لم أكن أعلم أن الحزن قوي لـهذا الحد، قوي لدرجة أن يخترق كل هذه الألوان على وجهها، و ينبعث من تحت طبقات كثيرة من المسحوق الذي وضعته بـ عناية و عناء ، لـ يكتب على جبينها " قهـر " ، وحيدةً كانت تنتظر، وقد ألقت بـ جسدها الصّدِئ على باب حديدي قديم، توزع ابتساماتها الـمُثيرة بـ سخاء على المارة، وبين الفينة و الأخرى، تُطلق ضحكات مجلجلة، وكـ أنها تنــُوح ! كـ محاولة فاشلة منها لـ اجتذاب زبون جديد، لاجتذاب شخص ضاقت به الحياة، تقوده غريزته إلى مكان موحِل يُثبت فيه رجولته بـ جدارة !
كي تعرضَ جسدكَ في الشارع على المارة وأنت تعلمُ بأن كثيرين يعتبرونه سلعة رخيصة، فـ هذا أمر يحتاج لـ جرأة كبيرة، أوربما ... لـ يأس كبيـــر !
الفُضول يقودني إليها رغماً عني، رغماً عن هذا الصوت الذي يتردد صداه في أذني باحتقار شديد اللهجة : " إياك و الاقتراب من هذه المومس ! إياك و الاقتراب من بؤرة العفن هذه .... ! "، أغلق أذناي، و أقترب منها بـ هدوء شديد ، لازال بعضٌ من البريق الطفولي بـ عينيها لم يخفت بعد ! حتى الهالات السوداء التي تروي للمارين حكايا الليالي الحمراء الطويلة ، لم تستطع أن تُخفي هذه الحقيقة ! اقتربتُ منها أكثر، فـ فاجأتني بابتسامة ماكرة، وكـ أنها ثعلب يتربص بـ فريسة طال انتظارها !
شيء ما في داخلي يشدني إليها - بعيدٌ كل البُعد عما يدور في ذهنها - يجعلني أُطيل النظر في وجهها ، يا إلاهي ! كيف لم تُنصف الحياة هذا الوجه الجميل ؟ ! أي أقدار هذه التي حملتها إلى هذا العالم القذر؟!
تساؤلات كثيرة كانت تُمطر فوق رأسي، سرعان ما قاطعَتها بـ حركة صغيرة منها على صدري ... لـ تُمسك بعدها بـ يدي ! وهي تسألني بـ صوت خافت : " بـ كَمْ ؟ " ، وكـ أنها تعقد صفقة سرية، إما تكون رابحة أو خاسرة ... من يدري !
سألتُها عن اسمها بـ لُطف شديد - لا أظنها كانت متعودة عليه - فـ أجابتني و الدهشة قد سرقت بعضاً من وهج ابتسامتها وبـ صوت أتعبه السهر : " منـار ".
أمسكتها من يدها بـ قوة و هممتُ بـ الرحيل، لا أدري إلى أين ! فقد كُنتُ أسيرَ فكرة استولت على كياني " هذه الفتاة، مكانها ليس هنا !! " ، مشينا بضع خطوات ... ثم توقفَتْ فجأة، متساءِلة " لم تـجبنـي ! بـ كم ؟؟ !! "
منار، أنا لا أعرفك أنتِ ... لكن حكايتك أعرفها جيداً كما يعرفها الجميع، أعلم أن الحب بالنسبة إليك ليس إلا " عادة " و أن الذكريات المُرة هي عنوان كتابك ، لكن أليس من المُفترض أن الغد هو نهاية الأمس؟ أنا مُستعد أن أنسى معكِ كل الذكريات.... و أفتح معكِ صفحة جديدة ".
سحبتْ يدها من بين يدي بـ رفق، لـ تحاول إخفاء دمعة صغيرة أفلتت منها، ولـ ترسم بـسرعة ابتسامة شكر وامتنان و تجيب بعدها :
- هذه حياتي ... وسـ أعيشها
- لكن منار، أنا سأحملك من ظُلمة الليل إلى نور النهار !
- سيدي اللطيف، صدقني ... ظلمة الليل أهون علي من ظُلم النهار !
- سـ أدخلكِ إلى عالم كله نقاء يا منار !
- في اللحظة التي تُقنع فيها نفسك بأنك أدخلتني إليه ، تكون أنت قد خرجت من بابه الأوسع
- هناك سـ تجدين الحب
- هناك لن أجد إلا نظرات الاحتقار
- منار ...
- شكراً من القلب، لكن بـ النهار تذوب الرحمة في قلوب الناس مع أول إشراقة شمس، أنا خُلقت لـ الليل ... والليل خُلق لـ الضعفاء أمثالي
( أنا خُلقت لـ الليل ... والليل خُلق لـ الضعفاء أمثالي !! ) كانت هذه آخر جملة تنطق بها وهي تهم بـ الرحيل عائدة إلى وكرها، لـ تتركني وراءها متسمراً ، وحيداً، ضائعاً، و لوم كبير في صدري لا أدري على ظهر من سوف ألقيه ؟؟ !