أحدث المشاركات
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 27

الموضوع: سيطرة وهمية

  1. #11
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,156
    المواضيع : 318
    الردود : 21156
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد مشعل الكَريشي مشاهدة المشاركة
    سيطرة وهمية
    (1)



    ترجل الليل عن صهوة يوم جديد؛ لاح الفجر في غرته، وعلا نوره في الأفق حيث انبلج ضوء الصباح وشع نوره في قطرات الندى، خط حاجب الشمس جبين الأفق، فتبسّمت لطلتهِ النجوم المغادرة نحو قمرها الساعي الى ليلة تتزاحم على شرفاتها قلوب العاشقين تنتظر طلعته؛ ليمنحها أملا جديدا بحياة أفضل، ولقاءات مرتقبة في الحقيقة، أو الحلم.

    في الليلة الماضية نام (ناهي الحارس) في سريره مع زوجته، فكان للسهر نصيبه أيضا؛ عروسين يُجزل أحدهما للاخر عطاء الحب منذ ثلاين عاما مرت من زواجهما الى الآن، وما زال الحب يزين عرش قلبيهما رغم أعاصير السنين الماضية.

    أبكرَ كعادته أدى فرضه، وأبكرت هيَ في إعداد الافطار له؛ ليقصد قطاف مسيرة عمره .. شهر مر عليه وهو على حاله الجديدة، ما لمس للسهر مع النجوم وقتا؛ فقد أعطاها من عمره الكثير يكد في عمله حارسا ليليا لبناية البلدية يتناوب فيها مع زميله الاخر.

    رمى الليل جلبابه على كل شئ حوله سواه، تجوب خطاه السكون وعلى عاتقه بندقيته الكلاشنكوف المذخرة بشاجورين إضافيين تحسبا لاي طارئ رغمَ انه لم يستخدمها منذ سقوط النظام الى الان إلا مرة واحدة؛ حيث حاول مجموعة من اللصوص سرقة (الكاز) المخصص لسيارات البلدية، تصدى لهم ومنعهم من الوصول إليه فقد رشقهم بالرصاص فولوا مدبرين دون رجعة.

    أبو كريم وجهه بشوش ، وقوام رشيق يستند على أربع وخمسون سنة ، يحبه الناس لانه يحبهم، يمازح صغيرهم وكبيرهم بلطفه وعذوبة كلماته المزدانة بالدعاء والصلوات..

    انطلق يستقبل بكفيه وجه السماء فما أن يتم قراءة بعض الدعوات حتى يمسح بهما على وجهه مارا بكفيه على خديه منتهيا بكفه اليمنى على لحيته البيضاء المزدانة بخصلات سواد خجولة في العارضين ووسط الذقن..

    يقبض بيدٍ على مسبحته السوداء ويمسك بالاخرى حقيبة صغيرة يضع فيها أوراقه ومستمسكاته، يقترب بزيه العربي ليسأل المنادي في كراج نقل الركاب عن سيارات بغداد، ثم يذهب نحو السيارة التي أرشده إليها المنادي ليسأل سائقها متاكداً من وجهتها ثم يدلف إليها فتسير بمن فيها متوجهة صوب العاصمة.

    يروم قاصداً وزارة العمل؛ فمعاملة التقاعد لن تكتمل حتى يراجع الوزارة عله يحتفي بما قدمه من سنين خدمة وشبابه ليحصل كما حصل أقرانه على مكافئة نهاية الخدمة؛ قطعة أرض وراتب لستة أشهر.

