ألم يكن هذا ما يريده؟ مالك زمام نفسه والمتحكم الوحيد في قيادها. ممسكاً بأعنتها يسوقها حيث يريد، مخيراً في قدره. لا يحمل عناء أحد، أو عبء إنتظاره. لا يحاسبه أحد، والحسبة قام بها وحيداً منذ أكثر من خمس عشرة سنة. يذكر كل شيء كأنه قريب جداً منه و لم تمض عليه كل تلك الأيام المتعاقبات. يوم وقف معها بمنعطف حياته. كان عليه أن يمشي طريقاً رسمها لنفسه. لا أشياء قد تمليها عليه نظراتها بدءاً و من بعد، كلماتها عند جلوسهما بمقهى )الشاطئ( .حدقتاها نطقتا حرجاً وضيقاً:
- لا أريد أن أفرض نفسي عليك، و لكن عليك أن تختار.
كانت حب حياته، و قد أتته بأمر لم تمهد له طويلاً حتّى يدرك ما ترمي إليه.
لازال يرقبهما معاً. مد يده ليمررها على وجهها الندي فاصطدمت بالفراغ. مرت بخلده لحظة تردد كانت جديدة عليه لأول مرة يتوقف بين طريقين، ويحاول إقناع أحد بدواعيه لكل ذلك. و كان عليه أن يختار إذ أن الوقت يلعب ضده. أمامه تحتضر المهلة التي منحتها له، و لا يستطيع إنعاش علاقتهما. وانتشله صوتها الموتور لما لحظت شروده المزمن الذي لم تعتده منه:
- )مختار(، كل العائلة تنتظر كلمة مني، وأنا أيضاً أنتظر.
أخفقت كلماتها كما أخفقت نظراتها في فك أسر صمته وإنما فكر:( تريد أن تضع قيداً أبدياً على حريتي، وكأن قيد التعلق بها لا يكفيها، من يدريني؟ فلعلها اخترعت حكاية خطبة ابن عمها لتطبق على نفسي وتجعلني تحت رحمتها في ما فضل لي من عمر. لم تدر أن حريتي سبب سعادتي الدافقة. لكم أحمد الأقدار أن جعلتني وحيد أسرتي، ووحيد العائلة المتواجد داخل هذه المدينة الماردة. أقفلتُ بابي أمام كل راغب في زيارة تعارف قد تجر وراءها زيارات أخرى وانتحلت الأعذار فارّاً من زيارة أحدهم مهما كانت المناسبة وبذلك حققت أمنيتي العزيزة. شقتي الصغيرة أمتلك كل حجراتها، بابها لا يعبره أحد دون إذني المسبق، حتّى جرسها لا يقرع دون علمي و إرادتي).
لازالت ترقبه، تحاول قراءة ما يدور برأسه، وصمت جنائزي متراخ بينهما كأنه أعقب موتاً أو استبقه إذ لربما هو حكمه على علاقتهما التي عمرت سنتين، أو قد يكون صمتاً يستبق لحظة الميلاد إذ لربما سينطق بما تنتظره منه بين يأس معرفته وأمل الضغط عليه. إلى أن يفرقهما الموت.
)عزيزة( كانت حب حياته، لا يمكنه أن يجادل في ذلك لكنه لم يكن يردها أن تكون سجن حياته، و جلادته، و مالكة زمامه. (لا، لا يمكن ).
استفاق من شروده وهو يريد أن يعلمها بما وصل إليه، سيقول لها:
- صحيح أني أحبك، لكن اعذريني. لا يمكن أن أخضع لأحد. إذا سرك الأمر نبقى على مثل حالنا إذ أني لا أريد أن أضيعك كما لا أريد أن أضيع نفسي.
