البقر"! .. ومؤكَّدٌ أن أول سؤال يتبادر إلى الذهن مِن سَامعِ هذا الكلام أن يقول –بعد أن يحاول إيجاد ثلاجة يضع فيها أعصابه من باب التأمين-: ومَن هم البقر؟
هل هم هؤلاء الذين جُرّفت لٌغتهم -لا أقول فقط بسبب المناهج الشمعية في المدارس التي جمّدت اللغة في العقول ولا بسبب القائمين على تدريس العربية حيث رسخوا لدى من يدرسها أن هدفه الأول هو ورقة الامتحان- وإنما بسبب سوق العمل الذي يفرض عليهم أن يتقنوا اللغات الأجنبية أكثر من لغتهم؟
هل هم الذين كلما اختاروا نماذج عشوائية من الدواوين وجدوا إما كلاما مرصوصا لا يكمن الإنجاز فيه إلا بنائيا وإيقاعيا، وإما كلاما قرر صاحبه أن يتخلى حتى عن البناء وأن ينثر بعض التراكيب التي لم تخلُ من خواطره عن الحزن الذي له رأس سحلية وجناح برغوث ويسبح في فضاءٍ من السوسنات؟!!
من هم المعنيون بالأبقار فعلا؟
هل هُم من يمارِس عليهم كثير من الشعراء ما يسمّى ببراعة الاستغلال!.. حين يعلم أن الصِّدام يصنع الشهرة أحيانا.. وأنه إذا عاندَ المقدسات في نصٍّ شعري –على الرغم من أن الأمر صار مستهلكا إلى درجة تدعو إلى استبعاد جدواه- فإنه سيضمن أن يحدث رد الفعل المعتاد ولأجلهِ يعدّ الجواب المناسب الذي يشعرك بأن القصيدة هي كلام منزل من السماء لا ينبغي أن نؤمن ببعضه ونكفر ببعض؟! حتى أن بعضهم صنع شهرته بهذه الطريقة فكان إذا طبع كتابا جديدا أرسل نسخة منه إلى أمن الدولة ونسخة إلى الأزهر ومن ثم تحدث عليه الضجة المطلوبة وعلى شرف الصخب ينتشر!!
هل هم من يشتاقون إلى المطر وينظرون إلى الاجتماع الموسع الذي عقده السحاب من فوقهم حتى سدّ الأفق مبشّرًا بإلقاء القطرات عليهم.. ثم إذا نزلَت قطَراتهِ تنبهوا أن الأجواء من تحتها مغبّرة يتخللها التراب إلى الدرجة التي لوّثتْها وأنزلتها بصبغة طينية لم تلمس ثوبا إلا أوجبت عليه الغُسل ولا فمًا إلا أوجبت عليه البصاق؟
أسئلة لا بد من قفزها إلى ذهن من يسمع المقولة التي بدأت بها كلامي ولا أدري هل ينصفه فيها أحدٌ أم أننا سنظل معتمدين على قدرتنا على الإرسال دون أن نعير "التغذية المرتدة" أي اهتمام
هذا ما تفرضه علينا منظومة الاتصال.. فهي إذا بدأت بمُرسِلٍ وواصلت نحو المستقبــِل فلا مفر من أن ننتظر إفادة هذا المستقبلِ بتغذيته العكسية التي على أساسها يقرر المرسِل جدوى ما ينبغي عمله من تعديل ومن ثَمَّ يكون الاستمرار.. أو بتجاهل ومن يكون النفور والاستنكار