    انطلقت السيارة ومعها انطلقت أذكار (أبو كريم) وتهليلاته وصلواته .. تأفف البعض منهُ وفرح به آخرون .. جلس في المقعد الخلفي وبجنبه جلس شاب في العشرينات، ذو بشرة بيضاء وشعر لامع قد استطال وغطى اذنيه، وتحلى جيدهُ بسلسلة فضية اختفت نهايتها في عنق تشيرته الضيق بألوانه المتداخلة وبأشكال هندسية مختلفة ، يرتدي بنطالا ضيقا نوع جينز، يضع يده على كتابين في حجره، ويمسك بالاخرى هاتفه النقال الموصل بسماعة ألاذن؛ يقلب في داخله غير مكترث بمن حوله..لم يكن مظهره سارا لابي كريم؛ يرمقه بنظراته الحادة، يلتفت اليه بين لحظة وأخرى متهكما متأسفاً على حال شباب اليوم، وما حل بهم وهم يتحولون باشكالهم الى شبه الفتيات، وبجنبه شاب يرتدي زيا عسكريا يضع بين قدميه حقيبة متوسطة عادة ما يستعملها الجنود لوضع الملابس والحاجيات الخفيفة ، تذكر أبو كريم أيام خدمته في الشمال في الثمانينات وكيف كان يحمل أمتعته بحقيبة مشابهة، مرارا كان يملؤها بالجوز والبلوط من أشجار الغابات في السليمانية، حيث وحدته العسكرية على الشريط الحدودي مع إيران.

    في صدر السيارة يجلس تاجر المواد الاحتياطية للسيارات، يعرفه سائق السيارة واصبح أحد معاميله المهمين، يشتري منه قطع الغيار بسعر الجملة، وهو بدوره يقله للعاصمة في الاسبوع مرة أو مرتين لشراء ما يحتاجه لمحله؛ فقد كثر الطلب على قطع الغيار؛ بازدياد أعداد السيارات الحديثة التي ملأت الشوارع ومن مناشئ شتى .

    كان بدينا يرتدي دشداشة فضفاضة قد اتخذ لنفسه مقعدين كي ياخذ راحته وما ان تحركت السيارة حتى غط في نومة عميقة، وشخير هادر انزعج منها العسكري، وأخذ يتافف ويشيح بوجه صوب النافذة مرخيا رأسه على قبعته كوسادة تفصل بين خده وزجاج النافذة مخاطبا السائق يذكره: عمي لا تنسه تنزلني بسيطرة الحصوة.

    بينما الشاب الاخر يلهو في هاتفه النقال فهو لم يسمع شيئا مما سمعه الجندي، أو مما قاله قبل قليل.

    بإبداع في التعبير والوصف واللغة والحبكة والسرد
    استطعت أن تثير كل اهتمامي ومتابعتي بشغف
    لأستمتع برحلة أقضيها مع قلمك الساحر وأسلوبك الجميل
    وإلى أن أقرأ الجزء الثاني لك كل الود والتقدير. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي







    يتبع

  2. #12
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    ستاتي قريبا باذن الله شكرا لهذه المشاعر النبيلة .. احترامي

  3. #13
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.84

    افتراضي

    سرد جاذب ووصف ماتع يمسك بالقارئ حتّى النّهاية
    تمنّيت خلوّها من بعض الأخطاء اللّغويّة ليكتمل البهاء
    بورك الحرف الهادف الرّائع
    تقديري وتحيّتي

  4. #14
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    سيطرة وهمية
    (3)

