رأيتُكِ
رأيتُكِ أمسِ – فيما يرى النائمُ الحالمُ – في ثوبٍ أبيضَ ناصعٍ سابغٍ ، ووجهُكِ يشعُّ منه .. أرأيتِ إلى البدرِ إذِ اكتمل ، يتصدّرُ كبدَ السماءِ ! عجباً ، كيفَ يُنيرُ ويُبهرُ أبيضُ على أبيض ؟! كنتِ تجلسينَ قُبالةَ فتىً عشرينيّ أبيضِ الوجهِ ، مُتورّدِ الوجنتين ، ذي لحيةٍ سوداءَ خفيفةٍ لطيفةٍ يَودّ الأنفُ شـمّها ، وتشتهي الشفتان لمسَها ! كان يلبسُ دشداشةً بيضاءَ عُمانيّةً ؛ عرفتُها من ( الفرّوخة ) المستلقيةِ إلى اليمين . وفوقَ شعره الأسودِ السابلِ استقرت عُمانيّةٌ أخرى مُزركشةٌ بديعة . كنتِ تنظرين إليهِ نظراتٍ والِهةً كمن يخافُ أن يفوتَ من عمره دقيقةٌ لا يرى فيها الحبيبَ وكانَ ينظرُ إلى وجهكِ الفاتنِ المُحْمَرَّ كالذي ينظرُ إلى كَنْزٍ عثرَ عليه أخيراً بعدَ جُهدٍ ولأواء فهو بينَ مُصدقٍ عينيهِ ومُكّذبٍ ! وكان كفّاكِ مُستسلِمََتيْن لكفّيهِ بخضوعٍ تامٍّ كأنّما يقولانِ لهما : دونكما احتفِظا بنا فهما جُزءٌ منكما ! وكان يُمسكُ كفّيْكِ كمَنْ يُمسك قطعةَ الحلوى الطريّة يخاف أن تذوبَ بينَ يديه !! وعرفتُ من حيثُ لا أعرفُ ... أنّكما عَروسانِ ، وأنّكما في شهرِ العسلِ ، وأنّكما في مكانٍ ما مِنْ عُمان ..
ورأيتُكِ
تَجرينَ على شاطئ البحرِ الرمليّ حافيةَ القدمَيْن ، وهو يَجري وراءكِ يُريدُ أن يُمسكَ بكِ ولكنّكِ كنتِ أسرعَ منه وأرشق فسبقتِهِ إلى البيتِ المُنعزلِ .. دخلتِ وتركتِ البابَ مفتوحــــاً لـه ثمّ وصلَ بعدَكِ بقليلٍ يلهثُ ويضحكُ . وأرتِجَ البابُ خلفكما .. كانَ بيتاً صغيراً سقفُهُ من القرميد ونوافذه خضراء ، وكذلك بابُه أخضر ، أما جدرانه فزهريّةٌ مُحمرّةٌ ، ويُحيطُ به خمسُ شجراتٍ أظنّها من " الظفراء " إذ كانتْ مكسوةً كلُّها بالزهورِ الورديّةِ حتى إنه لم يظهرْ من أغصانها غصنٌ واحد ! وحين أطفِئت أنوارُ المنزلِ لم يبدُ من تلك الشجرات إلاّ خيالاتٌ خمسة ..
ورأيتُك ِ
جالِسَةً عندَ النافذةِ الخضراءِ ذاتِها تقرئينَ في كتاب ، قرأتُ عنوانَه ( تربية الأولاد في الإسلام ) ، كنتِ تنظرين فيه حيناً ، وحيناً ترفعين رأسَكِ عنه وتَرمين نظركِ بعيداً بعيداً من خلالِ النافذة كأنّكِ تتوقّعينَ رؤيتَهُ بينَ لحظةٍ وأخرى عائداً من الأفق من تجارتِهِ في البلدِ المُجاورِ . كانَ يبدو عليكِ القلقُ والتعبُ في آنٍ معاً ! هل كنتِ تخشينَ أن تَضعي مولودَكِ الأولَ قبلَ أن يعود ؟!
ورأيتُك ِ
رأسُكِ إلى رأسِهِ كَملاكَيْنِ رائعينِ تنظرانِ بعيونٍ حانيةٍ حالمةٍ إلى طفلٍ في لُفافةٍ بينَ يديكِ تارةً ترفعينه لتقبّلي وجنتيه ، وتارةً تضمّينه إلى صدركِ ليمتحَ الحنان ، وتارةً أخرى تقرّبينه من وجه أبيه ليطبعَ على خدّه قبلةً رفيقة شفيقة .. كان يبدو من الطفلِ الجميلِ وجهُه ، وجهٌ أبيضُ أشرِبَ بالورديّ ، والشفتانِ حَمراوانِ جداً ! العليا رقيقة رقيقة ، والسُّفلى مًنْقَلبةٌ للأسفلِ تُغري بالأكل !
