المدينة السمراء
كان البحر بعد مجيئه الشاطئ يعود محملاً بالرمل والتعب اللذيذ وكان في غدوه ذاك يزيح عنها أكوام النسيان .. عن شعرها يزيح الرمل وعن كتفيها يغسل الطين والملح ويحفر خصرها للعيون وللأصداف. فبدت مقرفصة تكتب رسالة في الرمل غير عابئة بنظرات المارة والفضوليين من حولها وهم يبحلقون فيها كان حلماً يعبر الشارع من تحت أعينهم.
أيها العجوز هل تعلم كم رسالة كتبها لك قبلاً ؟؟
أذكر يدك المغروسة في الرمل المبلل تحفر اسمي وهي تخضر تورق ملايين الأصابع والوعود ولحظات فراقنا وأنت تسير مبتعداً عن يمينك المنازل والنخيل وعن يسارك كان يرتسم القمر .. آلاف الرسائل وأنا أرقب خطاك تشيخ على الرمال.
أتذكرين آخر عهدي بالبلدة ؟؟
كنت ارقب ذلك الطفل الشقي يعبث بأكوام الرمل يبني بيوتاً من ذهب ، يمنع عنها أرجل المارة والعشاق يملؤها بصياح النورس الأبيض – ياله من طفل شقىّ كنت اتبعه لعتبات عينيك سأكتب له ألف رسالة وأدعوه ليبني لي بيتاً.
هكذا يقول أغلب الرجال ولكن ما ان تداري خطاهم الغربة حتى يلقون بوعودهم في البحر اخشى ان تفعل مثلهم يقولون ان الغربة تنسي المرء اسمه ولون عينيه فماذا فعلت بك ؟؟؟
كانت القوارب الخشبية المعطونة بالبحر والملح مستلقية على ظهرها في الرمل وكان البحر يمدد ساقيه العذبتين على الشاطئ. تاركاً ظهره للشمس تملؤه سمرة وإخضراراً ... عيناها تفرشان الرمل ليقف عليه البحر كل يوم وحين يجنّ الليل كانت تهبانه لمع النجوم ولحن المجاديف الرخيم على الشاطئ الآخر كان يقف هو بكل توقه وحنينه إليها يعشق عينيها والبحر المدد فيهما والبلدة وصمت المغيب... وجهها كان الشراع ، فماذا طوى جناحيه الأبيضين كانت عيناه تخيطان وجهها الصغير في البحر ... رائعة ككل نساء الارض وكان هو واحداً من الذين عشقوا زرقة السماء من فوقها ، أحبّ فيها الشمس وصدق عواطفها الكبيرة.
أتراك قد بدلت عشقي؟؟ هكذا تكتب ... كانت مراهقة تحلم بالربيع في عينيه وتسقيه له – كبيرة في حلمها وجهها الرائع بلا أصباغ ، أفق لا حدود له وكان هو السُحب التي تملأ ذلك الأفق ... كان إذا رجع البلدة اهدي لعينيها التمائم والمحارات التي تعشقها – البلهاوات يعشقن الذهب .
سأهديك في كل مرة صدفة ومحارة.
هل تعرف كم يبلغ عددهنّ الآن ؟؟
أظنه ثمانية.
بل عشرة أيها الأحمق
سوف أهديك منها ألوفاً وألوفاً
إذن ستفني عمرك في الترحال
قالوا إنا المجنونة قد عادت ( تهامسوا فيما بينهم )
قال: هو قدري يا صغيرتي الحلوه
أتدرين كيف أحسب أيامي بعيداً عنك؟... إنني أقرأ للشمس كفيها ودفاترها وأحصى في عينيها أهدابها الطويلة ؛ وحين تملأ الدنيا نزيفاً وغروباً تكون آلاف من السنوات قد بارحت عمري وأنت بعيدة عني ، فأنام أحلم بدنيا لها طعم عينيك وصباح له إشراق البسمة في ثغرك وأصحو لأقاتل باسمك من حديد. آلاف من السنوات بعيداً عن الأحلام في عينيك يلبسني فيها التشردُ والضياع .. وأعود .. أعود.. وتهلين في عمري كالقمر الأبيض يرسم تقاطيع القرية المنسية في العراء. مستديراً كالخبز الحار كحلم الجياع ... يملأ أزقتها أطفالاً وسماراً وأشباحاً .. وأراك تحلمين الحلم نفسه فأشكر الله أن أعطاني كل هذا العمر وأبقاني لعينيك وأعود أتساءل:
هل تحلم الصبايا في مثل سنكِ بالوطن؟؟ وهل يحلم الرجالُ بحبيبة مثلك ؟؟
وكما عودتي تغسلين وجهي بأحلام البلدة وتدفنين قدمي في الرمال وتخيطين لي أشرعة وآمالاً جديدة.
