عَلَى شطِّ الصَّاعِدِيلَسْتُ أَصِيحُ مُسْتَنْجِدًا , وَقَدْ ابْتَلَعَ مِنِّي الغِيَابُ شَطْرًا فَشَطْرَا , تُنَازِعُهُ عَلَيَّ ذِكْرَى , وَمَا أَمْلِكُ بِيْنَهُمَا أَمْرًا , إِذِ اعْتَدْتُ خَسْفِي بِلَا أَسَفٍ , فَمَا أَنَا إلَّا رَهْنُ قَدَرِي , أَسِيرُ عَلَى أَثَرِ , رَضِيتُ الغِيَابَ كِرِضَايَ الحُضُورَ , غَيْرَ أَنَّهُ يُحَمِّلُنِي حِدَاءُ صُوتٍ فَوْقَ مَا تُطِيقُ رِكَابِي , حَثَّا عَلَى إِيَابِي , فِيَزْدَادُ بِي الحِمْلُ حِمْلَيْنِ , كَأَنَّ الحِدَاءَ وَحَالِيَ كَفَّانِ أُشْرِعَتَا فِي وَجْهِ مُعَاقٍ , أَوْ رُقْيَةُ رَحِيمٍ عَلَى صَدْرِ عَقِيمِ .
إِلَى الأَدِيبَةِ الكَرِيمَةِ / حَوْرَاءَ آلِ بُورنو .
صَدَى إِجَابَاتٍ عَلَى صِدْقِ نِدَاءَاتٍ
لَمْ تَسْلُبْنِي الرِّيَاحُ شِرَاعِي بَعْدُ , فَهْوَ عَلَى جِدَّتِهِ , إِنَّمَا سَاعِدَايَ قُيِّدَا بِحَبْلِ المَعِيشَةِ , وَمَا هِي فِي البَحْرِ إِلَّا لِمَنْ بَاعَ حِلًى اسْتَخْرَجَهَا أَوْ اسْتُخْرِجَتْ لَهُ , وَقَدْ عَهِدْتُنِي رُبَّانًا لَا يَمْخُرُ بِسَفِينَةٍ عُبَابًا لِيَطْرُقَ بَابَا , إِنَّمَا لِيُغْرِقَ شِيطَانًا أَوْ يُنْقِذَ أَلْبَابَا , فَمَتَى لَمْ أَسْتَطِعْهَا أَعْرَضْتُ عَنْهُ , وَقَدْ تَوَلَّتِنِي حَالاتٌ مَا لَبُوسُهُنَّ الكِتَابَةُ , وَيُشْقِينِيَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ لَبَعْضِهَا لبَاسَهَا , فَتَحَلِّيْتُ بِالصَّبْرِ دِثَارًا , إِذْ هُو حِلْيَةُ الفَاقِدِ , وَبُرْدَةُ الوَاجِدِ . وَعِلَّاتُ المَرْءِ بَعْضُ حَالاتِهِ , وَكَذَلِكَ خَيْبَاتُهُ , وَإِنْ أَتَتِ الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ فَحَيْلُولَتُهَا دُونَ صَيْرُورَةِ المُبْتَغَى , فَمَا بَالُ رِيَاحٍ اعْتَرضَتْنِي لا تَنْقَطِعُ , وَمَا بَالُ أَمَانِيِّي أَدْرَكَهَا اليَأْسُ فِي مَهْدِهَا فَلَمْ أُدْرِكْ مِنْهَا إِلَّا تَشْيِيعَهَا , وَإِنْ أَدْرَكْتُ فَلا تَأتِي كَمَا تَبْدُو .
