أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 8 من 8

الموضوع: في حضرة جسد ـ قصة ـ

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي في حضرة جسد ـ قصة ـ

    في حضرة جسد

    إلى ليلى الشافعي



    على غير عادتي، داهمتني استفاقة مبكرة هذا الصباح. شرعت عينين مثقلتين بالنعاس، من نافذتي أطلت سماء معلنة شحوباً ضامراً. بكسل أذر سريري وحيداً يستريح من ثقل جسدي الهزيل. بخطوات بطيئة أقصد الحمام. أنقر بسبابتي مفتاح الكهرباء فانجلى أمامي وجه غريب مقابل لي تماماً. لاح لي والبغتة تستلقي على ملامحه. أترنح إلى الخلف مذعوراً كاتماً شهقة قوية كانت كفيلة بأن توقظ الحي الراكن إلى هدأة الصباح.
    أعاود التحديق في المرآة. الوجه يحدق بي مستغرباً وجودي قبالته. أتقدم بحذر. أبلل وجهي بالماء البارد. أمرر منشفة عليه. لا فائدة ترجى من كل هذا. لم يكن وجهي ذاك الذي بللت بالماء البارد، ومررت عليه منشفة كيما أمحو غرابته.
    تمتطيني الربكة وتعتليني الحيرة وأنا ألوذ بغرفة نومي محاولاً أن أندس في فراشي عليّ أستعيد عادتي الدائمة في النوم حتى وقت متأخر، وأطرد ما أمكنني هذا الكابوس الثقيل على نفسي، وبالتالي أستعيد ملامحي المنفلتة مني. لم يطاوعني جسدي الذي قادني عنوة ليقف قبالة النافذة كأنما يريد أن يشنف ناظريه بحدائق المدينة الإسفلتية. أقلب حواسي أو ما فضل لي منها في الغرفة، أحزن جداً عندما لا أعثر على نملتي الصغيرة سها.
    يقرر الجسد أن يضع ملابس غريبة وجدت مرمية على حافة سريري ولا أعلم من أين أتت؟ لو خيرت في الأمر لفتحت دولابي، ولأخرجت منه بدلتي السوداء الأنيقة، أو في أقصى درجات تحرري، بنطالي الأسود، قميصي الأبيض ولا باس من سترتي الكتانية الملائمة لهذا الفصل، وإذن لما ارتديت هذا الجينز الضيق، وهذا القميص الأحمر المكشوف. أكره الأحمر جداً. و لوضعت حذائي الموكسان عوض هذا الحذاء الرياضي المقرف. أكره الرياضة أيضاً.
    وددت أن أنزل إلى مرآب العمارة لأستل منه سيارتي الشيفروليه، لونها أحمر، بيد أن خطوات هذا الجسد الغريب الذي يتحرك بطريقة غريبة أخذتني أسيراً إلى الشارع الخالي إلا من سيارات قليلة تنزلق في هذا الصباح الباكر.
    إحداها، ولم تكن شيفروليه حمراء، تقف ويطل سائقها برأسه ثم يقول بطريقة مقرفة:
    - تبغين توصيلة عزيزتي؟
    حاولت أن أنقض عليه، وأسدد لكمة موحعة إلى وجهه، إلا أنني أفاجأ بصوت رقيق يصدر عني يقول:
    - إذا كان سوق الأجساد في طريقك، فأنا أقصده.
    سوق الأجساد؟
    ولدت بهذه المدينة، وسمعت بل وزرت سوق الوجوه، والسيارات، منه اشتريت الشيفروليه الحمراء، وأنا أكره الأحمر، وسوق الدراجات، والسياسة، والحمير...إلخ إلخ لكني أبداً لم أسمع عن سوق الأجساد أو سوق النمل الذي حصلت فيه على نملتي الشقية سها.
    على عكس رغبتي، ألفيتني أجلس جوار السائق الذي عبثت يداه بجسدي، وقبل شفتي فبرزت رائحة فمه الكريهة، و... أخجل فعلاً من ذكر كل التفاصيل.
    بدا الجسد اللعين سعيداً راضياً، وهو ينزل من سيارة ذاك المأفون الشبق، وكنت تعيساً خجلاً من نفسي غارقاً في بحر الحيرة الهاذر. خشيت أن يراني أحد معارفي أو أقربائي أو زميل من زملاء المدينة في وضعي المشين ذاك أو أن يعرف ما جرى معي هذا الصباح.