    ليلة حزينة كابد فيها السهر حتى الصباح، شغلته محنتها عما كان يفكر فيه؛ كيف سينتصر لحبه وينقذ حبيبته من شراك ابن عمها الذي لا تطيقه كما لا يطيق هو الاخر رؤيته، حين تقدم لها في مرة سابقة هددته بانها ستقتل نفسها قبل أن يكون لها زوجا، وحذرته ذلك إن اقترب منها، يا له من همجي متعصب..
    ثلاثة أيام مرت، وأعمامه وأخواله يطرقون بيوت الوجهاء يبحثون عن حل لهذه المشكلة التي عكرت عليه صفو أحلامه وقطعت عنه سروره الذي مهد له وعزم على امضائه.. تدخل بعض الوجهاء فانحل عقد المعضلة، دفع والده (النهوة) من حلال ماله وعجلوا مراسيم عرسه، وتكلل بالخير حبه، وسعُد في بداية مشوار حياته ورزق بكريم ومن بعده زينب ثم سكينه واخر العنقود كانت حبيبة قلبه المدللة ضحى..
    طرزت الذكريات وجهه بابتسامة، وداخله السرور فأسند رأسه مرتخيا على وسادة مقعد السيارة فمال عقاله الى الوراء فأعاده على عجل الى محله، واعتدل في جلسته فاستيقظ الشاب وهو يتفقد هاتفه، وجده مستقرا خلف كتبه، بينها واسفل بطنه .. الحمد لله قالها متاوها، فلفت قوله ابو كريم فقال له ساخرا:
    - عمي حسبالي ماتعرفون الله، ثم تبسم وهو يربت على كتفه الصغير، فانفجر الشاب ضاحكا وسأله:
    - لويش عمي؟
    - بويه خاف تزعل مني؟
    - لا عمو ما أزعل.
    - ما مبين عليك بس تسمع غناوي وتهز براسك..
    ضحك الشاب بخفة وطلب المعذرة بلطف ولياقة فسأله أبو كريم بعدما أعجبه منطوقه وجميل كلامه:
    - مبين عليك طالب بالمدرسة، لو بالكلية مو؟
    - اني طالب ماجستير تاريخ.
    - مشاء الله.. صدك لو كَالو " الرجال مخابر مو مظاهر".
    قبض أبو كريم على ذقنه ونظرات الإعجاب تنساب منه نحو محدثه وعلى سجيته قال له:
    - اي وليدي أريدك تحجيلي عن التاريخ.
    - عمي التاريخ عبارة عن رحلة طويلة في الزمان والمكان وغالبا ما تكون عجلة الاحداث فيه هو الصراع، والسلطة طبعا هي التي تديرها، فالتاريخ كما يقولون يكتبه السلاطين، أو وعاظ السلاطين.. ولكن ذلك لا يمنع أن يكون التاريخ حاكيا لمعانات الشعوب، ورسم بعض من ملامح حياتهم، وبين هذا وذاك نجد بعض ينتصر لقومه، وبعضهم ينصف التاريخ من نفسه حين يكتبه..
    وعلى كل حال فليس كل ما ذكره التاريخ قطعي وصحيح. لا .. بل هو بحاجة دائمة الى التنقيب، والتمحيص لكشف فاسده من صالحه، ومراجعته لغرض تصحيح ما جاء فيه وتحقيق ما كُتب في حوادثه، وهذه هي مهمة الدارسين له، وأنا أتمنى أن أكون منهم وقد اتخذت عهدا على نفسي أن أكون منصفا في عملي ما استطعت لأنني اعتبرها امانة علينا أن ندافع عنها ونحملها للأجيال القادمة..
    اختتم الشاب كلامه بابتسامة بددت ذهول أبو كريم الذي استمتع بحديثه اللطيف الهاديء الذي أمتع السائق أيضا فظل يهز برأسه هو يقول:
    - لا عاب حلكك عمي..
    خفف السائق سرعته تهيئاً للمرور بسيطرة خارجية نصبها الجيش على الطريق السريع، استخدم فيها الجندي جهاز فحص المتفجرات ويا لدهشتهم حيث أشار ذلك الجهاز نحو سيارتهم!
    أمرهم الجندي بالوقوف جانبا لأجل التفتيش، ثم سألهم جندي آخر" هل تحملون سلاحا؟" ، أبو كريم أول من أجاب "لا والله عمي". واشار البقية بالنفي.
    تفقد الجنود صندوق السيارة وأوراق السائق، بينما تاجر المواد الاحتياطية ما زال يغط في نومته حتى طلب منهم الجندي أن يترجلوا فنفض من عينيه النعاس واعتذر من الجندي وأشار إليه أن يقترب منه ثم قال له:
    - في رجلي بلاتين..
    فحصوا السيارة جيدا فتبين أن سبب الإشارة هو البلاتين المزروع في ساق التاجر..
    عاد الجميع الى مقاعدهم وانطلقت السيارة من جديد، وسط ارتفاع صلوات ودعوات أبو كريم، واعتذار التاجر من الركاب.