لكنه لم يجدها، كانت قارئة جيدة لدواخله. علمت ما كان يود قوله فانصرفت دون وداع، دون دموع، دون إبداء لندم أو ألم و تركت له ذكرى صوتها يوم قالت له بعد نوبة غضب منها : (لا يمكنني أن أكون شاذة مثلك، أريد أن أكون مثل باقي الناس، أملك بيتاً و زوجاً و أبناء)
وجعل يرقب أمواج البحر التي تتطامى و تترامى أمام ناظريه. لاشك أنه يشبه البحر،هو أيضاً يستعذب وحدته، وما أمواجه الهاذرة إلا لسانه، يتغنى بسعادة معلنة. لا، لن يتعقب)عزيزة(. لاشك أنها انصرفت منذ مدة قصيرة، وإذا ما أراد أن يمسك بها فهو يعرف طريقها جيداً. إذا ما أسرع قليلاً حتما سيصلها، سيقول لها:
( موافق). لا، لاشك أنها أسرعت بما يكفي ثم إنها غاضبة جداً منه وخطوات الغضب مجنونة مسرعة. هو يملك رقم هاتفها، سيطلبها ويقول لها :(موافق). لا، لاشك أنها أطفأت جهازها، هي في حالة لا تسمح لها باستقبال مكالمة كتلك. سينتظر يوماً أو ساعة أو...
يذكر ذلك جيدا كما يذكر أنه لم يفعل شيئاً. كانت نفسه حائرة بين مدّ الإذعان لها وجزر الخوف من سجنها. لم يفعل شيئا ليحتفظ بـ)عزيزة(. لا يريد أن يكون إنساناً نمطياً داخل مجتمع منسوخ التركيبة، وينسل منها كائنات أخرى تدخل أقبية أخرى وسجوناً أشد عتمة وقتامة. ولم يفعل شيئاً.
واليوم، ألم يكن هذا ما أراده ودافع عنه بكل قوة وعزم؟
سلطان وجوده ومحيطه. مملكته بيته لا ينازعه في ذلك وجود آخر. المالك الوحيد لنفسه والمتحرك الأوحد داخل حدودها وجغرافيتها. حتّى عمله الحكومي رأى فيه استيلاباً وخضوعاً لسيطرة رئيسه، فاستقال رغم راتبه الجيد. ولم تجدِ محاولات زملائه ثنيه عن جنونه فرأى أنهم يحسدونه على شجاعة لا يملكونها، وحرية ليست رهن وجودهم الصاخب بصخب الأولاد، ومسؤولياتهم ونزاعات الزوجات المتسلطات. وظل دخله الوحيد إيجار بيت ورثه عن والديه.
واليوم وقد أحاق به شعور بالضيق من شقته التي رآها عالماً فسيحاً ما دام خالياً من موجودات تشبهه تضيّق عليه فسحاته. أراد الخروج ليتأمل الوجوه البائسة، ليسمع تعليقات الناس الساخرة. أراد ببساطة أن يمشي في المدينة الماردة وحيداً، يعاود استكشاف تلك المتعة، المشي بلا هدف و بلا قصد. هكذا خطوات عابثة غير واضحة العنوان والاتجاه. كان يحتاج أن يفعل ذلك نزولاً عند نصيحة الطبيب. نعم لقد بدأت مفاصل ركبتيه تهن، وشرع الخمول يزحف إليها كما ألمت الشيخوخة بنفسه. هو اليوم ابن الخامسة والأربعين لكن مظهره يوحي بالستين . ولإنه يريد أن يخالف الجميع فقد أطلق ذقنه، وترك لشعره الأشعث الحرية.
الحرية التي ينشدها ودافع عنها، كانت مقصده مع كل نسمة هواء يودعها رئتيه، والمدينة اليوم على غير عادتها فارغة خالية على نفسها، لا أحد يتسكع بشوارعها غيره. تساءل صامتاً:
- أين ذهب الآخرون؟
أدرك بضيق متنامي أنه محتاج لتلك الوجوه البائسة، لتعليقات الناس الساخرة.
أيكون الوحيد في المدينة؟ إذن فهو المالك اليوم لسلطانها المتحكم في كل حدودها والمهيمن على جغرافيتها.
خطواته العابثة الواهنة، الوحيدة في مدينته لم تصادف أحداً. لا، إنه يرى كلباً أعرج متسخاً يمرق أمامه على عجل. لاشك أنه يعرف طريقه ويقصد مكانا،) قبيلة للكلاب العرجاء مثلاً(. علّق ساخراً.
يصاب بالإرهاق، يتهاوى إلى كرسي إسمنتي هو جزء من بقايا حديقة وحيدة أيضاً. حتّى المتشردين الذين تصطلي بهم مثل تلك الأماكن انمحوا كأن زلزالاً مدمراً أتى على كل ذي حركة غيره وغير ذلك الأعرج التائه.(لاشك أننا الناجيان الوحيدان) عاد لتعليقه بسخرية قاتمة.