    تصورت أنني إن حدثت ماري بالأمر، فستطلب مني ناصحة على عادتها أن أرتاد أقرب عيادة أخصائي في علم النفس يلقيني على أريكة مريحة، لا تشبه مقاعد السيارات، ويعبث بروحي وسأخجل من ذكر تفاصيل ما سيحدث لي حتى أمامي.
    أفزعتني ضحكة ماجنة لطفل صغير، خشيت أن يكون وليداً مفاجئاً لحادث هذا الصباح. بحثت عن مصدرها فإذا هو جيب سروال الجينز الضيق. كان الهاتف يرن. أفتح الخط ليصلني صوت أليف جداً. بدا ناعماً حد الفحيح وهو يقول دون مقدمات بين وصلات سعال حادة:
    - هل وصلت سوق الأجساد؟
    كنت أود أن أسألها من تكون؟ بيد أني سمعتني أقول لها، وبالصوت الرقيق ذاته:
    - نعم ماما اطمئني.
    ماما؟ توفيت أمي التي لم أكن أناديها ماما، كما أخبروني، عند وضعي. وكنت غاضباً منها خاصة بعد آخر مرة أرسلت لها رسالة قصيرة على هاتفها النقال ولم ترد علي. كما تجاهلتني الأسبوع الماضي على الانترنت، إذ ما إن رأتني أتصل حتى ألصقت كلمة مشغول على وضعها. خمنت ساعتها أنها غاضبة مني بعد صراحتي المعلنة في آخر لقاء بيننا على صفحات في حضرة موتي.
    يصلني صفير غزل مصدره شاب طائش، وكلمة من آخر أستحيي من ذكرها أمامكم. أستدير وأبتسم في وجه الأول الذي وددت في قرارتي تمزيق شفتيه، وأرسم قبلة في الهواء بشفتي للثاني الذي رغبت في تهشيم عظامه. كل هذا لا يحتمل. أتذكر الوجه الذي رأيته على مرآة حمامي، كان وسيماً جداً بغمازتين. أعترف أني أملك وجهاً قبيحاً كما تقول ماري عندما تريد مناغاتي لكني أود استعادته مهما كلفني ذلك من ثمن.
    السوق هو السوق. البضاعة مكدسة، أية بضاعة؟ الأجساد مزدحمة، هذا صحيح. الباعة والزبائن والنشالون والذباب والعرق والغبار واللغط هنا. كل شيء يوحي بأنني في سوق حتى تلك الأصابع التي أخذت تعبث بمؤخرتي. وددت أن أستدير لأقتل الرجل المليون هذا الصباح بيد أن ذلك ما كان ليحدث طبعاً. أتطلع في الوجوه التي تتشابه ولا تتفق. تحسب أن بينها نقاط تقاطع كثيرة بيد أن كل واحد منها يحمل بصمته الخاصة. نساء ورجال لا أعلم ما الذي دفعهم إلى هذا التجمع الغريب. ألمح مستغرباً ماري تعدو خلف امرأة صارخة:
    - أعيدي لي وجهي.
    غضبت أنها لم تلحظ وجودي. رأيت أشخاصاُ آخرين يعدون في كل الاتجاهات، بعضهم كان يضع قميصاً أحمر مكشوفاً، وأنا أكره الأحمر جداً. قزم رأيته يمسك بخناق مارد عملاق وهو يقول له صارخاً: أريد استعادة قامتي. و آخر يريد هامته، و سيدة تبحث عن شامة وجهها سرقها منها لص أهداها حبيبته البشعة. سها نملتي تتبع نحلة تريد جناحيها. أمي أيضاً التي أخبروني أنها قضت عند وضعي، تحاول اللحاق بشابة متذرعة أنها أخذت منها سني عمرها.
    الأصابع ماتزال تعبث بمؤخرتي، والسماء ظلت على شحوبها الضامر، وهذا الجسد ممعن في تواطؤه ضدي.
    من أمامي يمرق جسدي. أستبشر خيراً أنه وقف قبالتي رغم تحفظي على القميص الأحمر المكشوف الذي وضعه. أخمن أنه عرفني، وأننا سنتوحد أخيراً، ويستعيد بعضي بعضي بعد كل هذه الفوضى التي لا تطاق. فاجأني ما بدر عنه حين قال لي:
    - هل تعرفين، حلوتي، مكاناً نستطيع أن نأخذ فيه راحتنا؟
    سأصرخ لأقول له، إنه أنا، صاحبك ومولاك. لكن لا سلطة لي حتى على لساني الذي قال: إتبعني.
    والدي الذي كان دوماً يقرفني بلحيته الطويلة التي تشبه تلك التي يحمل أبناء بن لادن يقول بغضب جلي:
    - عليكم اللعنة إلى يوم الدين.
    أحاول أن أفهمه الأمر بيد أني سرت وجسدي مخترقين الزحام في اتجاه خلوة لست مستعداً استحياء منكم لذكر كل تفاصيلها المشينة.