    يتبع

  5. #15
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    سيطرة وهمية
    (4)

    طقوس الحياة في مدن الفرات الأوسط تكاد تكون متقاربة اذ لم نقل متماثلة، ومعالمها متشابهة؛ بساتين النخيل، وحقول الحنطة والشعير تميزها نحو الجنوب، وأشجار الفاكهة تميز المدن القريبة من العاصة باتجاه الشمال.
    كلما اقتربت من العاصمة تقلص حجم الفراغ وتكاثفت البساتين ثم انفرجت عن بنايات كثيرة ومتراصة..
    ما زل الطريق يسير بعابريه كأنه أرجوحة تأتي وتذهب بالمسافرين، ممتدا يلثم وجه الافق بخطوطه المتوازية، يشعر الركاب كأنهم جالسون في غرفة تطل بهم نوافذها على الفضاء من حولهم وذلك لانبساط الشارع وسعته، سوى بعض ما فيه من هنات يغص بها المسير فينقطع فيها حبل السكون وتلتوي الاعناق لرؤية الخطب الذي أبطأ بهم وأخر مرورهم..
    منعطف الى اليمن عن الشارع الذي اقتص منه الانفجار جزءا احدثه انهيار أحد الجسور على نهر يمر من تحت الطريق فتم نقل السير الى جسر مؤقت لعشرين مترا ترابيا، تزاحمت فيها المركبات بأنواعها، وعلا منها الدخان والضجيج الممتزج بأصوات ( الهورنات) التي تعجل على بعضها البعض، بينما تقف بالجوار سيارات عسكرية عليها اسلاك متشابكة وعدد من رجال المرور ينضمون تدفق المركبات في ذلك الطريق الضيق حيث مرور المركبات من الوجهتين ذهابا وايابا على جسر يكاد يغص بما عليه من حمولة.
    تكلل الانتظار بالمرور وانطلقت السيارات كأنها في سباق على الطريق السريع من جديد..
    - هاي هيه سيطرة الحصوة .. قالها السائق منبها للجندي الذي أوصاه بها أول الطريق..
    - رحم الله والديك عمي تفضل هاي الكروة ..
    جمع البقية أجرة السيارة فيما خفف السائق من سرعتها فتهادت وهي تمر على جهاز كشف المتفجرات فأشار نحوها الجهاز فاستعجل أبو كريم السبب وهو يخرج رأسه من النافذة ( عمي عدنه واحدة برجله بلاتين) ..
    ترجلوا جميعهم فقال الجندي لزميله:
    - ليس فيها سوى ما قاله لكم هذا الرجل الطيب .. فأشار لهم الاخر بالصعود، شكراهما وحمدا الله على عدم التأخير..
    بدت حدائق الكروم تلوح لناظرها مما يعلن دخول منطقة الخطر في حزام العاصمة، مدينة اللطيفية حيث منطقة( مويلحة) المشهورة بتواجد الارهابيين من تنظيم القاعدة..
    ينشط خطر هذه العصابات في الليل بعيدا عن مساحات عمل القوات الامنية التابعة للدولة على السيطرات العامة، فهم يتصيدون الفرص عندما تمر أرتال الامريكان فيتعطل السير مما يحاول بعضهم اتخاذ طرق مختصرة وعدم الانتظار لحين فك الزحام والافلات من العطلة التي خلفها مرور تلك العربات الكثيرة والتي غالبا ما ترافقها المروحيات، كثيرا ما تجاهل بعضهم خطر السير خلف تلك الأرتال فكانت النتيجة وابل من الرصاص الحي أقل أخطاره ثقب في العجلات أو تعطيل في المحرك إن لم تكن إصابة هي الموت الحتمي دون أسف أو اهتمام، عندما تحين تلك الفرص للإرهابين سينتشرون دون أدنى حذر منهم وبالكاد يفلح من يراهم برمي هوية أحواله المدنية أو اخفائها في مكان ما؛ لان برنامجهم منصب على الاسماء.. لا ينشطون الا عند وجود الامريكان في الساحة وكأنهما متفقان على طقوس الموت فمن فر من رشاش الامريكان فلن يفلت من سواطير القاعدة.
    جلهم من الاجانب والعرب وبعض من حواضنهم من أبناء المناطق؛ لا يظهرون علنا بل يكتفون بتهيئة الاماكن لهم واستدراج الفرائس التي تحسن الظن في لهجاتهم ومظاهرهم الخادعة، بعض النسوة تترصد قدوم القوات الامنية، فتكون العين لتلك المجاميع لتحذرهم منها، تتظاهر الاشتغال برعي الابقار، أو العمل في المزارع، تدربن على السلاح، وذهبن ضحية ولائهن للقاعدة فخسرن انفسهن ،وعوائلهن، ومن ثم حياتهن، لقد أردت قبل أيام قوة من التدخل السريع بصاروخ قاذفة بعضهن ممن كانت تمارس القنص على الجنود، فذهبن غير مأسوف عليهن..
