ارتباط الاندونيسيين بالأزهر الشريف لا يوصف ، ومسجد " الأزهر " بجاكرتا شاهد على ارتباط اندونيسيا بمصر وعشق وتقدير الشعب هناك للعلماء – سواء مصريين أو اندونسيين " ممن درسوا وتخرجوا من جامعته العريقة ، وقد زار علماء مصريون كبار هذا الصرح الدعوى العلمى وألقوا محاضراتهم ، على رأسهم الامام محمود شلتوت الذى طلب من العالم الاندونيسى الذى حصل على الدكتوراه من أزهر مصر والذى أنشأ هذا المسجد تسميته بهذا الاسم . الحديث عن حفاوة العلماء بنا وعن أسلوب الاستقبال وروعة التنظيم والمستوى الممتاز للمترجمين وبراعة المشهد التعبدى العلمى الدعوى والفكرى المتكامل ، شرحه يطول . أردت أن أعرض فكرة ومضمون المحاضرة التى ألقيتها بالمسجد والتى أثارت ردود أفعال ايجابية واستدعت أسئلة كثيرة من الشباب حولها ، وكانت بعنوان " سر قوة الأمة " . أصل العلاقة بين الحكام والولاة من جهة والعلماء والدعاة من جهة أخرى هو التكامل والتناغم والانسجام والتعاون وبهذا نهضت الأمة وقويت الدولة والدعوة معاً ، والصدام والعداء هو الاستثناء وخلال تلك الفترات الذى حدث فيها طرأ الضعف على الاثنين معاً ، الدولة والدعوة . فتوحات ونضال عماد الدين زنكى وابنه نور الدين محمود ثم صلاح الدين ساندها ودعمها دعاة وعلماء مثل يوسف بن شداد وعبدالله بن محمد الأصفهانى ، كانوا يحشدون طاقات الناس خلف القادة ويوقظون وعى الأمة ويشنون الحملات الاعلامية على الأعداء ، وما تحققت الانتصارات الكبيرة بجهود الحكام والولاة وحدهم . وما بين المماليك وعلماء ودعاة عصرهم من تكامل وعلى رأسهم العز بن عبد السلام وشيخ الاسلام بن تيمية وابن بنت الأعز الشافعى الذين قاموا بدورهم فى التربية وصياغة المجتمع صياغة اسلامية ، هو الذى صنع الانجازات رغم عظم التحديات الداخلية والخارجية ، ورغم التجاوزات والمآخذ الشرعية الكثيرة على الحكام والسلاطين . ودولة المرابطين حققت انجازاتها بالتكامل مع الدعاة على رأسهم عبدالله بن ياسين الذى حقق انجازات غير مسبوقة فى الدعوة فى العمق الافريقى بفضل هذا التكامل . والشيخ عثمان بن فودى الذى ظهرت حركته الاصلاحية فى الربع الأخير من القرن الثانى عشر الهجرى بنيجيريا ، لم يستطع تحقيق انتشاره الأكبر وانجازاته الدعوية الاصلاحية الا بعد ايجاد صيغة مواءمة وتكامل مع حكام عصره وفق معاهدات مشروطة بضمانات وامتيازات . والتكامل بين رجل الدعوة ورجل الدولة كان من أبرز الظواهر فى تاريخ شبه القارة الهندية ، وتحققت به الانجازات الكبرى على الصعيدين الدعوى والسياسى ، خاصة فى عهد السلطان محمود الغزنوى وشهاب الدين الغورى . وهو ذاته عامل قوة الدولة والدعوة معاً طوال عهود آل عثمان المديدة الغنية بالانجازات ، واستدعاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى تكامله مع آل سعود ، وما انتكست الأمة وتم اختراقها الا بعدما انشغل الدعاة والعلماء بالسطو على كراسى الأمراء والحكام واقتناص سلطاتهم ونفوذهم ، ومن ثم انشغال الحكام بملاحقة الدعاة والتضييق عليهم وحبسهم أو نفيهم وشيوع انعدام الثقة والصراع والهواجس المخيفة والريبة بين الطرفين . تأبى الحركة الاسلامية منذ بدايات القرن الماضى هذا التكامل وتلك الخطة الرشيدة لضمان قوة الدولة والدعوة معاً ، وترفض التمثيل المتوازن المعقول للدعوة والحركة فى السلطة ، ويشغل صراع الحركة على السلطة كاملة مساحة العقود المديدة الماضية منذ أربعينات القرن الماضى الى اليوم ، والأمثلة لا حصر لها على فرص ثمينة لهذا التمثيل الذى يتيح الحضور الجيد لحماية مكتسبات الدعوة والضغط للحصول على امتيازات مضاعفة ، فضلاً عن القيام بالدور الأساسى من الاسهام فى حركة الاحياء وايقاظ الوعى والهداية ونشر الخير والدفاع عن الثوابت والرموز ودحض شبهات المشككين والطاعنين .. الخ . تساءل الشباب عن رجل الدعوة وقد تكرر تاريخياً أن صار رجل دولة ناجح ، وهذا صحيح لكنه التزم بالفصل بين السياسى والدينى ولم يدعِ العصمة ويرتدى ثوب القداسة أو ينشئ دولة دينية ، وفى نفس الوقت راعى التكامل داخل مؤسسات الدولة بين الورع والتقوى والأمانة من ناحية وبين الكفاءة والقوة والخبرات الادارية والسياسية والعسكرية من ناحية أخرى ، ونماذج كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان تؤكد ذلك ، فاجتماع الأمانة والقوة فى البشر قليل ونادر الحدوث – كما يقول شيخ الاسلام بن تيمية -