    عبدالسلام المودني

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2006
    المشاركات : 9,079
    المواضيع : 101
    الردود : 9079
    المعدل اليومي : 1.38

    افتراضي

    المودني الرائع..
    وانا اقرأ نصك استحضرني بضع همسات كامو وهو يصف لنا حالة انسان مشابه لهذه الحالة التي رسمت ملامحها في النص، وكأني بالذات هنا تطفو على السطح لتوضح مكنوناتها بابجدية تمردية واضحة غير مبالية بالاثار الاخرى التي قد تخلفها جراء صراحتها وتمردها..لنستمع اليه:
    يتفق ان يتهاوى حولنا ديكور حياتنا اليومية في حطام،اللباس،الترام، اربع ساعات في المكتب او المصنع،وجبة اكل،الترام،اربع ساعات من العمل، الاثنين،الثلاثاء،الاربعاء ،الخميس،المعة،السبت،كلها في نفس الايقاع ،والطريق يسهل السير فيه معظم الوقت، ولكن كلمة لماذا تظهر ذات يوم واذا كل شيء يبدو متعبا ملونا بالدهشة، كل شيء...لقد احسن انتقاء اللفظتين،اذا لم نغص في ارتابة ونغرق في السبات ثانية،فاننا نبدأ بالنظر الى حولنا بأعين جديدة ونشرع في مغامرة ملأى بالمخاطر،في مجابهة لهذا المقلق من الحياة،العبث،ويداهمنا حس بمرور الزمن نحن نعيش في المستقبل غدا.فيما بعد..وعندما تتوظف، عندما تكبر ستفهم، هذا اللاتلاحق رائع،لان المسالة في الواقع مسالة احتضار ان تمردنا على انقضاء حياتنا هذا وجه اخر من اوجه العبث؟

    ايها السامق عذرا ان كنت حلقت خارج السرب..فانا افعل ذلك دائما.

    محبتي لك
    جوتيار

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالسلام المودني أديب
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 162
    المواضيع : 36
    الردود : 162
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    العزيز جوتيار تمر

    شكراً لتحليقك الدائم في سماء حرفي، وأهلا بك دوماً قارئاً أفخر به.

    محبتي الصافية.
    عبدالسلام المودني.

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.69

    افتراضي

    ألمح مستغرباً ماري تعدو خلف امرأة صارخة:
    - أعيدي لي وجهي.
    غضبت أنها لم تلحظ وجودي. رأيت أشخاصاُ آخرين يعدون في كل الاتجاهات، بعضهم كان يضع قميصاً أحمر مكشوفاً، وأنا أكره الأحمر جداً. قزم رأيته يمسك بخناق مارد عملاق وهو يقول له صارخاً: أريد استعادة قامتي. و آخر يريد هامته، و سيدة تبحث عن شامة وجهها سرقها منها لص أهداها حبيبته البشعة. سها نملتي تتبع نحلة تريد جناحيها. أمي أيضاً التي أخبروني أنها قضت عند وضعي، تحاول اللحاق بشابة متذرعة أنها أخذت منها سني عمرها.
    فوضى المعاني والمعالم وتيه الأرواح في ذاتها كله جسده الكاتب في مشهدية غرائبية السرد تقريبا، صورها عميقة الدلالة، وإشاراتها قوية ومائزة
    سرد شائق وأداء مكين تمنيت
    شابه بعض عثرة أثق أن كاتبنا كان ليضبطها ببعض مراجعة

    للرفع استحقاقا

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  5. #5

  6. #6
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    تباعد الجسد عن الروح والبحث عن الذات والخوض في متاهات النفس صغتها بسرد مغناطيسي
    اسجل اعجابي
    دمت بخير
    مودتي وتقديري

  7. #7
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,788
    المواضيع : 392
    الردود : 23788
    المعدل اليومي : 4.12

    افتراضي

    نص زُرعت سنابل الدهشة بين حروفه تجعل المتلقي يتابع باهتمام الرباط الوثيق بين الروح والجسد ورحلة في أعماق النفس
    لنصوصك بصمة مائزة تستدعي المكوث عليها كثيرا
    بوركت واليراع أديبنا الفاضل
    ومرحبا بك في واحتك
    تحاياي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,176
    المواضيع : 318
    الردود : 21176
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    رغم غرائبية القصة والمشاهد.. فقد كان القص ممتعا ومثيرا
    سحرتني اللغة وجذبني السرد الماتع المشوق
    دمت ـ ودام ألقك. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. في حضرة مدينتي ـ قصة ـ
    بواسطة عبدالسلام المودني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 23-10-2021, 06:52 PM
  2. في حضرة موتي ـ قصة ـ
    بواسطة عبدالسلام المودني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 26-09-2016, 05:47 PM
  3. في حضرة ثمالتها ـ قصة ـ
    بواسطة عبدالسلام المودني في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 22-11-2015, 08:13 PM
  4. رواية رحلة جسد قصة التعذيب داخل المعتقلات والسجون الاسرائيلية..
    بواسطة ريمة الخاني في المنتدى نُصْرَةُ فِلِسْطِين وَالقُدْسِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 14-07-2007, 04:34 PM
  5. رَفَحْ ... جُرحٌ نازفٌ في جسدٍ تأبّى
    بواسطة د.جمال مرسي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 21-05-2004, 12:20 PM