غَابَةُ النّرْجِسِ
د.نبيل قصاب باشي
أقلّبُ ذاكرتي في الخواءِ فيغتالُني الصَّمْتُ والإنتظارْ
ونرجستي لم تزلْ مُتْعبَهْ
وأرقصُ في بَهْوِ قصْرِ الخليفةِ والسيفُ في رقبتي وَدمي ظامئٌ ..
أُوشِكُ اليومَ أنْ أشربَهْ
أيجلدُ تاريخُهُ أُمنياتي وأحمرُ أشباحِهِ في طيوفي يُراودُ ألوانَ حتفي ؟
أيحسبُني ريشةً في مَهَبِّ أناملهِ أوْ سحابةَ صَيْفِ ؟
أيحسبُني نُغبةً في خمورِ موائدِهِ سفحتْها أباريقُ غُلمَانِهِ ؟
أيحسبُني كشَقَائقِ نُعمانِهِ .. باقةً منْ زهور بساتينِهِ ..
إنْ زَوَتْ هتَّهَا في سِلال قُمامتِهِ ثمَّ قَهْقَهَ غيرَ مُبَالٍ بما نَالني منْ شَنَارْ؟
أيحسبُني رَاكعاً كجواري سلاطينِهِ ..
قابعاً في حِمَى حانِهِ ..
مثلَ ليلٍ يُجرجرُ أثوابَهُ خلفَ هولِ البحارْ ؟
ويزعمُ أنّي سرقتُ دُجى الليلِ من ناظرَيْهِ وكبّلتهُ بالنهارْ
ويزعمُ أنّي حبسْتُ ذُرَا الشمسِ في قُمْقُمي ثمَّ عطّلتُ فيها المدارْ
ويزعمُ أنّي تواريتُ في غابِهِ كي أراودَ تيجانَ نرجسِهِ عن هوى نفسِهِ ..
ثمَّ أَضفرَ زُخْرُفَهَا في جَبينيْ أَكاليلَ غَارْ
ويزعمُ أنّي خطفْتُ فُضَالةَ تُفَّاحةٍ منْ عرائشِ بُستانِهِ واقْترَفْتُ جريمةَ ..
مُضْغَتِهَا حينَ جُعْتُ وجَاعَ بَنِيَّ الصِّغارْ
وأمرقُ منْ دينهِ إنْ نسيتُ تسابيحَهُ الضارعاتِ وذاكرتي اتُّهِمَتْ بجُنونِ ..
الهَوَى منذُ عشّشَ في كهفِهَا الوردُ وَارْتاحَ فيها الحمامْ
أيُتَّهَمُ الوردُ إنْ نامَ بينَ أَصَابعِ كفّي
أمَ انِّيَ مُتَّهَمٌ إنْ حضنْتُ الحَمامَ وخبَّأْتُهُ في صَناديق عشقي وأسقيْتُهُ
نُغْبَةً مِنْ هُيامْ؟
&&&&
ويزعمُ قاضي الخليفةِ أنّي قرأتُ "طبائعَهُ المُستبدّهْ " (1)
وأنَّ "كواكبَه"(2) سرقتْها عيوني وباتتْ تُجّمِعُ أدمعَهَا في جفونيَ ضدَّهْ
وأنّي أُراودُ تاجَ خِلافتِهِ المُسْتعارَ وأَحلُمُ أنْ أسْتَرِدَّهْ
وأنّي أُصلّي رياءً لربِّ السَّماءِ وما عُدْتُ عَبْدَهْ
وأنّي أكحّلُ عَاشقتي ببَخُورٍ تشظّى احْتراقاً وأحفرُ في وَجْنَتَيْهَا ..
نجومَ السماءْ
وأنّي أمارسُ فكريْ كما أشتهيْ والبَغِيُّ تشاطرُني الإشْتِهَاءْ
وباتَ يُلاحقُ جَفْنِي إذا الدّمعُ جَنّدَ فوقَ خُدُودِيَ حَشْدَهْ
وراحَ يُحاصرُ حُلْمِي ويزعمُ أنّي ارْتدَدْتُ وأنْ ليسَ قبلَ الخليفةِ..
أو بعدَهُ أحدٌ يدّعي في الرعيّةِ رِدَّهْ
ويأمرُ قاضَي القضاةِ بسجني
لأنَّ رَمادي اسْتوى دونَ أكوامِهِ جَمْرُ ناري
لأنَّ زُهُورِي اسْتوى دونَ أكمامِهَـا جُلُّنَارِي
لأنَّ هُمومِي اسْتوتْ مُثْقَلَهْ
لأنَّي وقفتُ على حدِّ سيفي أُحاولُ أنْ أَصْقُلَهْ
لأنَّ الخليفةَ أغفى على قلقٍ مُتْعَبَاً أنهكتْهُ وَسَاوسُ ناقتِهِ التغلبيّهْ
وباتَ يَمَلْمَلُ منْ خُفّها يومَ أمسى يحطُّ على أنفهِ ؛ بيدَ أنَّ الخليفةَ ظلَّ ..
