قراءة عميقة وتحليل غاص في تفاصيل الوقت والكلمة والحرفنتوقف عند محطات الزمن وندلف دهاليزه وعالمه الغامض فى هذه القصة التى ألحت بقوة على اشكالياته المعقدة ، خاصة فيما يتعلق بالمرأة وعمرها المسروق ومشاعرها المهملة وانسانيتها المحروقة على موقد الحياة العصرية وأحداثها المتسارعة ومتطلباتها المادية ورتابة وقسوة العمل وجفاء وروتينية الحياة الزوجية .
أحداث وواقع وملابسات وظروف تجعلها فى معرض بحثها عن انسانيتها وأحلامها الوردية بعيداً عن قسوة الواقع ومرارته وعن أنوثتها وأمومتها ، تلح وتكرر وتلاحق الوقت كأنها تبحث عن متنفس ومتسع من الزمن تتمتع بانسانيتها فى رحابته ، أو كأنها تريد أن توقفه وتعرقل مسيره السريع بمجرد " تكة " بيدها على المنبه لكى تنعم بوقت اضافى خارج اطار الروتين والملل تشعر فيه بذاتها وبوجودها .
لذلك طغى الصراع مع الزمن والوقت على معظم أحداث القصة وكان هو المحور الأساسى فيها .. ولا يكاد يخلو مقطع من اشارة لهذا الصراع ، نقرأ مثلاً : " كعادتها – ساعة الايقاظ - كل يوم تمزق وجه الأحلام بعنف " ، " محدثة نفسى : خمس دقائق أخرى " ، " لأجد أنى تأخرت " ، " وملاحقة الساعات الى صعود السلم " ، " أخطف قبلة قبل انطلاقى الصاروخى الى المطبخ " ، " وأذن لا تنصت الا لجدار قلب الساعة المعلقة على جدار اليوم " ، " فى غفلة من وقت " ، وزنى ازداد خلال ساعات " " ترن الساعة وتتسلل يدى كلص محترف .. خمس دقائق أخرى " .
افتتاح القصة كان مميزاً جداً وأبهرنى بالفعل ، وهى انطلاقة صوتية شدتنا من آذاننا لنسمع مزيداً من الأصوات لنعايش هذا الضجيج المقيم الذى تحياه البطلة ولا تملك المقدرة على الخروج منه ، وكان عنصر الصوت وأدواته فى القصة أهم ميزاتها على الاطلاق .
فى البداية أسمع هنا – ولا أرى – صوت المنبه يوقظها بعنف ويخرجها بقسوة من حلم تتمنى أن تستغرق فيه حتى النهاية لتنسى ولتعيش بعض الوقت بعيداً عن معاناتها اليومية ، وأسمع يدها وهى تحاول بعنف مقابل " اخراس " ساعة المنبه ، لتحظى بفسحة ولو لدقائق فى دنيا الأحلام ، هكذا : " كعادتها كل يوم تمزق وجه الأحلام بعنف ، فأتململ فى فراشى وأخرسها محدثة نفسى : خمس دقائق أخرى " .
أسمع قفزاتها المسرعة وصوت الباب وهى تفتحه وصوت لهاثها وأنفاسها المتلاحقة وهى تصعد السلم ، وصوت بكاء الطفلة وتوسلاتها وصوت صراخها البرئ ولسان الزوج السليط يصدر الأوامر على وقع ضربات قلب الساعة المعلقة فى الجدار ، يقذف هو الآخر الزوجة فى تيه الزمن والسرعة ليلحق بمواعيد عمله ، وأسمع حفيف جسدها على الأرض وهى تجره جراً الى السرير ، وصوت الساعة التى ترن يومياً فى نفس الموعد ، معلنة الدخول من جديد فى ضجيج وصخب الأحداث والمهام والتكليفات اليومية التى لا تنتهى .
التصوير الفنى فى القصة جاء مكثفاً ودقيقاً وداعماً لحالة البطلة النفسية ومنسجماً مع بحثها عن أشياء تبدو خيالية وصعبة المنال فى ظروف قاسية غير مواتية ، فجاء التصوير ليداعب الخيال ويرضيه بعض الشئ فى مواجهة ضربات الواقع وقسوة البشر وجفوة الوقت ؛ فالساعة " تمزق " وجه الأحلام ، وهى " تخرسها " بيدها ، وهى " تلاحق " الساعات ، و" تتعثر " أمومتها بين الأوانى ، و " مرآتها " تحدجها " بنظراتها ، وهى " تتعثر " برجاء طفلتها ، و " تتوسد " أحلامها .
قصة فى منتهى الرقى والروعة اكتملت فيها عناصر القصة القصيرة بشكل كبير واستوفت أغراضها وازدحمت بفنياتها ، بسرد لاهث جمع بين الحكى والتصوير المستفز والمستدعى للخيال ليجمع بين واقع البطلة الممل البائس وما تتمناه من الخروج منه لتعيش ولو خمس دقائق أخرى فى عالم الخيال والأحلام ، وضجت اللغة بأفعال الحركة والصوت لترصد دون توقف أو فوات منظر أو مشهد معاناة تلك المرأة مع الزمن والوقت ، تلاحقه ، تحاول ايقاف ضجيجه ، فيغلبها ويعلو صوته ويتجاوزها فتلهث وراءه ولا تستطيع التقاط أنفاس أمومتها وأنوثتها وشبابها ونضارتها وحيويتها .. وقبل كل شئ انسانيتها .
إلقاء الضوء على القصة بحرفية وتمرس
ربما الشكر هو إجحاف في حقك
ولا أملك الا التقدير الكبير للحرف والفكر
دام العطاء
بوركت