عزف على الماء
يتملكني الأسى، تجتاحني أمواج الهلع وأنا أرى انبهار العيون، تتجول في تعبي بإعجاب، متناغمة مع دهشة الشفاه لهذا الإنجاز، ومرة أخرى وهي ترمقني بسحر الإشفاق، ما قيمة فنان لا ينتصب بجانب حلمه في معرضه؟ تتزاحم الأسئلة في رأسه، اكتنز القلق في ساحته، تضغط قبضتاه بقوة على سبب تعاسته.. يود لو..
يهمس، يرسل بهدوء طرقات خفيفة، تحضر وضحكات عينيها تسبقها، لا تغادر وجوه الحضور، تنثر ابتسامات فرح بنشوة عامرة فوق السحب... نعم أيها المبدع؟
أريد أن أذهب إلى أي مكان إلا هنا، أسير القهقرى على عجلات نكبة، يتجاوزني الصغار قبل الكبار، لا أستطيع النظر في وجه أحد، أتمنى أن أحلق في البراري، أستعير من العصافير سيقانها!
توقف.. قالت بلطف حازم ويدها على فمها أنت لست أقل من غيرك، ألا ترى أن نعم الله عليك أكثر منها على معظم تلك الطبول المتجولة على أقدام التفاهة تعزف الضجر، لو لم تكن مميزا لما حضر كل هؤلاء الذين جلهم من طبقة المثقفين الراقية، لن أقبل أن تهدر تعب السنين في أول معرض لك، هذه فرصتك..
يبتلع غصة في حلقه تذوق مرارتها.. لكني كلما نظرت إلى تلك الرسومات أتذكره.. أنا سببه وسببي؛ غازلتْ الزهور الشمس حتى ارتوت بريقا، كان الندى ناعما والرذاذ يلفح وجوهنا عندما ذهبنا في ذلك اليوم لرؤية الألوان الخلابة، كي نطبقها على رسومات ( الإيبرو) التي كان بارعا فيها، تجتاحني الذكريات كشريط حياة تالف، أسند ظهره واستسلمت عيناه لسيل من الداخل.. ينظر للوحة خلف الستار..
تحاول إخفاء القطرات المتساقطة على وجنتيه، تمسحهما بحنان وسرعة.. الأجدر بك أن تتذكره بهذا العمل المفتخر بدل التخاذل تحت وطأة ذكريات تأخذ ولا تمنح، هذا أفضل هدية تقدمها له.
أنت بقيتي من بعد زوجي الذي اعتزل الشدو قلبه، لن أدعك تفشل، كانت تحدث نفسها وهي تتوجه بجسدها وابتسامتها إلى الحضور، بلباقة ترد على عبارات الإعجاب والاستحسان.. تزرع الشوق في نظراتهم.
انهمرت الأسئلة والاستفسارات، جمعت الحضور وأزاحت الستار، جحظت العيون، إلى السحر المائي، انجذبت بقوة جعلتها تتقافز على خطوط وألوان لوحة كمعزوفة طرزتها بالنغم أنامل ملائكية
يخترق أمواج التصفيق المتلاطم شاب على عكازتين، يجر قدميه على الأرض، وقف أمام اللوحة فاحتضنته بحنان والدموع تنهمر من مقلتيها، هتفت بفخر... هذا هو مبدع كل هذا وسيجيب على كل أسئلتكم..
كطفل يتعلم النطق، تخرج الكلمات خجلى، أبهرهم في تفسير خفايا لوحاته.. الفصل المخملي عنوان هذه اللوحة، جمعتُ فيها كل الألوان المبهجة، الألوان الطفولية، جعلت في الخلفية أرابيسك على نمط أندلسي.
اتكأ عليهما ثانية وهو ينهض ليكمل، بعدما وجد نفسه بلحظة أقرب إلى الأرض.
وما أن تصالحت شفتاه مع الكلام حتى ظَهَرَتْ بوجهها المتلأليء بشرا وسعادة، وعينيها الواسعتين البراقتين، مختلستا النظرات إليه من شرفة الانتظار أثناء انهماكه بتوديع لوحة عليها طفولته، واستقبال ألوان على عيون لا تعرف التأتأة.
من مجموعة "عزف على الماء"