( شعرها أبيض كالثلج وجسدها ناحل كقصب... المجنونة عادت المجنونة عادت.
أعوامّ وأعوام ، يكبر فيها حلم بلدتنا عن آخر مرة رأيته فيها يضحي بطول حقيقة .. يطول ... يكبر.. يلد أحلاماً جديدة ، كلّ شئ فيك يكبر .. حلمُ لقرية .. رائحة البحر ويداهُ ... الأرضُ الناعسة تحت جناحيك ... والسماءُ من فوقنا.
أتراك تذكر حديثك لي وأنت تقسم بيديك في البحر ؟!! أم أنك نسيت ؟؟ أما أنا فلن أنسى وسأظل أكتب لك رغم توقفك الطويل، أكتب وصليل أهلي يملأ قدميّ ومعصميّ... سأرمي رسائلي لك في البحر علها تصادف يديك من تحت الماء حبيبي... إنني أعرف أن صخب مدنهم الشقراء يملأ الأوصال خدراً ويجري على صدر المراكب والقمر فأخشى أن يغسل عن يديك ماء البحر.
أنظروا ماذا تكتب البلهاء العجوز تقول إنها عشقت أروع الرجال الخُضر وأنه سيعود يملأ عمرها اليابس بألوان الصباح.
أعرف ماذا تفعل في مثل هذه الساعة من النهار تقرأ الصحف مبعداً جانباً دخان قهوتك تبحث عن أخباري وعطري عيناك الجميلتان – حلم العذارى وحلمي – تتبعانني إلى النوم – العجوز لم تك تدري انه قد مات منذ أمد بعيد وأنهم دفنوه قرب الشاطئ حسب وصيته لم يقل لها احد ، وربما قالوا لها ولكنها لم تصدقهم.. كل يوم وأنا أحدق في النجمة التي عشقناها سوياً وأعرف انك ترنو إليها في نفس اللحظة يبسم لي وجهك في الظلمة أريدك أن تبقى العمر هكذا . حبيبي أرجوك اعذرني فقد نسيت أن أخبرك إنني قد أخط فستان فرحنا الأبيض كم أودّك أن نراه رائعاً كشجرة ياسمين مزهرة. عذباً كليل العشاق وصنعت له أزراراً من النجوم لا تقل انك تغار على امرأة في التسعين سيعجبك أنني واثقة من ذلك سأبدو عليه في السابعة عشرة وسيملأ الربيع ساقيّ وصدري وتحلم أنفاسي بدفنك ( كان البحر من حولها يخفق كالقلب).
أتذكر ذلك الدغل الذي كنت تحكي لي عنه وكنا نحلم أن يكون لنا ؟؟؟ لقد كبرت أزهاره البرية البيضاء وتفتحت أزهاراً كأجراس الربيع وأمتلأت أحلامي ورأسي بعطرها الساحر المسكر ولم يبق إلا أن تأتي أنت من البعيد..تملأ يديك بها وتقطف لي ندى الصباح والشفق هل تسمع ؟؟ لن أتنازل عن أحلامي أبداً سأنتظرك ... حتى بعد أن يجفّ البحر.
كانت المراكب الخشبية تدفن ظهرها العاري في الرمل ... تغتسل بالبحر حيناً ، ومن حين لآخر تحك عن جلدها الأصداف بانتظار عودة الغائب البعيد.
طيفك الساحر كم أغريته بانتظاري ... تعطرت له بالمسير ساعات الغروب على الشاطئ الأحمر وكلي أمل في أن يغسل عنك البحر صدأ المدن البعيدة... لماذا لا ترد على رسائلي ؟ أأنت مشغول إلى هذه الدرجة؟
كان البحر يغسلها من الرمل قالوا : أنها ماتت وأنهم دفنوها على الشاطئ لكن وجهها ظل يغرب في البحر وظل البحر ينبش الرمل بأصابعه الأنيقة بحثاً عنها ... شيبها أصبح زبد البحر.. صوتها سكن المحار .. وجهها صار الشراع وعندما غسلها الموج أخيراً وجدوها تكتب رسالتها الأخيرة.
خاتمة:
ما لم يعرفه المارة أن البحر وأصل نبش الشاطئ وسيعثر ذات يوم على جثة أخرى لرجل على بُعد أمتار فقط يغسل عنها بقايا الليل والأوهام...
وجهه إلى السماء ويداه خلف رأسه وفي عينيه حلم اخضر كالأعشاب.
قالوا :- يفكر في شئ كبير.
ملحوظة :
نسبة لخطأ فني في الطباعة نزلت قصة الطريق بالجائزة الأولي لمجلة زهرة الخليج ، ولكن المدينة السمراء هي التي حازت علي الجائزة .
مودتي لكم .