تعدو نظراته إلى بناية مقابلة كأنها استفادت من نومته الخفيفة لتندرئ عليه من مملكة أحلامه. شدته لافتتها الكبيرة إليها )دار الراحة( يهب من كرسيه، يتناسى نصبه. يقصد البناية في خطوات ثابتة. ينظر من سور حديقتها الواطئ يبصر أشباحاً متهالكة بالكاد تتحرك. كانت الكائنات الوحيدة التي تشبهه في تواجدها في مدينة خالية تماماً، توحدت ملابسهم وملامحهم، كما بدا له من خلف السور العازل. تساءل بفضول ملح:
- ماذا تراهم يفعلون؟
بدوا كأنهم مجتمعين حول... الزاوية التي يقف بها لا تمنحه إجابة أو رؤية واضحة لمعرفة ما يفعلون رغم حدة بصره، الناجي الوحيد من الخمول والعجز. حاول أكثر من مرة وجرب أكثر من زاوية بيد أنه لم ينجح في مسعاه.
دفع بقوة وعنف هاتفاً من داخله يسأله:( ما شأنك بهم وأنت لم تهتم يوما لأحد؟) وأهمل عجزه وبدايات وهنه ليقفز عبر السور فيلفي نفسه في حديقة تلك الدار. يهرول، يدفع تلك الأجساد المتحلقة حول... جسد نعم إنه جسد شيخ هرم. شيء غريب يشدّه إليه. نفس تلك العينين، نفس تلك الملامح، تلك اللحية وذاك الشعر. إنه يشبهه كثيراً. كأنه هو، لكن أكبر قليلاً. تجمّد للحظات في مكانه، وتصلبت نظراته اتجاهه، لينتفض بعد ذلك ويدور على عقبيه وهو يصرخ ملء أنفاسه:
- لا، لا يمكن أن يحدث هذا.
أحس الدوار يتلاعب برأسه، حانت منه التفاتة إلى ذكرى) عزيزة( البعيدة. لازال يذكر بيت عائلتها، سيذهب لخطبتها ويقنعها أن ترضى بشيخ مثله زوجاً لها.
لا، لازال يذكر رقم هاتفها، سيكلمها و يقول لها أنه موافق أن يتزوجا. أحسّ بلذة أن تشاركه شقته، عالمه، أحلامه، إشتياقه لأبناء هم من صلبه.
تحرك بخطوات واسعة، وأنسام بحرية تداعب خياشيمه. أحس بشعلة دافقة تغمر جسده. لم يعد يشعر بتلك الآلام المفصلية حتّى ذاك السور سيتجاوزه دون أن يضع يده كما فعل حين دخوله، لكنه يقف أمامه حائراً شبه عاجز، ولسانه ينطق دهشة:
- لا، لا يمكن. أهذا هو السور الذي عبرته منذ قليل؟ مستحيل أنه بمقدار خمس وأربعين متراً. لكن كيف حدث هذا؟ ومتى تمّ ذلك؟ أيعقل أن ينمو جماد وبتلك السرعة؟
يقصد البوابة الحديدية وهدير الموج يصك صماخيه، يحاول اختراقها، اقتحامها لكنها محكمة الإغلاق، محكمة الإنغلاق غلى نفسها. يرفع رأسه بيأس إلى السماء تصطدم عيناه بمؤخرة اللافتة التي كانت سبباً في جره إلى هذا المكان المسحور. يقرأ دهِشاً ما كتب عليها )المحطة الأخيرة(. أصابه الذعر وإحساس بالغبن وتعرضه لمؤامرة وتواطؤ من قبل المدينة المقيتة الخالية، والكلب الأعرج، واللافتة الكبيرة، والسور الواطئ الذي ظنه جماداً فإذا هو يقتات من أيامه !
يدرك ألا جدوى من الصراخ، فالمدينة خالية، لكنه ليس وحيداً هنا. يلتفت فإذا الجميع محملقين به. يكتشف مستعجباً أنهم يشبهونه في كل شيء حتّى الملامح والملابس. أراد الإستغاثة بصاحب الجثة المسجاة. سببه الأول في المغامرة بالتواجد في مكان كذلك فإذا هي قد اختفت، وأشباهه يتجهون نحوه ليتحلّقوا حول... جسده.
عبدالسلام المودني
سلا في 13/10/2004