وسـمعتُكِ تقترحين اسـماً على أبيه ، ولمحتُ الأبَ الحبيبَ يُوافقُ عليه حُبّاً لكِ وكرامة فســــمّيتِه ...........
ورأيتُك ِ
واقفةً بينَ مجموعةٍ من الأطفالِ الصّغارِ المتحلّقين على الأرضِ ، أعمارُهُمْ ما بينَ سنةٍ وأربع ، ويجلس وسطهم وسيمٌ منَ الأطفالِ رائعُ القَسَماتِ ، يُنقّلُ نظرَهُ بينهم مُندَهِشاً مُستغْرِباً لكنّهُ سعيدٌ ! بَدَوتِ في منتهى الحُبور وأنتِ تنثرينَ فوقَ رؤوسهم ( الفُشار ) مخلوطاً بالمكسّراتِ ، وهم يلتقطونها وقدْ تداخَلَتْ ضحكاتُهم بثرثرتِهِمْ بِعَبَثِهِمْ ... وربّما أغلبُهم لا يدري أنّ مناسبةَ احتفالِهِمْ وفرحِهِمْ هذا هو ( حولحول ) وحيدِكِ الغالي ..
ورأيتُك
في المطبخ تُعدّين طَعامَ الغَداء ، كنتِ تبدين قلقةً جداً ! عيناكِ تَلْحَظانِ ساعةَ الحائط كُلّ دقيقةٍ وأخرى ... لمّا يأت بعدُ ! لقدْ تأخرّتِ الحافلةُ التي تُقلّه إلى البيتِ اليومَ ! ثم تسمعين صوتَها فُتُلقينَ ما بيديكِ وتُهرَعينَ نحوَ البابِ ، وتحتضنينه مع حقيبته الصغيرة ، وتُقبّلينه وأنتِ تسألينه ألفَ سُؤال معاً عن سببِ تأخّره ! وهو لايُجيبُ عن أيٍّ منها ! ثُمّ يُفلتُ منكِ ، ويَرمي بحقيبته أرضاً ويجري إلى المطبخِ يَتَشَمّمُ الطّعام !
ورأيتُك
تجلسين قُبالةَ طفلٍ ، في التاسعةِ رُبّما ، كانَ مُتربّعاً بينَ يديكِ مُعتمراً قُبّعةً بيضاءَ صغيرةً ودشداشةً صفراءَ طولُها يُضحك الناظرَ إليها ! يقرأ عليك قِصارَ سُور المصحفِ الشّــريف وكنتِ كُلّما أنهى سُورةً منها تجذبينه إليكِ جَذلانةً لِتَطبَعي على خدّهِ قُبلةً ، تأكلينه بها أكلاً !!
ورأيتُك
في مجلسِ بيتِكم تَسْعَيْنَ بينَ يَدَي ضَيْفاتِكِ اللاتي ملأنَ عليكِ المكانَ ، وقدِ اختلطتْ أحاديثُهنّ اختلاطاً عجيباً حتى غَدَتْ ضوضاءَ أعجميّةً ! كانَ التعبُ عليكِ ظاهراً ، لكنّكِ سعيدة جذلانة .. تنحنين لترفعي أطباقاً شبهَ فارغةٍ كانت قبلَ قليلٍ طافحةً بالغراميل ، والمشاكيك ، لتضعي أطباقاً أخرى حافلةً بالعريس ، والقبولي ، والعرسيّة .. وكنّ يغرفْنَ ويتحدّثْنَ في آنٍ معاً بانتظار الحلوى العُمانيّة ، واللقيمات ! وكنتِ تردّين على المُبارِكاتِ من هنا ومن هُناك ، وتشكرينهنّ على حُضورهنّ ، وتحمدين اللهَ – سبحانه – الذي أكرمَ وحيدكِ – وأكرمكم – بختم القرآن الكريم .
