هناكَ على قارعةِ الطريق يقفُ مع ثلّةٍ من رفاقه.. الشمسُ ترتفعُ خجولةً من بين تلالٍ كانت تختبئُ من خلفِها.. بالكاد تنفذُ أشعّتُها من بين سحابٍ داكن .. نسماتُ الصباح الباكر تُنشدُ واحدةً من أغاني الخريف .. تعزفُ على أغصانِ أشجارٍ بائسةٍ سكنتْ قارعةَ الطريق.. إهتزّت لها فألقتْ ما فيها وتخلّت عن وريقاتٍ ساقتها الرياح ثمّ سرحت بها فوق سواد الإسفلت ..
كمْ شديدٌ هو البرد هذا الصباح.. تصطكّ أسنانُ الفتى "عمر" وقد ضمّ كفّيه لبعضهما وطفقَ فيهما نفخاً و فرْكا.. أطلقَ عينيهِ الذاهلتين إلى الخلف مئاتِ الأمتار.. إلى هناك .. حيث تقبعُ أسرتهُ وقد افترقَ عنها قبل قليل .. أمَّه التي لا يزال يشعرُ بدفءِ كفّيها على شفتيه رغم البرد... ودعاؤُها يظلّل هواجسَه بستائرَ من سكينة.. ..وأختيه الصغيرتين وقد احتلّتا ركناً على مقربةٍ من صفيحةٍ اشتعلتْ فيها قطعٌ من الحطبِ فتلوّنتْ وجنتاهما احمراراً بينما عبثَ دخانُ نار الصفيحةِ بأنفاس الصّغرى فشرعتْ بسعالٍ يخفتُ حيناً ويعود حيناً آخر....كانتا تمنّيان نفسيهما بشيءٍ من الحلوى كما وعدهما قبل أن يغادر إلى عمله..
وكمْ ينوءُ الفتى بحملهِ بعد وفاة والده .. و لمـّا يبلغ السادسةَ عشرة بعد.. إنّ عليه أنْ ينتظرَ كلّ يومٍ على جانبِ الطريق السريع ساعةً ..ساعتين ، وربما أكثر ، إلى أن تأتيَ مركبةُ نقلٍ متوسّطة تأخذهُ إلى أحد المزارعِ المنتشرة هنا وهناك ..او إلى أحد معامل الطوب ..حيث يشتغل في النقل والتحميلِ إلى ما قبل غروبِ الشمس بقليل.. من أجل سبعةِ دنانير بالكاد تكفي العائلةَ يوماً واحدا..
.. وهناك .. في معملِ الطوب ،حيثُ حطّ به مقسومُه ذلك اليوم..عليه أنْ يحملَ بين يديه أو على كتفهِ الغضة خمسَ طوباتٍ على الأقلّ جملةً واحدة.. وما ينكسرُ منها قد يحسمُ منْ أجره.... إعتاد على مثلِ هذا العمل الشاقّ إذ لم يجدْ بديلاً عنه.. كانَ يسلّي نفسَه ورفاقه بأهازيجَ من التراث .. فيستحيلُ الهمُّ فيهمْ حيناً غبطةً وحبوراً ، قبلَ أنْ ينهرَهمْ مراقبُ العمل مستحثاً اياهم على الجدّ..
..وإلى قريبٍ منْ هناك.. كانَ يرنو ببصرِه إلى فتيةٍ في مثل عمره.. يتمشّونَ على قرب .. يتبادلون النِّكات ،وقد تعالتْ ضحكاتهُم .. وظلّلهم جوٌّ من المرح.. يخالُ نفسهُ بينهم يتبادل الضّحكات.. فيعضّ شفتيهِ و يفيقُ من ذهوله على صوتِ قرقعة قوالب الطوب..
ثمّ إلى هناك..! بعيداً ... رحلَ بذاكرته إلى مرابع الطفولةِ حيث بيتُ العائلة الكبير بيتُ جدّه وجدّته .. وقد التأمتْ بالشمل أسرتُه وأسرةُ عمِّه مُكوثاً من العصر حتى العشاء.. حولَ النافورة العتيقة ..كانت النافورةُ إذا أغمضتْ عينها النضاخة صارت حوضاً ساكناً مزهراً ..قد فتح ذراعيه لأوراق الورد..فاستحالَ بساطاً ملوّناً متهادياً .. وكأنّ الماء التحف بالورد مستظلاً من أصيل الشمس..قبل أن تأتي الوالدةُ مع ساعة الغروب لتجمعَ الأوراق..لتبدو صفحةُ الماء مرآةً صافيةً تستقبلُ البدر .. وكأنّ صورةَ البدر راقتْ لها فانشغلا في مناجاة .. الماءُ يشكو ما لقيهُ منْ قيظِ الشمس .. والبدرُ في إنصات..وطافَ على سطح الماء سكونٌ لم تهزّه صيحاتُ مرحِ الأطفال وثرثرةِ العجوز إذ تجادلُ زوجها الجَدّ وقد التقمَ فوّهة النارجيلة وأطلقَ نفخةَ دخانٍ هنا، وضحكةً هناك..
ينتهي يومٌ شاقّ آخر ..يقبضُ الفتى دنانيره..ويودعها جيبه الداخليّ الآمن.. لم ينسَ أنْ يبتاعَ قطعَ الحلوى لأختيه ..يسيرُ ومنْ معه من العمّال الصّغار إلى الطريقِ الرئيسي .. حيث لا بدّ من انتظارِ مركبةَ نقلٍ أخرى يقودها ابْنُ حلالٍ ليعيدَهمْ من حيثُ أتوا..
أخيراً توقفتْ مركبةٌ ..إستقلّ الفتيةُ صندوقَها الخلفيّ المكشوف ،بعدَ قليل مسيرٍ سألهم السائق عن وُجهتهم ..
- إلى أين يا أولاد..؟
- إلى هناك ..أجابَ عُمر.. بينما سرحَ بذهنِه بعيداً..
أخذَ السائقُ نفَساً عميقاً منْ سيجارته..ثمّ نفثها ليصنعَ سحابةً ملأتْ حجرةَ القيادة..قائلاً : إلى هناك ؟! عرفت....كانت الشمسُ تجنحُ للمغيبِ بينما أخذتْ خيامُ الزعتري تلوحُ في الأفق..