يُصعِّرُ خدَّ البسوسِ على خدّهِ نافخاً أنفَهُ بزُكامِ المديحْ
ويُلقي قصيدةَ عشقٍ بنَعْيِ " كُلَيبٍ " وتحتَ حَوافرِ أخْمصِهِ تتنزَّى ..
جراحُ الذّبيحْ
ويهتزُّ جذلانَ يرقصُ فوقَ نهودِ الجواري
لقدْ كانَ مُنْتشِيَاً يومَ أضْحى يُضاجعُ جَاريةً يَعْرُبيَّهْ
ضَفائرُها السُّودُ تمتدُّ عابرةً كشحَها لِتَحُطَّ على قدَمَيْهَا .. وَتَمْضِي بها ..
غَنَجَاً منْ صُدورِ غَوانِي الشّآمِ إلى صَدْرِ غَانيةٍ أطلسيّهْ
وصدرُ الخليفةِ جَاثٍ على شَهْرَزَادَ كريشِ نَعَامٍ يموجُ على شاطئٍ ..
منْ محارِ
تخدّرُ فَاهُ بقُبْلتها إنْ رغَا صَاحياً منْ رُكامِ الجواري
وحينَ يموتُ الصباحْ
تراودُهُ خمرةُ الوقتِ مُنتشياً بالكلامِ المُبَاحْ
&&&&
تضجُّ النوارسُ حينَ يموتُ الرحيقُ وينتهكُ النحلُ أعشاشَهُ ..
والشّواطئُ تنْسَى مواسِمَهَا المُقْبِلَهْ
وحينَ تعودُ النوارسُ يغضبُ بحرُ الخليفةِ ثانيةً فتهبُّ مهاجرةً ..
نحوَ أعشــاشها المُقْفَلَهْ
تنامُ على حُلُمِ المستحيلْ
وَبَـوْحِ النَّـدَى و الهَدِيلْ
لقد طالَ شوقُ النوارسِ للبحرِ .. طالَ احتراقُ لوَاعِجِهَا للحَيَاةْ
وصرتُ أُصلّي لها
وطالتْ صلاةُ انتظاري لنعشٍ مُسجّى برملِ شواطئِهَا المتعباتْ
متى يسرقُ النعشُ ثغري ؟؟
متى يخنقُ القَهْرُ صبري ؟؟
لقد ملّني غضبُ الوقتِ حتى هربتُ إلى الإنتظارْ
و حينَ وَصَلْتُ إلى شهريار
تَلَوّى يُعانقني فاغراً شفتيهِ وأوداجُهُ انْتَفَخَتْ مُثقلَهْ
تُقهْقِهُ كالقنبلَهْ
لقد حَمْلقَ القهْرُ في عينِهِ حينَ راحتْ تُراوِدُني شَهرزادُ وفي شفتيها
ارتعاشةُ نَحْلَهْ
وَهَاجَ بنَبْضِي ارْتِجَافُ الحنينِ إليها وكادَ على الثّغْرِ تَهْطُلُ قُبْلَهْ
ووشوشةٌ كشَذَى سُنْبلَهْ
ولم يبقَ ليْ كيْ أهرولَ نحوَ لَمَى ثَغْرِهَا غيرُ ألفِ صباحٍ ولَيْلَهْ
وحينَ ارْتميـتُ على صـدرِهَا المُتشظّي حَطَطْتُ على مِقْصَلَهْ
هناكَ تأزّرتُ بالنّارِ منْ صدْرِهَا البَضِّ ثمَّ ارتديتُ نجومَ الصباحاتِ ..
حتّى انتشىيتُ ملياً وغبتُ أفتّشُ عنْ ليلةٍ منْ ليالي لواعجِهَا الباقيَهْ..
هربْتُ منَ الصّبحِ حينَ اتُّهمتُ بأنّي شهيدٌ وأني أُحرّضُ كلَّ الفراشاتِ ..
كيما تطيرَ إلى نَخْلةٍ قدْ سَمَتْ نائيَهْ
أيُعْقَلُ أني شهيدٌ وقد كنتُ دوماً أمارسُ عُهْرَ السياسةِ مُختبئاً في ..