ورأيتُك
بِعَيْنَين دامعَتَين ؛ تُعاتبينه مُراهِقاً أنْ تأخّرَ في السّهرِ خارجَ البيتِ وأبوهُ مسافرٌ وأنتِ وحدَكِ تخافينَ عليهِ خطفةَ الشيطان ! كانت كلماتُ عِتابكِ كأنّها تقولُ له : لا تنجرحْ يا نورَ عيني من عِتابي ! أو كأنّها كانت تتضرّعُ إلى الله : اللهمّ اجعلْ عِتابي له برْداً وسلاماً عليه ! ثمّ تركتِهِ مُعرِضَةًً عنه ولِسانُ حال قلبِكِ يقول له : اتْبَعْني ياروحَ أمكَ ، وأرضِني !! فهلْ سَمِعَ القلبُ البارُّ دعوةَ القلبِ الحاني ؟! انحنى على كفّيْكِ يُقبّلهما مُسترضِياً ، فسارعتِ بالرضا عليهِ والدّعاءِ له
وكأنكِ كنتِ تنتظرينَ أن يلفظَ الحرفَ الأولَ من الاعتذار ! ورَجاكِ أنْ تضحَكي ، فأشحْتِ بوجهِكِ وتضاحكتِ .. فأعادَ الرجاءَ ، فتبسّمتِ .. فقبّلَ جبينَكِ وقال : أسمِعينيها ، يا ستّ الكلّ ..
جمدتْ عيناكِ لحظةً ً تتأمّلان الفراغَ حين سمعتِ ( أسمعينيها *) ! ولمحتُ فيهما دمعتين جديدتين على وشكِ الهروب .. لكنّ منديلَكِ في يدكِ سارعَ فالتقطهما كي لا يراهما .............. ثمّ ضَحكتِ وأنتِ تترضّينَ عليه ..
ورأيتُك
جالسةً على أريكةٍ بُنّيّةِ اللونِ ، تتكئين على وِسادةٍ مُزركشةٍ بخيوطٍ ذهبيّةٍ وتسندين براحةِ كفّكِ خَدّكِ ، تُغالبينَ سِنَةَ النومِ التي تنتابكِ كلّ بضع دقائقَ ! لم تستجيبي لتوسّلاتهِ إليكِ أنْ تأوي لِفِراشِكِ وترتاحي من هذا السهرِ المُضني كلّ ليلةٍ معه ؛ فامتحانُ الثانويّةِ العامّةِ له هو ، وليسَ لكِ أنتِ ! لكنّكِ كنتِ خائفةً إن تركتِهِ وحدَه أنْ يُثقِلَ النّعاسُ جَفْنَيْهِ فينامَ عن دراسته ..
ولكنْ ، وبعدَ منتصفِ الليلِ بقليل ، استسلمتِ لِهَجْمةِ النومِ عليكِ في حُضنِ الأريكة ، وتركتِهِ يتأمّلُك وقلبُهُ يخفق بالعَطْفِ عليكِ خفقاً ..
ورأيتُك
في مشهدٍ أخيرٍ ، كنتم ثلاثةً في المطار تودّعانِ وحيدَكما العائدَ من إجازته إلى جامعتِهِ في البلدِ الشّاميّ الذي كنتِ تَوَدّينَ في يومٍ من أيامِ عمرك الماضية زيارتَهُ .. كانَ مَشْهَداً مُؤثّراً انفطرَ له قلبي ؛ تعانَقَ مع أبيهِ وتبادلا قُبلتينِ خدّيّتينِ سريعتين ، ثمّ انحنى على جبينِكِ يُقبّلهُ فتعلّقْتِ برقبتهِ تشدّينه إليكِ لا تُريدين فراقَه ، ودموعُكِ تُبلّلُ خديكِ وخدّيهِ معاً ! ثمّ تحوّلَ إلى يديكِ يُشـبعهما لَثْماً وبينَ كلّ لثمةٍ ولَثْمة يطلب منكِ الدّعـاءَ . وسمعتُكِ تدعين له بكلماتٍ مُتهدّجةٍ: وفّقَكَ الله يا بُنيّ وأعادكَ إلينـا سالِماً غانِماً ،الله يرضـى عليكَ يا ولـدي يا مصطفى..
ثمّ رأيتُكِ تبسطين كفّيكِ أمامَ وجهِكِ المُبتلّ ، وتقرئينَ بصوتٍ خفيضٍ الفاتحةَ على رُوحٍ ثاويةٍ في الثّرى منذ زمنٍ بعيدٍ ، هناكَ في البلد الشّاميّ ...
مصطفى
--------------------------------------------------
* كان أرسل إليها يوماً هذه الأبيات :
- أسْمِعِينيها ، فِداكِ الخافقُ * ضِحْكَة ً، بَعْضُ سَناها الشّارِقُ
- أسْمِعِينيها ليَهْتَزَّ هُمودي ، ويَرْبو في جَديبي مُُوْرِقُ
- ضِــــحْكَة ٌ يَبْتَلُّ مِنْ أندائِهــــا**وَرَقُ الوَرْدِ البَهِيّ ُ الآنَقُ
- واضْحَكيها في دُجى الليلِ – مَلاكي – بهـا ليلُ الدُّجى يأتَلِقُ