فركش !!
ظهر الخبر أمامه بغتة على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي.. لم يصدق عينيه، أطال النظر إلى اسم صاحب الحساب.. ما عهد عليه كذبا في خبر قط.. أغمض عينيه وفتحهما، وهو يهز رأسه لعله يفيق.. الخبر واضح لا لبس فيه ولا غموض.. شاهد المزيد في ذهول تام.. خلال تلك الدقائق المعدودة، كان الخبر ينتشر على صفحات التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم!
دق جبهته بباطن كفه عدة مرات، وهو في حيرة.. انتقل في تصفحه إلى البوابات الإلكترونية للصحف الكبرى، فوجد الخبر يتصدرها جميعا مسبوقا بكلمة "عاجل".. أعاد قراءة تفاصيل الخبر عدة مرات حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب، يريد ألا يفلت ما بين السطور من معانٍ، وهو يقلّب الأمر على كافة الوجوه والاحتمالات.. شعر براحة تغمر نفسه رغم الدهشة المسيطرة على عقله.. نهض إلى التلفاز، طالعته على الشاشة صورة الإعلامي اللوْذَعيّ بشاربه الكث ونظارته السميكة، وجسده البدين وحمّالات السروال المرفوعة على الكتفين، وابتسامته اللزجة السائلة على شفتيه وشاربه.. كان يضحك في بلاهة وهو يقول (يعني إيه ما فيش؟.. يعني إيه؟ يعني فركش؟ يعني ما فيش عدو.. طيب واحنا نجيب عدو منين دلوقت نحاربه؟)
كبس بإصبعه زر "الريموت"، فطالعه على الشاشة وجه إعلامي أصلع الرأس يصرخ في انزعاج شديد وهو يمسح بكفه على صلعته: (البيان ده حاجة تخلي الأصلع يشد في صلعته.. أنا عاوز أعرف يعني إيه فركش.. طيب انتم قولوا لي يعني إيه؟ أنا مش فاهم حاجة أبدا.. يعني احنا الإعلام حنشتغل على مين دلوقت؟ ما هو ما فيش دول.. احنا كمان مفيش.. لو هم فركش.. أكيد احنا كمان فركش)
لاحت ابتسامة على شفتيه قبل أن يكبس "الريموت" من جديد ليظهر له الإعلامي الذي يلقبه عامة الناس بـ"المصطباوي" وهو يهتف صائحا: (اسمعوني أنا.. اسمعني يا شعب.. أنا اللي حأقولكم الحقيقة كلها.. الكلام ده كله معمول قبل كده ومتجرب عند الصهيونية العالمية.. وفي المنظمات الماسونية، ومتاخد بيه قرار في تل ابيب.. أيوة في تل ابيب .. وهو ده اللي إسرائيل عاوزة تعمله فيكو يا شعب علشان تروحوا في حيص بيص.. ويخلوا القوات المسلحة الباسلة بتاعتنا تضرب أسداس في أخماس.. أنا باقولكم يا شعب ما فيش حاجة اسمها فركش.. يعني ايه فركش .. احنا بنلعب في غيط الدرة عندنا في البلد ولا ايه؟)..
ضغط زر "الريموت" مرة أخرى فظهرت على الشاشة صور لمجموعة من القياديين بينما يأتيه صوتٌ شاكٍ لامرأة يغلب على أدائها السرسعة، يقول: (هي القيادات عايزة أيه مننا.. عايزانا نشكرهم.. ونقول لهم برافو عليكم إنكم لميتم الدور.. لأ مش حانقول لهم شكرا.. احنا أصلا يا شعب ما بنحبهمش .. ازاي نشكرهم.. وبعدين حانشكرهم على ايه.. ما هو اللي حصل ده كان واجب عليهم من الأساس.. ده لو صدقوا يعني.. انتو عارفين إنهم لهم سوابق في الكذب)..