    الخوف يتسلل الى النفوس رويدا رويدا برغم أن الشارع خال من أي عوائق، ولكن ما يحتمل وقوعه فربما يقع اليوم أو غدا، الأيام متشابهة في البلاد، وبرغم كل ذلك فإن الحياة ما زالت تضخ الأمل في النفوس وتدفع الناس للجد والاجتهاد والذهاب والقدوم يوما بعد يوما متحدين كل تلك الألوان الباهتة للموت.
    ولكن ثمة خطر آخر بدأ يطرق المارين من هذه المنطقة، حين لا يمكنهم التمييز بين سيطرات الدولة، وبين بعض السيطرات الوهمية التي تتزيا بزي الدولة الرسمي.
    - الله يستر ويجفينه الله شر هذوله الهفتيه لا بارك الله بيهم..
    تدفق لسان أبو كريم مجلجلا فلاح بعض الضجر على وجه سائق السيارة الذي نطق بعد حين:
    - لا تهتم المنطقة أمان ان شاء الله.
    - ليش أنت تعرفها لهاي المناطق؟ سأله التاجر.
    - أني أبنها وأعرفها كلش زين.
    هكذا كان رد السائق مفاجئا لهم، وكلٌ يغالط الحقيقة التي انهالت عليه، صكوا أسماعهم لاستنهاضها بعدما سقطت مغشية عليها من هول ما تناها اليها، وكأن صاعقة وقعت على رؤوسهم، لف ألسنهم الخرس، فكانت أعينهم تحكي الدهشة في وجوههم، وهي تدور في عبث كأنها تبحث عن شيء مفقود، فأي خطر هذا الذي ساقه هذا السائق اليهم، وكيف يمكن أن يثقوا به بعد الان وهو من هذه المناطق ممن تحالف أغلبهم مع الارهابيين..
    - عمي كَول غيرها؟ انتفض أبو كريم وهو يميل بجذعه نحوه الأمام في وجل وعجل.
    نظر السائق في المرآة الداخلية الى الخلف وعيناه في المستطيل تنظران الى أبو كريم وقال في استلطاف مازحاً:
    - لا تخاف حجي اتو سعركم مو غالي..
    - شنو عمي تريد تبيعنه؟ يا حيف عليك..
    انفجر السائق ضاحكا وضرب براحته كفه على هامة المقود ثم على عجل التفت بنصف جذعه الى اليمين ومدّ يده ووضعها على كف أبو كريم المتشبثة بمقعده كمن يطمئنه:
    - حجي اني صحيح من أبناء العامة وعايش بهاي المناطق، بس الي ما تعرفوه اكو هواي ناس قتلوهم الارهابيين من أهالينه، وهجروهم؛ لان ما صاروا وياهم، واني واحد منهم تهجرت وسكنت بمناطقكم.. الله وكيلكم احنه كلنه بالأمان مادام نمشي على الشارع العام.
    هدأت النفوس وارتسم على الوجوه شيء من الفتور ولكن بعض الخوف ما زال ينبض في الصدور، وقد أطبق الصمت على الجميع حتى فض سلطانه التاجر بمقولته:
    - هاي صارلي سنة ويا هذا الرجال الطيب ما شفت منه غير الخير..
    شكره السائق عرفانا لموقفه..
    - عمي ولا زغرا بيك، هكذا تدخل الطالب الشاب بأدب جم ثم سأل التاجر: ما تعرفه بحضرتك.. وكأنه بذلك قد أوصد أبواب الخوف للبدء بحوار جديد ربما يبدد القلق الذي حام حول الجميع في حوارهم السابق..
    - اني عمك أبو يوسف أسكن حاليا بالحلة عندي محل بالحي الصناعي، واستأجرت قبل أقل من سنة محل بالحي الصناعي بالحمزة.. اني بالأصل مسيحي من كركوك..
    - مسيحي؟ سأله أبو كريم بدهشة، ثم أردف: جانت عايزه التمت!!
    لكن الطالب اعترض طريق الاجابة مرحبا:
    - تشرفنا عمي كلنا عباد الله. فرد أبو كريم:
    - أي عمي كلنه عباد الله بس والحمزة أبو حزامين لو سمعوا الارهابين أكو مسيحي الا يدفعون بيه مال قارون..
    ضحك الجميع بأنفاس صادقة، وكأن ضحكاتهم كانت مكبلة ففك أبو كريم عنها القيود بما يملكه من سجيته طيّبة.



