عودة إلى ترانيـــــــــــم العشـــــــــق في رواية خيـــــل الفرنجــــــة
عودة من الأعماق إلى الحنين والأشواق المضنية التي لا ترحم..
"رغم سخونة أجواء الصيف في مصر خلال هذه الشهور من السنة.. وسخونة الأحداث المتلاحقة.. يشعر البهنساوي ببرودة شديدة، تنعكس على حياته كلها.. يفتقدها بكل كيانه.. عائشة هي مبعث الدفء.. مكمن السكينة والرحمة والمودة والأنس.. يفتقد فيها الصديقة.. كل هؤلاء الأصدقاء الذين لا يمر يوم تقريباً دون أن يلتقيهم.. ويحبهم حقيقة لا ادعاء.. يشغلون حيزاً لا يُستهان به من نفسه.. لا يتجاوزون هذا الحيز إلى عمق لم يستطع تجاوزه إلَّا عائشة.. وحدها ولجته.. وحدها استقرت فيه لا تغادره.. يفتقد فيها الصداقة.. الحب والحضن الدافئ والشوق إلى حميمية اللقاء المقدس، افتقاد هذه المشاعر تضع على صدره ثلوجاً باردة.. باردة لدرجة أنها تحرق جوفه!! كل هذا يهون أمام افتقاده صداقتها.. وحدها هي التي يمكن أن يكشف لها عن أعماق نفسه.. كل ما يمكن أن يسر به للحمَّامي دون سواه.. أو للدمنهوري قبل رحيله إلى معركة دمنهور، ما هو إلا قشور.. عائشة صديقته لا تحتاج أن يحكي لها.. تراه من الداخل والخارج.. تعرفه كما يعرفها.. كل خلجة من خلجات النفس.. كل دقة من دقات القلب.. كل خفقة من خفقات الروح.. لا يقف أمامها عاري الجسد فحسب، كما لم يقف أمام أحد سواها.. وإنما يقف أمامها عاري النفس أيضاً.. عاري المشاعر.. عاري الأفكار.. كل ما يجول بخاطره مستباح أمام ناظريها.. وما يحمله في نفسه من هموم في تلك الأجواء لا يستطيع البوح بها لغيرها.. حديثه عن تلك الهموم مع الأصدقاء بمثابة خيانة للثورة والمقاومة.. سيبدو لهم نوعاً من أنواع تثبيط الهمم والعزائم.. أو نقل حالة من التهوين والتيئيس إلى نفوسهم.. إنه لا يشعر بذلك.. لكنه يريد أن يشتكي، أن يزيح عن صدره هموم ووساوس ومخاوف.. أن يشتكي لها بطء إجراءات المقاومة.. أن يصنّف المقاومين دون أن يشعر أنه يفشي أسرارهم أو حتى يغتابهم.. ما بينه وبين عائشة، يجعلهما نفساً واحدة.. والنفس الواحدة لا تغتاب الناس حينما تذكرهم في سريرتها! النفس الواحدة قلب مفتوح، الدم الذي يسري في هذا الجسد.. يسري في الجسد الآخر.. رنَّ في مسمعه صوتها يأتيه من عالم الذكريات.. تسأله سؤالها الدافئ الملهوف: "مالك"؟
تنطق بها مخطوفة كأنها صادرة من حنايا الروح.. من خفقات القلب، يقذف به مع الدم.. لا يتحرك على اللسان.. بمجرد أن تسمع أنفاسه، وحتى قبل أن تراه!!: "مالك؟"
بهذه اللهفة وهذا الحب.. الحب الذي لا تبديه سوى أم لوليدها.. يخفف عنه كل مصائب الدنيا حتى قبل أن يحكي لها شيئاً.. عاتبته كثيراً لأنه يخفي عنها أشياء.. أو لم يكن صريحاً معها في شكواه.. لا تدري رغم كل درايتها به.. إنَّ كل همومه تنزاح عنه في لحظة يسمع السؤال الخائف المرتجف، ينطلق من جوف الأعماق.. فتهدهد مشاعره المضطربة، وتعيد ترتيب خلايا كيانه في موضعها الصحيح.. لعلها تدري.. لكنها تخشى أن تكون لا تمتلك من كيانه ما امتلكت بعد.. نوع من العلاقة لا يمكن وصفها أو التعبير عنها.. يقلّب البهنساوي في قاموس كلماته.. العربي والتركي.. لا يجد.. تدمع عيناه وهو يتألم لأنه لا يعرف التعبير عما يشعر به.. ينتابه شعور الأبكم عندما يرى خطراً داهماً، ولا يستطيع التعبير عنه للنجدة أو الاستغاثة.. شعور العجز المطلق.. أخيراً يرتل قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..