أمسك رأسه الذي أصابه الصداع من كثرة الصراخ المهتاج الذي يخترق إذنيه.. استقر أخيرا على الشاشة التي يستريح لها هذه الآونة.. جاءه صوت المذيع الشاب أشيب الشعر، وهو يعلن بلزمته المتكررة: (الله غالب.. فعلا الله غالب.. لكن إللي عاوز أقوله لكم.. إن البيان ده غير حاجات كتير جدا.. أنا في الحقيقة ما اقدرش احكم على الخطوة دي دلوقت.. يمكن ده من السابق لأوانه إن كانت ده خطوة ممتازة ولازم نصفق لها.. ولا هي خطوة مش قد كده.. لكن اللي أقدر أقوله بصدق إنها خطوة قلبت موازين حاجات كتير وغيرت كل الحسابات.. وأمامي التقارير بتقول: إن الراجل قاعد في قصره دلوقت في اجتماع مغلق مع أركان النظام.. مع وزير الداخلية والدفاع ورئيس الأركان ومدير المخابرات.. وبيضرب أخماس في أسداس مش عارف يعمل إيه.. ولا عارف يخرج من الورطة دي ازاي.. وانتو عارفين انه صنع أكذوبته السياسية كلها على صناعة أسطورة اسمها العدو الداخلي والإرهاب المحتمل.. وانت تيجي ببساطة كده وتقوله: بح.. فركش.. خلاص ما فيش عدو؟.. ما فيش إرهاب محتمل؟.. مفيش.. كلمة مفيش دي بتفكرني بكلمته الشهيرة.. لكن خلينا في موضوعنا دلوقت وموضوع الساعة هو البيان.. كمان بيقولوا إنه غضبان جدا وبيقول للناس اللي معاه: ازاي يتنقلوا من منطقة رد الفعل اللي أنا واضعهم فيها إلى منطقة الفعل؟ ازاي يسبقوني بخطوة؟.. معنى إنهم ياخدوا زمام المبادرة إن أنا لازم أخاف منهم وأعمل لهم حساب.. ومعلومتنا كمان بتقول إن مجموعة من شباب الثوريين وشركاء الميدان في ( 25 يناير) مجتمعين هم كمان الآن في مقر إحدى الجمعيات الأهلية وبيقولوا كنا خايفين على الثورة يسرقها الإخوان، دلوقت ما فيش حجة من إن احنا نسترد ثورتنا ونصر على إسقاط كامل النظام.. وأيضا بعض قيادات الأحزاب التقليدية مجتمعين في فندق شهير بمصر الجديدة وبيقولوا: البعبع بح.. عموما حنكمل ردود الأفعال المتتالية بعد الفاصل......)..
سرح بفكره في انتظار انتهاء الفاصل، وإذا بصوت ضجيج يأتيه من الشارع الخلفي، وصوت هتافات عالية: ( واحد اتنين التوْمِين فين.. شوفوا الريس الجبار ولع ولع في الأسعار.. ...،....، الزيت فين ودّوه..
هرع إلى الشرفة ليجد المظاهرات تمر أسفل منزله ولا يلمح فيها الوجوه الشبابية المعتادة التي كان يلمحها في المظاهرات السابقة ترفع صورا وشعارات ثابتة لا تتغير.. الذين يراهم الآن هم حرافيش مصر بكل ما في الكلمة من معنى، علا هتاف المتظاهرين:
الإخوان ركنوا خلاص.. واحنا هناخد حق الناس..
أسرع إلى غرفته من جديد على صوت رنين الهاتف المحمول.. رد على صديقه وهو يبتسم:
- لم تعرف مضمون بيان جماعة الإخوان بعد كل ما حدث؟.. ألا تستطيع استنتاجه بنفسك؟!.. على العموم البيان واضح شديد الوضوح.. أعلنت القيادة حل التنظيم العام، وقالوا أن ذلك لا يعني تخليا عن الشرعية ولا عن مطلبها المشروع، وإنما طلب الشرعية يقوم به حزب الحرية والعدالة وهو التنظيم السياسي المنوط به هذا الأمر، ومعه الأحزاب السياسية المتضامنة معه.. وهذا الرئيس اختيار أكثر من نصف الشعب وعودته هي مسؤولية هذا الشعب الذي اختاره.. وأن قرار الحل جاء نتيجة لدراسات مستفيضة استمرت عشرات السنوات تؤكد على أن شمولية الإسلام لا تعني شمولية التنظيمات العاملة له.. واعترافا وإيمانا منا بالتخصص ودوره وأهميته.. وحل التنظيم هو انتقال من دوره الهرمي إلى دوره الرسالي.. ومن ضيق التنظيم إلى سعة الفكرة، وهو ما سبقنا إليه أخوة كرام في أقطار مختلفة من الأرض.. وعليه فإن قيادة التنظيم تحل جميع أفراده من أية بيعة أو التزام بهذا الشأن.. وعلى كل مجموعة من الأفراد ترغب في العمل العام أن تنظم نفسها وتشهر جمعية قانونية تمارس من خلالها تخصص من تخصصات الحياة لتنهض به، وتكون هذه المجموعة مسؤولة مسؤولية كاملة عن نفسها أمام الله وأمام الناس وأمام القانون.. ولا يعني هذا (أبدا) التخلي عن كفاحنا السياسي السلمي ضد البغي والعدوان.. بل هو آلية من آليات العمل المتخصص المتوازي.. وإن عزيمتنا رغم ذلك لن تنكسر، وإرادتنا لن تلين.. وسنستمر كحزب سياسي له الأكثرية الشعبية في آخر استحقاقات انتخابية نزيهة أجريت في مصر، نواجه الظلم، ونكافح من أجل شعبنا ووطننا حتى ننال إحدى الحسنيْيْن..
توقيع عدد من أعضاء مكتب الإرشاد ورموز الجماعة والقيادات التاريخية.
وكل عام وانتم بخير