خلف ضجيج المدينة ..
وخلف ميانيها الشاهقة وعمائرها وبيوتها الفاخرة ، يقطن ذلك الرجل ذو اللحية البيضاء في زمن غير زمن المدينة وفي ظروفٍ لا تمت لكل هذه الحضارة بصلة فالطريق إلى منزله المتهالك والقريب جداً من العمران المعاصر طريق يصعب السير فيه فالرمال والحجارة مغروسة فيه ولم يجد من يزيلها من طريقه وطريق العابرين من جيرانه الذين يعانون معاناته اليومية ، والبيوت يكسوها الفقر والحاجة وتتلبسها ملامح زمنالصخر وعصر الحجر.
علامات التعب والارهاق تحكيها عروق جبينه البادية للعيان وأوردة أذرعته التي تحكي قسوة الزمان .
كوم الحطب الذي بجوار منزله يسطر قصص البحث اليومي عن لقمة عيش تسد فاقة الصغار .
الهيئة المتواضعة التي تبدوا عليها امرأته خلف الجدار وهي تراقب هذا الغريب الذي جاء من عالمه المجاور مسافة البعيد زمناً وذلك حين رأتني أقترب من منزلهم برفقة زوجها ،تلك الهيئة تختصر صورة البؤس في نظرات حائرة ومتسائلة عن كنه هذه الزيارة الصباحية .
الصغير الذي يقف متأملاً في ملامحي يراقب حديثي الباسم مع والده ترتسم على محياه الصغير بتلات فرحة لا يكاد يخفيها.
كل شيء هنا يوحي بحالة من العزلة الحقيقية عن الضجيج والأبواق ، عن الصخب والأضواء ، عن كل حواراتنا ونقاشاتنا ، عن نظرياتنا حول التطور الانساني والعمراني وترفنا الفكري والثقافي ، عن جدلنا العقيم ، عن عيشنا في بروج لا تتواضع لترى كيف يطحن هؤلاء تحت طاحونة الفقر بينما يتشدق آخرون بملايينهم ومزايينهم .
* رأيته يسير حاملاً بعض أغراضه الثقيلة والشمس تصفع جبينه فيتصبب عرقه كالدموع يحتمي بكفه من صفعاتها ، فقادني الله إليه وكنت أنعم بمكيف هواء منعش في سيارتي وكم غيره قد تركتهم في معاناتهم بحجة أني مستعجل ومشغول ، ولكن الله أكرمني اليوم فأوصلته إلى بيته خلف ضجيج المدينة لأكتشف هذه المأساة التي تغيب عن الكثير ممن يعيشون في عالمهم المترف ، حتى وجدت أناملي تصف الحروف هنا ليس مناً بما صنعت ولكن تنبيهاً للغافلين وتذكيراً بحال المساكين .
**لا تنسوهم