المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد مشعل الكَريشي
سيطرة وهمية
(1)
ترجل الليل عن صهوة يوم جديد؛ لاح الفجر في غرته، وعلا نوره في الأفق حيث انبلج ضوء الصباح وشع نوره في قطرات الندى، خط حاجب الشمس جبين الأفق، فتبسّمت لطلتهِ النجوم المغادرة نحو قمرها الساعي الى ليلة تتزاحم على شرفاتها قلوب العاشقين تنتظر طلعته؛ ليمنحها أملا جديدا بحياة أفضل، ولقاءات مرتقبة في الحقيقة، أو الحلم.
في الليلة الماضية نام (ناهي الحارس) في سريره مع زوجته، فكان للسهر نصيبه أيضا؛ عروسين يُجزل أحدهما للاخر عطاء الحب منذ ثلاين عاما مرت من زواجهما الى الآن، وما زال الحب يزين عرش قلبيهما رغم أعاصير السنين الماضية.
أبكرَ كعادته أدى فرضه، وأبكرت هيَ في إعداد الافطار له؛ ليقصد قطاف مسيرة عمره .. شهر مر عليه وهو على حاله الجديدة، ما لمس للسهر مع النجوم وقتا؛ فقد أعطاها من عمره الكثير يكد في عمله حارسا ليليا لبناية البلدية يتناوب فيها مع زميله الاخر.
رمى الليل جلبابه على كل شئ حوله سواه، تجوب خطاه السكون وعلى عاتقه بندقيته الكلاشنكوف المذخرة بشاجورين إضافيين تحسبا لاي طارئ رغمَ انه لم يستخدمها منذ سقوط النظام الى الان إلا مرة واحدة؛ حيث حاول مجموعة من اللصوص سرقة (الكاز) المخصص لسيارات البلدية، تصدى لهم ومنعهم من الوصول إليه فقد رشقهم بالرصاص فولوا مدبرين دون رجعة.
أبو كريم وجهه بشوش ، وقوام رشيق يستند على أربع وخمسون سنة ، يحبه الناس لانه يحبهم، يمازح صغيرهم وكبيرهم بلطفه وعذوبة كلماته المزدانة بالدعاء والصلوات..
انطلق يستقبل بكفيه وجه السماء فما أن يتم قراءة بعض الدعوات حتى يمسح بهما على وجهه مارا بكفيه على خديه منتهيا بكفه اليمنى على لحيته البيضاء المزدانة بخصلات سواد خجولة في العارضين ووسط الذقن..
يقبض بيدٍ على مسبحته السوداء ويمسك بالاخرى حقيبة صغيرة يضع فيها أوراقه ومستمسكاته، يقترب بزيه العربي ليسأل المنادي في كراج نقل الركاب عن سيارات بغداد، ثم يذهب نحو السيارة التي أرشده إليها المنادي ليسأل سائقها متاكداً من وجهتها ثم يدلف إليها فتسير بمن فيها متوجهة صوب العاصمة.
يروم قاصداً وزارة العمل؛ فمعاملة التقاعد لن تكتمل حتى يراجع الوزارة عله يحتفي بما قدمه من سنين خدمة وشبابه ليحصل كما حصل أقرانه على مكافئة نهاية الخدمة؛ قطعة أرض وراتب لستة أشهر.
انطلقت السيارة ومعها انطلقت أذكار (أبو كريم) وتهليلاته وصلواته .. تأفف البعض منهُ وفرح به آخرون .. جلس في المقعد الخلفي وبجنبه جلس شاب في العشرينات، ذو بشرة بيضاء وشعر لامع قد استطال وغطى اذنيه، وتحلى جيدهُ بسلسلة فضية اختفت نهايتها في عنق تشيرته الضيق بألوانه المتداخلة وبأشكال هندسية مختلفة ، يرتدي بنطالا ضيقا نوع جينز، يضع يده على كتابين في حجره، ويمسك بالاخرى هاتفه النقال الموصل بسماعة ألاذن؛ يقلب في داخله غير مكترث بمن حوله..لم يكن مظهره سارا لابي كريم؛ يرمقه بنظراته الحادة، يلتفت اليه بين لحظة وأخرى متهكما متأسفاً على حال شباب اليوم، وما حل بهم وهم يتحولون باشكالهم الى شبه الفتيات، وبجنبه شاب يرتدي زيا عسكريا يضع بين قدميه حقيبة متوسطة عادة ما يستعملها الجنود لوضع الملابس والحاجيات الخفيفة ، تذكر أبو كريم أيام خدمته في الشمال في الثمانينات وكيف كان يحمل أمتعته بحقيبة مشابهة، مرارا كان يملؤها بالجوز والبلوط من أشجار الغابات في السليمانية، حيث وحدته العسكرية على الشريط الحدودي مع إيران.
في صدر السيارة يجلس تاجر المواد الاحتياطية للسيارات، يعرفه سائق السيارة واصبح أحد معاميله المهمين، يشتري منه قطع الغيار بسعر الجملة، وهو بدوره يقله للعاصمة في الاسبوع مرة أو مرتين لشراء ما يحتاجه لمحله؛ فقد كثر الطلب على قطع الغيار؛ بازدياد أعداد السيارات الحديثة التي ملأت الشوارع ومن مناشئ شتى .
كان بدينا يرتدي دشداشة فضفاضة قد اتخذ لنفسه مقعدين كي ياخذ راحته وما ان تحركت السيارة حتى غط في نومة عميقة، وشخير هادر انزعج منها العسكري، وأخذ يتافف ويشيح بوجه صوب النافذة مرخيا رأسه على قبعته كوسادة تفصل بين خده وزجاج النافذة مخاطبا السائق يذكره: عمي لا تنسه تنزلني بسيطرة الحصوة.
بينما الشاب الاخر يلهو في هاتفه النقال فهو لم يسمع شيئا مما سمعه الجندي، أو مما قاله قبل قليل.
بإبداع في التعبير والوصف واللغة والحبكة والسرد
استطعت أن تثير كل اهتمامي ومتابعتي بشغف
لأستمتع برحلة أقضيها مع قلمك الساحر وأسلوبك الجميل
وإلى أن أقرأ الجزء الثاني لك كل الود والتقدير.
يتبع