يتساءل في تأمل يريد أن يصل إلى يقين لا يدركه: ألم يشرع المولى عز وجل الزواج، وشرع الطلاق؟!.. فهل عملية الطلاق التي شرعها الله تعالى، هي عملية انشطار للنفس، التي كانت واحدة وفق الميثاق الغليظ؟ أم أن تلك النفوس التي قبلت الطلاق لم تستطع التمازج؟.. لم تستطع الوصول إلى مرحلة النفس الواحدة أبداً؟ فتناكرت وتفرقت؟! إنَّ النفس عندما تمتزج وتتوحد لا يمكن تمزيقها بعد ذلك أبداً.. وهذا الفهم العميق الذي يؤمن به هو أحد أسرار إيمانه، أنَّ عائشة ستظل له أبد الدهر ولن تكون لأحد سواه.. لقد تيقن بالتجربة.. أنَّ النفس الواحدة تحققت بينهما بأحاسيس مشتركة تنتابهما في أيام السفر والهجران، وحتى في أوقات الغضب والفراق.. دائماً يجمعهما إحساس واحد.. أمل واحد.. وعندما تعاند عائشة.. تعاند قلبها وعاطفتها وتحاول أن تسيطر على النفس بلجام العقل.. كان يراودهما في النوم حلم واحد.. يتخطى الحلم حد قدرة السيطرة على النفس.. يخترق كل الحدود المفروضة قسراً.. وتتحد النفس الواحدة.. قالت له يوماً بعد تجربة مريرة، وقد شعر شعوراً مؤلماً بالغيرة ينهش نفسه كلها: "عجيب أن تغار محمود من الرجال.. الرجال هم الذين يغارون منك.. لأنك تقف بيني وبينهم سداً منيعاً، ولو لم تكن معي ولا أمامي.. أنت تسكنني يا محمود.. فلا مبرر لغيرتك.. أنت وحدك عالمي!"
يتذكر محمود تلك العبارات وهو يصرخ في صمت: "وهل هذه امرأة قابلة للنسيان؟ للتكرار؟ لإمكانية التعويض؟!! عائشة امرأة وحدها.. هل جربت مرة أن تصرخ من الأعماق بلا صوت؟ تصرخ كل خلايا جسدك.. دون أن يكون مسموحاً لك بالتعبير عما بداخلك على هيئة كلمات.. أو حتى أنين.. لأنه لن يفهمك أحد، أو لأن الأنين نفسه لا يكفي للتعبير؟"
في تلك الليلة يصرخ ويئن بخلايا الجسد المكدود دون سواه.. قلبه لم يكن يقذف الدم في عروقه، وإنما يقذف كرات ملتهبة من شوق، تسري في أوصاله فتلهبه بحرارة الحُمَّى!! يفتقد عائشة حد المرارة.. هل تراه يستطيع أن يواصل طريقه إليها بغير معيتها في ذات الطريق؟! يدرك، ويصبّر النفس باأنه إنما يسلك إليها.. لكنه يحتاج أيضاً إلى الصديق الذي يؤنسه في ذات الطريق ليكمله على خير! روحها الشفافة الرفيفة التي تشعر به قبل أن ينطق، أو يطلب أو يدعوها.. ألا تريد أن تؤنسه كصديق؟ فقط كصديق.. إن تأبّت عليه أن تعامله كحبيب؟ هو نفسه لا يريد لها أن تعامله كحبيب، قبل أن يمهرها مهرها! لكنه في أمس الحاجة إلى صداقتها.. إلى مؤانستها.. إلى اكتمال نفسه المعذبة بانضمام نفسها إليه.. حتى عقلها.. يحتاج عقلها الراجح في وقت الأزمات.. بدونها ينقصه نفسه ذاتها! كيف سيقابل الشيخ السادات؟ كيف سيعرض عليه الأفكار؟ كيف سيفسر له بعض الظواهر، ويقدم بين يديه اقتراحات جديدة للمقاومة والثورة؟ وهو نفسه يحتاج إلى مشاركة عائشة؟ هل يكون افتقاده لها أحد أسباب بقاء خيل الفرنجة في بر مصر إلى حين؟! وهل يمكن أن يخطف من هذا الزمن لحظات يراها فيها.. فقط يراها فيها عن بعد.. فتتجدد حياته كلها؟! يعلم أنَّ المحال نفسه أسهل من هذا بكثير.. وأنَّ كل طريق إلى عائشة يبدأ من خروج خيل الفرنجة أولاً وقبل كل شيء.. نعس أخيراً بعد طول مجاهدة مع النفس المؤرقَّة المشتاقة.. وأبت الروح الطاهرة الشفافة أن تزوره في نومه هذه الليلة لتخفف عنه بعض ما يجد من شوق!! عندما استيقظ اقسم بالله العلي العظيم أن يبذل نفسه، وكل ما يملك من أجل أن يخرج الفرنجة.. ولابد أن يكون خروجهم سريعاً.. فلم يعد يتحمّل مزيداً من الشوق إليها!!
لم تفلح أنفاس عائشة المخلوطة بقهوة الصباح، ولا مرارة طعم البُن الذي يلعقه في آخر الفنجان كل صباح.. ولا نكهة النعناع الطازج منبعثة من كوب الشاي الأخضر الساخن.. ولا طعم العسل بزيت العود، أن تزيح عن قلب البهنساوي بعض أشواقه، ولم يكن يجدي معه والحال كذلك إلَّا أن يتجول بين الناس في الطرقات.. في الأسواق.. في الأزقة والحارات.. يرصد نبض أولاد البلد، يترجم هذا كله إلى أفكار جديدة لمقاومة الفرنساوية"..