الصرخة التي انطلقت من حنجرته الواهنة ليس لها قيمة الآن .. فلن يهتز لها فرع شجرة.. ولن يتجاوب معها طائر .. ولن ينبح لها كلب.. ولن يفزع لها إنسان.
يذكر صرخته المجروحة وهو طفل صغير.. صرخة طفولية بريئة أنقذته من بين أنياب الذئب الذي استولى على جسده .. وانفرد به بعيداً.. وهم أن يعبث به.
تعلق بيقين غامض فى ضوء الشمس المائلة للغروب وبالأمل فى نسمات الهواء ، وبأقصى ما يملك من قوة انتفض .. ليجد ذاته وجسده الغض في حضن امرأة من نساء القرية.
لا يدرى من أين أتت ، ومن أرسلها وما معنى انقاذها له وما معنى كلمة نحتتها فى الفراغ ، وهى تفتش فى تاريخ الذئب الذى نادته بأمه عن الشرف .
لم تحدثه والصبى بين يديها الا عن أمه ، أمه الذى زرعت فيه الخيانة والفسق وشهوة احتقار الآخر وايذائه .
لم ينسَ طووال حياته نظرة عينيها الداميتين للحيوان الغادر .
عرته وفضحت تاريخه الشائه وبصقت عليه .
ألقت فى صمت بالصبى التائه في حضن أمه .
وأين حضن أمه ؟
وأين تلك المرأة ؟
وأين نظرة عينيها الآن ؟
أين الشمس والأمل والوضوح والهواء والحياة ؟
أين مكان بلا جدران ليجرى ، لينتفض ، ليصرخ ، فيسمعه أحد .
أين الناس؟
أين امرأة ريفية بعينين تقدحان بالشرر صبغها الغضب بلون الدم ؟
أين كلاب القرية وصغارها المصابون بالوهن .
أين العصافير تشد من أزره وتوثق مأساته .
وأين الشجر؟
وأين قوته وعافيته .
أين الصبى الصغير لا يدرى شيئاً عن شئ ولم يتشكل ضمير ولا أرق المعانى والعيش فى أبعاد الفضيحة والتلبس بمصيبتها .
أين من ينقذه اليوم
وحده وجدران الزنزانة .. والذئب البغيض.
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ آآآآآآآآآآآآآآه!
اسأليني.. عن جرحى.. ومتى أجبت أحد ؟
اسأليني.. عن سرى ولا تنتظري مني الجواب .
اسأليني .. واجلسي لترتشفي دموعي وتغوصي في غموضي وتسكنك لوعتي وتلوكك مأساتى .
اسأليني.. لم أعد أحتمل.
صرختي المدوية.. وأنا رجل يافع.. ضحك لها الذئب وسخر مني .
صرخة.. رجل كامل الفحولة في لحظة موحشة مجهولة في مكان كئيب أمام حيوان شرس أدافع فيها عن " عرضي - شرفى ".
أدرى الآن معانى الكلمات ، ونكبات الأمة مع العجز .
وهل أقدر بعد الآن على شيء ؟
على المواجهة؟
هل أستطيع بعد ذلك رفع رأسي والسير بين الكائنات والبشر.. وممارسة وجودي والإحساس بكياني .
سأله والجدران تردد:
ماذا تريد ؟
ماذا ستفعل ؟
اخترقته ضحكة ملوثة ولفحه نفس مريض كريه .
كامرأة لا قوة ولا حول.. يعريها سفاحها ويفضح ضعفها ويغتال شرفها ويسب ويلعن ، ليس كبشر وليس ككائن حى انما شئ بغيض من خارج هذا الوجود .
من ينادى لينقذه .
الأمة فى خياله تلعن نفسها وعجزها وتودع كبرياءها المسحوق ، خيانة من خيانة وعجز من عجز وضياع من ضياع وظلمة ووحدة ما لها حدود .
اسأليني عن سرى
اسأليني يا حبيبتي.. عن جرحى الغائر .
اسأليني.. عن سر فزعي بالليل.. وانكساري بالنهار.
اسأليني.. لم ضاع إحساسي وانهارت أحلامي وفقدت شهيتي للحياة .
اسأليني يا حبيبتي.. أحتاج للبوح.. لم أعد أحتمل .
ماذا بك يا حبيب عمري ، ما الذي غيرك ، ماذا أصابك ؟
لا شيء يا حبيبتي.
لا شيء.
الكابوس المعتاد.
تذكرت ذلك الرجل الضخم الذي أغلق على الزنزانة وضربني على قفاي .
وهل هذا كل شيء؟
يبتسم في مرارة ويضمها بيدين مرتعشتين ويبتلع وجعه .
هذا هو كل ما حدث يا حبيبتى .
لم يحدث شيء آخر
لم يحدث شيء .