وَلَعلَّ خَلْوَةً بِالنَّفْسِ - وَإِنْ طَالَتْ - كَفِيلَةٌ بِإِبْرَائِهَا مِنْ أَدْوَائِهَا , وَمَا دَاءُ البَدَنِِ بِشَيْءٍ إِزَاءَ دَاءِ النَّفْسِ , فَالوَهَمُ دَاءٌ , والكَآبَةُ دَاءٌ , والكِبْرُ دَاءٌ , وَكَذَلِكُ البُؤْسُ . فَلَيْتَ عَرَضَهُ حِسِّيٌِّ ظَاهِرِيُّ يُدْرَكُ بِالنَظَرِ ,أَوْ بَاطِنِيُّ يُعْرَفٌ بِالجَسِّ لَهَانَ التَّشْخِيصُ وسُعِيَ لِلْمُعَالَجَةِ , إِنَمَّا دَاؤُهَا غَائِرٌ فِي خَفَايَاهَا غَائِبٌ عَرَضُهُ عَنْ صَاحِبِهَا , وإِنْ بَدَا شَيْءٌ مِنْهُ فَالكِتْمَانُ سَجَّانُهُ والكَبْتُ أَصْفَادُهُ, وَلَوْ كَانَ غَيْرَ ذَلَك لَمَا غَلَّبَتِ النَّفْسُ صَاحِبَهَا .
إِنَّ مُعَقَّبَاتِ أَدْوَاءِ النَّفْسِ لَتُخْتَصَرُ فِي كَلِمَةٍ حَيَاةٍ , فَمَنْ كَانَ حَيًّا لَا بَدَّ لَهُ مِنْ مُكَابَدَةِ نَفْسِهِ وَمَا يَعْتَرِيهَا , فَالفَقْرُ حَالَةٌ تُعَقِّبُ البُؤْسَ وَغَيْرَهُ , وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُهُمْ تَجْلِبُ الشَّحْنَاءَ , وَبِمَا يُوَافِقُهُمْ تُودِي إِلَى النِّفَاقِ , حَتَّى الصَدَاقَةُ تُزْعِجُ النَّفْسَ فِي بَعْضِ حَالَاتِهَا , بَلْ إِنَّ الدَّاءَ لَيَأْتِيكَ مِنْ قَرِيبٍ بَلْ مِنْ أَقْرَبَ مِنْ ذَاتِ النَّفْسِ .
وعَلَى مَا بِالنَّفْسِ مِنْ إِشْكَالِيَّاتٍ واخْتِلَاجَاتٍ وَمَكْنُونَاتٍ فَإِنَّ الإِحَاطَةَ بِهَا وَرِعَايَتَهَا وإِخْلَاءَهَا مِنْ كُلِّ دَاءٍ يَعَزُّ عَلَى كُلِّ ذِي نَفْسٍ , فَسُبْحَانَ الذِي شَاءَ كُلَّ نَفْسٍ تَلْجَأُ إِلَيْهِ حُبًّا ورَغَبًا أَوْ رَغْمَا وَرَهَبًا , وَجَلَّ إِذْ جَبَلَ الأَنْفُسَ عَلَى اللَّوْمِ وَالنَزَعِ , فَلَا بُدَّ لِإِرَاحَتِهَا وَسَلامَتِهَا مِنْ اللُّجُوءِ إِلَيْهِ والافْتِقَارِ إِلَى كَلَاءَتِهِ , والاعْتِصَامِ بِهِ , فَلا َحوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ , ولَا اتِّكَالَ إِلَّا عَلَيْهِ , فاللَّهُمَّ هَذِهِ نَفْسِي عَلَى مَا جَبَلْتَهَا فَطَمِّنْهَا , وَهَذَا قَلْبِي بِمَا ارْتَضَيْتَهُ لَهُ فَامْلَأْهُ نُورًا , وَهَذَا شَأْنِي بِمَا قَضَيْتَهُ وَقَدَّرْتَهُ لِي فَأَصْلِحْهُ كُلَّهُ وَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ , فَإِنَّي إِنْ زَللتُ لَا سِوَايَ مَلُومٌ , وَأَنْتَ إِنْ عَاقَبْتَ فَعَدْلٌ حَكِيمٌ , وَإِنْ غَفَرْتَ فَرَحْمَنُ رَحَيِمُ , غَلَبَتْ رَحْمَتُكَ نِقْمَتَكَ وَعْفُوُكَ عِقَابَكَ , فَاهْدِنِي صِرَاطَكَ وِقِنِي عَذَابَكَ , إِلَيْكَ المَلْجَأُ وِبكَ النَّجَاةُ .