- اصحى .. فوق
- تمام يا فندم
صرخت بها وأنا أضرب الأرض بحذائى الغليظ واضبط وضع سلاحى على كتفى, يدى ترتفع تكاد
تصفع رأسى وتهوى إلى جوارى فى حزم.
يذهب الباشا, وابقى كالصنم فى مكانى, كم ساعة لبثت واقفاً هنا ؟ لست أدرى, أعرف طبعاً أن
أجيب لو سألنى أحدهم عن الساعة, علمنى ذلك الحاج فاروق حلاق قريتى, وأهدانى أخى
سليمان ساعة جديدة عندما نجحت فى الإبتدائية أخفيها تحت أكمامى, لكنى لا أستطيع الحراك
الآن, الموكب على وشك الاقتراب, يمر الباشا كل فترة ويزعق بهذا :
- الموكب قرّب, انتباه يا ولاد ال .....
- تمام يا فندم
فى الصباح الباكر, وعندما جاءت بنا العربات من الوحدة,كانت الشوارع هادئة, والأشجار المحيطة
بنا تمتلىء بالطيور التى تستعد للانطلاق, شاهدت هذا من شباك العربة الصغير قبل نزولى,
ولكنى منذ أخذت مكانى لم التفت, أشعر ان المكان من حولى جميل, هل يمكننى الالتفات قليلاًو
آه .. هذا "على الشبراوى" يقف بعدى,إنه لا يرانى, لعله نائم, سيجىء الباشا الآن ويفزعه "
ضحكت دون أن اهتز " .
كم هو رائع هذا الشارع وهذه البنايات الشاهقة, يا إلهى .. عالية جداً, ويبدو لى من فوقها .. ما
هذا ؟ هل نقف بالأعلى أيضاً ؟ الباشا موسوس جداً, ما الذى يمكن أن يحدث, ومن يجرؤ على
مهاجمة الباشا الكبير جداً ؟ ولماذا يهاجمه أحد من الأصل ؟ أليس هو ولى أمرنا وراعينا وحاميا
كما يقولون ؟ لماذا إذن ...
- اثبت ياعسكرى..
- تمام يا فندم.
يا إلهى ,ماذا كنت أفعل ؟ هل كنت أحك جلدى ؟ أم أتثاءب؟ لعنة الله على التفكير الذى يدفعنى
للغفلة.
الباشا يقترب, أشعر به يقترب, استر يا ستار ..
- أيوه يا باشا , كله تمام .
الحمد لله, اللاسلكى أنقذنى, ماذا كنت أقول؟ نعم .. الحر شديد جداً اليوم والعرق يخرج من كل
أجزاء جسدى وكأنى أُعصر, أتذكر الآن البلد وجوها العليل" بلدنا حلوة", وكلها خير, وناسها
طيبون, ولكنهم غلابة.
يستكينون كلما زعق أحدهم مثل الباشا, يخضعون للغفر ولشيخ البلد وللعمدة وللمأمور, وهؤلاء
لابد أن يكون هناك من يخضعون له من الكبار, الحياة كلها درجات, وليس عيباً أن أكون فى أول
السلم وخاضع للجميع, ليس عيباً.
الملح بدأ يتراكم تحت ملابسى ويلدغنى كلدغ النحل, أود لو ألقى بهذا السلاح وأركض عارياً فى
الشارع, سيقتلنى الباشا بالرصاص" قهقهت بدون حركة", الناس من حولى يتحركون, عدد قليل
جداً من الناس فالموكب لا يمر إلا فى الشوارع الخالية, احتياطات أمن, هكذا يقول لنا الباشا.
ولكن هناك سؤال يداهمنى دوماً, كيف أتصرف إذا وجدت خطراً؟ وسؤال أخطر, كيف أشعر
بالخطر وانا لا يمكننى الالتفات ولا أستطيع النظر إلا أمامى مباشرة ؟ ماذا لو جاءنى احدهم من
الخلف وطوق عنقى وأردانى قتيلاً؟ ماذا سيحدث للباشا الكبير جداً حينئذ ؟ والله سأحزن عليه ..
- اصحى يا خويا, أنت نايم, قدامى على الصف ..
لسعنى الباشا على قفاى, لكنها " حاجة بسيطة" , ضاع الألم لأنى تحركت أخيراً, اهتف معهم
وأنا أقفز فى الصف هتافاً لا أفهمه, لكنى ابتسم, فالباشا الكبير جداً غير اتجاهه, أو ربما غير رأيه,
واستراح اليوم فى البيت.