أنت فارس من فوارس القصة يا أحمد على مستوى الإبداع القصصي وعلى مستوى النقد الأدبي لفن القص!جاندا / قصيرة العمري و المعارك الأربعة
ليس جديداً على الأدب ، منذ كليلة ودمنة ، وما قبلها ، أن يتم تناول القصص عبر الحيوانات ، غير أن القصص أصبحت لا تعرض على لسان الحيوان وحسب ، وانما صار الحيوان هو حدث القصة وموضوعها الأساس ، وأصبح استخدام الحيوان أكثر انسجاماً مع القصة الحديثة ، بحيث يوظف بطريقة غير مباشرة ، الى ما هو أبعد من المقاصد الحكمية والوعظية المباشرة ، نحو غايات فنية وجمالية ، وأبعاد سياسية واجتماعية ، ورؤى أكثر عمقاً ، وتناول أشد تأثيراً ، ويمكن القول أن التجريب صار سمت هذا اللون الصعب الذي لا يخوضه الكثيرون .
وقصص الحيوان تنبني على مستويين" " الأول سردي عبارة عن حكاية تتعلق بعالم الحيوان ، لكنها في العمق تحمل معنى انسانياً يهدف الى ترسيخ غاية أخلاقية وتربوية ، والأىخر تقرير حكمي ، يؤكد الغاية نفسها ، في شكل مثلٍ سائر أو عبارة مأثورة ، أو حكمة أخلاقية " ..1( د.سعاد مسكين ، الحيوان في القصة المغربية)
ان تناول قصة عميقة الطرح كقصة جاندا للأديب الكبير :د.سمير العمري ،ـ تتطلب منا دراسة شاملة مفصلة ، لنتمكن من سبر أغوار هذه الرؤية الفلسفية ، وتحليلها وتفكيكها ، للوصول الى الرمز ، وهو أمرٌ غير يسير مع من يعتبر الرمز أداة وليست غاية ، ويسلك في ذلك الطريق الصعب ، عبر لغة قوية ميزت كتاباته دائماً ، وأسلوب سهلٍ يتمنع عليك كلما ظننت أنك أمسكته بين راحتيك ، انها جاندا ، ورحلة البحث عن الذات .
الاعجاز الأساس في القصة يأتي عبر سؤال واحد : كيف تحتوي قصة عن الحيوان هذا الكم الهائل من المفاهيم الانسانية والأخلاقية ؟ وكيف تطبعت الحيوانات بطباع البشر ؟ عبر شخصيات متنوعة ثقافياً ، مختلفة سياسياً ؟ متنافرة اجتماعياً رغم أنها تشترك في ذات النوع ، فكلها أسود ، وكلها من قطيع واحد .
ان جاندا اليتيمة ، تعرضت لجريمة شنعاء منذ الصغر ، فقتلت والدتها وأخيها من صديقة ، بدعوى الغيرة لا أكثر من تلك المكناة ( فضية العين )
والابنة جاندا تكبر في بيئة قاسية لا ترحم ، وذكرى طفولتها تنغص عليها حياتها ، والجريمة ماثلة أمام ناظريها ، فيشتد عودها أكثر ، وتصبح ماهرة أكثر ، ولا تبالي بقيود المجتمع الذي لا يرحم ، وانما تكون صلبة كما يتطلب قانون الغاب ، الذي يعرفه البشر اليوم أكثر مما تعرفه الحيوانات .
المعركة الأولى : التي خاضتها جاندا في حياتها كانت معركة فرار ، وكان فرارها هو ميلادها ، حين يكون الفرار أحياناً هو القرار السليم .
المعركة الثانية : التي خاضتها جاندا كانت ضد قطيع من الضباع ، قطيع لا يرحم ، لم يبال بيتمها ، ولم يحزن لمأساة طفولتها ، وانما هجم على وليدها ، وترك الآخر حياً شاهداً على الجريمة
المعركة الثالثة : كانت صراع نفسي خاضته مكسورة الفؤاد ، حين تركت شبلها ، ممزق الظهر ، ومضت تاركة اياه وخلفها الآخر ، أن تترك وليدها للحياة ، كأنها تكرر مأساتها .
المعركة الرابعة : كانت معركة اثبات الذات ، حين عادت قوية صلبة ، ورغم ذلك لم تهاجم ، في مبدأ أخلاقي جميل ، أن القوة لها متطلباتها ، قوتك لا تعني أن تهاجم من هم أقل منك ، أو تثبت ذلك في كل مناسبة ، لكن فضية العين تهاجمها ، فتنتصر جاندا ، وتثبت زعامتها .
وتأكيداً لمبدأ العفو عند المقدرة ، فان جاندا لا تستغل هذه القوة للنيل من أعدائها ، وانما تستقبل بحب كل أعدائها ، فتكون فضية العين في فريقها ، وتشكل فرقاً عند المعركة ، فتنتصر هي وقطيعها بمساعدة العدو السابق ، وحين يحدث ذلك فقط ، حين تتوحد الأسود في القطيع ، يأتي الابن المصاب ، وقد انجلت كل جراحاته ، وعاد من جديد ، وكأنها رسالة واضحة المعالم : بالوحدة فقط ، يحيا الأبناء ، وحدة الوطن الواحد ، وطن يجمع المفارقات كلها ، في وعاء واحد ، ينبذ الخلافات ، ويتغاضى عن الجراح ، ويكون مستعداً لاستيعاب الجميع ، دون أي تمييز .
ان القارئ لقصة جاندا للعمري سيتذكر دون شك ، حكمة الخنزير : ماجور في قصة مزرعة الحيوانات للكاتب البريطاني جورج اورويل ، ثم صراع نابليون وسنوبول ، رغم أن رمزية مزرعة الحيوانات كانت شديدة الوضوح مع مبالغات أكثر ، وكانت رمزية قصة العمري أقل وضوحاً مع واقعية أكثر .
أن ترى كل هذا الكم ، من الحكمة ، والصراع ، والألم ، والأمل ، بهذا الأسلوب الأدبي الفريد ، وهذه اللغة القوية ، وهذه الدلالات السياسية والاجتماعية ، في قصة واحدة بهذا العدد من السطور القليلة ، لهو أمرٌ لا تجده كثيراً بقدر ما عشناه في قصة العمري ، مع جودة في الوصف ، وبديع الكلم ، كما في هذه المقتطفات :
"كَانتْ الشَّمسُ تُطِلُّ عَلَى استِحيَاءٍ مِن خَلفِ الأَكَمةِ "
"كَانَ النُّعَاسُ قَد بَدَأَ يُداعبُ عَينَيِ النَّهارِ"
وأخيراً أشكر الدكتور سمير على هذه القصة التي ستكون اضافة غنية ولا شك لقسم القصة ، وشكراً على لمحة الأمل بالأخير ، لمحة أمل تجعلني رغماً عني أتذكر جراحات سوريا وأدعو الله أن تندمل وأن تعود كما كانت وأجمل . .. تحية تليق
قراءة أقل ما يقال عنها أنها رائعة ومتعمقة للكثير مما تضمنت من معان وإسقاطات ، وأنا أشكر لك هذه القراءة وأشكرك عليها!
دام دفعك!
ودمت بخير وعافية!
تقديري