    يتبع

  6. #16

  7. #17
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    الاستاذ عباس العكري المحترم:
    شكرا لهذا الجمال النابع من قلب أكثر جمالا واشراقا ...
    ايها المشرف العزيز:
    لقد اصلحت بعض ما اعتراها من هنات خصوصا في الجزء الاول والثاني واضفت لها بعض الاسطر ( لم تنشر) ثم اتبعتها بما لدي من اجزاء هي الثالثة والرابعة ( المشورة) وستاتي البقية باذن الله تعالى..
    شكرا لاهتمامك وأرحب بما يجود به قلمك من نقد..
    تحياتي واحترامي ..

  8. #18
  9. #19
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    اعجز عن شكرك ايها الاديب الرائع لقد اسعدني هذا العمل بارك الله في أناملك يا طيب

    شكرا كثيرا لكم استاذ عباس العكري ..


    ومازالت هناك تتمة نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي.. تحياتي

  10. #20
    الصورة الرمزية محمد مشعل الكَريشي أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 870
    المواضيع : 89
    الردود : 870
    المعدل اليومي : 0.20

    افتراضي

    سيطرة وهمية
    (5)

    همد الحديث وكأنه سقط في جب عميق، وانشغل كل واحد منهم بنفسه وهو يراجع حساباته ويتلوا في دخيلته ما يعتقده سبيلا الى ربه..
    اعاد الطالب سماعة الهاتف الى أذنيه وهزَّ رأسه وهو يتملى من المشاهد المتعاقبة عبر النافذة الزجاجية، بينما راح أبو كريم يتفحص معاملة التقاعد من جديد، وفي الاثناء فطن الى فقدان مسبحته، فقد انسلت من بين أنامله وسقطت بين قدميه فتش عنها لاعننا الشيطان ولما وجدها تمتم وردا منتظما تلاحقت معه خرزات المسبحة بين سبابته وابهامه..
    التاجر أرخى رأسه على وسادة مقعده ورسم في الهواء بسبابته صليبا ثم عقده على قلبه وراح يستدر لحظات الوسن الخفيف فرارا من المحذور..
    السائق أصرّ يغازل سيجارته ويمصها بنهم، يصلها بأختها حين تفنى بين أصابعه المتخشبة، وعيناه لا تفارق الطريق وقد أهمل النظر في عداد السرعة كعادته، ولم يدرك أن قدمه ضغطت على دواسة البنزين حتى نهايتها..
    تمر السيارات مسرعة مثل الضباء في الفلات على وجل دائم خشية الخطر المحتمل في المفازات والأكنة، وفي السماء غربان تصفق بأجنحتها تميل على غير هدى ربما ستقصد بعض البساتين القريبة وقد تيبس أغصان شجرها، وشاخ سعف نخيلها الكهل..
    على الطريق ثلاث سيارات نوع ( اوبل) تجاوزت بسرعة عالية وكأنها في سباق على مضمار لا تبدو له نهاية، لما شاهد السائق تهافتهم بهذا الشكل خفف من سرعته ليمرقوا الى جنبه مثل سهام افلتت من وترها، وعيناه تلاحقها وهي تنفلت بعيدا عنه وتتلاش في الافق..