ثيابِي العفيفَهْ؟
هربْتُ منَ الصُّبحِ حينَ اتُّهمتُ بأنَّ أبا ذرٍّ الحُرَّ منْ أصدقائي يشاطرُني
رأيَهُ .. في اقْتسامِ سنابلِ قَمْحِ الخليفهْ
وأنَّ ثيابي التي اتّسختْ بمديحِ الأميرِ نظيفَهْ
وأنّي أُدَمْدِمُ منْ تحتِ أرجلِهِ شُمَّ أعجازِ نخلتِهِ الخَاوِيَهْ
&&&&
لقد أَزِفَتْ لَحْظتِي الباقيَهْ
فعدْ بيْ إذنْ نحوَ مرسى السفينةِ كيما أعاقرَ خمري الذي قدْ نسيتُ بدجلَهْ
ودعْ شهرزادَ تزقُّ بثغري المُدمَّى سَنابلَ قُبلَهْ
لعلّي أراودَ أشرعةً غرقتْ في فُرَاتِ عراقِي
لعلّي أرى " بردى " في عيونِ أبي ذرَّ ينضحُ في دمعهِ دمعةً حائرَهْ
هناكَ على دمعهِ رحتُ أنفضُ ذاكرتي ورُكامَ احتراقي
هناكَ نسيتُ جُنوني وَمَا عُدْتُ أذكرُ أنّي نسيتُ نُهَى الذاكرَهْ
هناكَ نسيتُ بأنّي أُمارسُ "تهريبَ" بعضِ "الحشيشِ" لأقمعَ إرهابَ ..
فقري وكفري
هناكَ نسيتُ على ضفّةِ النّهرِ قارورةً منْ قواريرِ عطري وخمري
نسيتُ بأنّي ظَمِئْتُ وحوليْ ينابيعُهُ الهادرَهْ
نسيتُ بأنّي عَرِيتُ وحوليَ أشجارُهُ الناضرَهْ
نسيتُ وِسادةَ عُشْبي وثوبَ ضِفَافِي
ففوقي عَراءٌ وتحتي عراءْ
وبيني وبينَ السماءْ
مسافةُ عشقٍ ونجوى
وبيني وبينَ لَظَى عَطَشِي وَاحْتِرَاقِ شَهيقِيَ جُرْعةُ ماءْ
وبيني وبينَ دمشقَ مسافةُ سَيْفٍ وحَتْفٍ وبينَهُمَا يجثمُ العائدونَ ..
منَ " القاهرَهْ "
وبيني وبينَ حِمَى " القاهرَهْ "
خلعتُ ثيابَ الحياءْ
ورحْتُ أُصلّي بلا عَوْرةٍ في العَرَاءْ
وحينَ غدوتُ بلا عَوْرةٍ عاهرَهْ
حسبتُ المنايا تُكفّنُنِي ثمَّ أمضي إلى برْزَخِ الآخرَهْ
ولكنّني قدْ نسيتُ عُرَا كفني ونشيدَ صَلاتي ،، فكيفَ أُصلّي وَذَاكرَتِي ..
لمْ تعدْ ذَاكِرَهْ؟
وكيفَ أُسَجَّى بلا كَفَنٍ وفيوضُ دمي لمْ تزَلْ هادرَهْ ؟
وبوقُ السّفينةِ أعلنَ أنَّ السفينةَ لمْ تنسَ مِجْدافَها ..
سوفُ تُبحرُ هاجرةً بحرَها وشواطئَ كلِّ البحارْ
وسوفَ تُجنّدُ أمواجَهَا "القاهرَهْ"
فدعْني إذنْ في المحطةِ وحدي أجرُّ انتظاري وأدفنُ ناصيتي الكاذبَهْ
ودعني هُنا بينَ صوتي المُسجَّى وبينَ الصّدَى والمَدَى
أعاتبُ ذاكرتي الخائبَهْ
أشدُّ إليها حبالَ الرَّدَى
و"أحملُ رُوحي على رَاحتي وأُلقي بها " في دُجَى الحَافِرَهْ
وأرمي لموجِ بحاريَ أشرعتي الخائرَهْ
سيبقى يمرُّ المدى وحدَهُ بيْ وأنتظرُ العائدينَ منَ "القاهرَهْ"
ولكنّهمْ لمْ يعُودُوا لقدْ عُدْتُ وحدي وما كنتُ أدري بأنَّ المحطةَ ..
قدْ أعلنتْ أنهَا مُقفلَهْ
لقد عدتُ أندبُ عشقي وفي أدمعي رعشةُ السُّنْبلَهْ
فلا بدَّ منْ رحلةِ البدءِ كيما أحطَّ رحالي بكينونةِ الإنتظارِ وأمشي ..
الهوينى إلى لحظةِ الجَلْجَلَهْ
وأُخفي رماديَ بينَ الرُكامِ وأدفن تحتَ لظى أخمصي المِقْصَلَهْ
فيا أخمصي تحتَك المستحيلُ سَيُعلِنُ جَلْجَلةَ الزّلْزَلَهْ
سيُعلنُ مهما اخْتفى الوقتُ في دهاليزِ مثواهُ أنْ يقتلَهْ
تعالَ إذن هذهِ أَنْمُلي انْفَرَجَتْ كلُّها ليسَ بيني وَ بينَ لظَاكَ سِوَى أَنْمُلَهْ
&&&&&&&
&&&&&
&&
10 /2/2011م
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــ
(1) طبائعه المُستبدّة : إشارة إلى كتاب" طبائع الاستبداد "
(2) كواكبه : إشارة إلى صاحب الكتاب "عبد الرحمن الكواكبي"