    لكنه لما لاح له بضع سيارات تصطف خلف بعضها مثل طابور خفف من سرعته وصار يقترب حتى تيقن من وجود سيطرة على الطريق تقف الى يمينها السيارات الثلاثة التي كانت تتسابق قبل قليل، فعلق ساخرا حين شاهدها تجثوا على كتف الطريق...
    - عبالكم تفلتون هاي كمشتكم السيطرة..
    - منو ذوله بروح ابوك ؟ سأله أبو كريم وهو يلتفت الى خارج النافذة تارة والى الامام ليتجاوز بنظر من خلال زجاج النافذة الامامية ثم عقب بعد أن عرف بإشارة من السائق:
    - أي والله هذوله همه.. الله يستر من تاليها.
    السيطرة تبدو خارجية متنقلة فليس فيها سوى سيارة شرطة يجلس في حوضها جنديان أحدهما يقف خلف الرشاش الاحادي والثاني جالس على حافة الحوض وبيده بندقية مذخرة، على الارض ضابط تلهث على كتفه نجوم ثلاث، ومعه شرطيان، واثنان آخران بزي مدني تحت ابطيهما مسدسات تلمع في سبطانتها الشمس، بين يدي الضابط أوراق يقلبها وفيها اسماء يطابقها مع الهويات التي يطلبها من الركاب..

    سيارتان أمامهم مرتا بسلام قبل أن يصلهم الدور والغريب أن السيطرة ليس فيها جهاز لكشف المتفجرات!
    أنزل السائق زجاج نافذته فطلب الضابط هويات الجميع، وهو يقلبها وينظر في الوجوه، ثم وضعها فوق بعضها ورزمها ثم شخص بنظره نحو شاحنة متوسطة اقتربت من الخلف أشار إليها بسبابته لتتقدم مكتوب على جانبيها (براد مخصص لنقل اللحوم المجمدة) تقدمت حتى وقفت الى جانب سيارتهم لم يكن ذلك مزعجا للضابط ورفاقه برغم أن أبو كريم وجماعته استغربوا ذلك فكيف لهم أن يصطفوا بجانبهم دون أن يقول لهم أحد كلمة، دب القلق في نفوسهم وتسارع نبض قلوبهم، العيون تنظر الى بعضها والألسن ألجمها خرس الحذر فكل كلمة لها وزن ربما يرحج كفتهم أو ينكس بهم الى التهلكة..
    تأخر الضابط وهو يتفحص الاسماء ثم أشار الى المدنيين معه أن يفتشا صدوق السيارة وأمر الشرطيان أن يتوجها الى الامام، ثم طلب من السائق رفع غطاء المحرك لمح الجميع من زجاج النوافذ الجانبية أن المدفع الرشاش دار نحوهم، وانزل الجندي فوهته في وجوههم، ثم صوت إسقاطة لسرقي بنادق من أماهم وصليل فوهات مسدسات خلف رقابهم، ثم على عجل تفتح الابواب ويؤمرون بالخروج والأيد على الرؤوس، لقد وقع المحذور ولم تفلح معهم التوسلات والاعذار..
    وضعوا في رؤوسهم الاكياس السوداء واقتادوهم الى الشاحنة ورموهم في صندوقها، تدحرجوا فكانت الايدي والاقدام تعرقل بعضها، وعيون تتوه في الظلام، تخشى الفراغ الأسود الذي لفها.


    يتبع

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. سيطرة وهمية (2)
    بواسطة محمد مشعل الكَريشي في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 19-06-2016, 10:31 AM
  2. سيطرة الحضرة الفلسطينية ..في شعر/عبد القادر رابحي..
    بواسطة معروف محمد آل جلول في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 06-06-2009, 04:29 PM