رأيتها .. ليست تلك التي تسكن منزلي ، تشاركني رغيف خبزي وسريري ، بل هي أصغر ، أحلى أجمل ،ابتسامتها كما رأيتها ، وعيونها كما أحببتها ، هي ذاتها، من تحديتُ أهلي وأقربائي من أجل الفوز بها ..
هرعت إليها ، نظرت لها نظرة طويلة جداً ، عميقة حتى كادت تسرقها ، قلت لها : أهلاً
ولم أزد ، ذلك أن كلمتي حملت خلفها الشوق كله ، ومعها حملت ذكريات انتظار على نافذتي الوحيدة ، وشريط كاسيت قديم لأم كلثوم اسمه كلثوميات ، يجمع بعض أجمل أغانيها ،بطريقة مجتزأة سوقية ، لكنه كان يعجبني . كانت تتوقف الست عند أغنية " أغداً ألقاك " ، فتصدح بها عالياً تخترق جو الغرفة المغبر ، وتنزل عبر سلالم المنزل الصغيرة ، وتقفز لاحتضانها وهي لم تلمس حدود المكان بعد ..
تقافَزَتْ كطفلةٍ شقية ، وعلى عكس ما أعرف من دروب ذاكرتي : رأيتها تنظر لي نظرة عشق موازية لنظرتي ، تقترب مني حد الالتصاق ، وتقول لي بهمسٍ طفولي حمل معه براءة الدنيا كلها : علمني على جوالك .
أمسكت هاتفي المحمول الحديث ، وكأنه –مثلي- قطعة قفزت إلى الوراء فجأة ، مع صاحبها لتقابل ذات الحبيبة .
أقلب لها في الفيديوهات ، أفتح لها بعض الأغنيات ، أحاول أن أتوقف كثيراً عند أغنيتي : أغدا ألقاك .
لكنها دوماً تصر أن تعبرها إلى أخرى .. لا أدري كيف جاء ذاك الشريط القديم الى هاتفي المحمول الحديث . وكيف صارت ذكرياتي عبارة عن فيديوهات يعرضها هاتفي عبر شاشته ، لكني كنت سعيداً .
رأيت والدي يقترب ، وكنت أخشى نزواته وخروجه عن حدود اللياقة دائماً .. غمزت لها أن تنصرف ، وهمست لها أن تلقاني في الطابق العلوي .. وفاجأتني حين استجابت وقفزت بتنورتها الطويلة وقميصها الأخضر الفسفوري الذي أحببته كــ هي .. واستدرت إليه –والدي المتوفى – قلت : اتركها أرجوك ، لا تزعج هذي الطفلة ..
فرد بصوت أراده مسموعاً : لا نستطيع تحملها هي وأخواتها ..
فقلت بصوت كالبكاء : وهل طلبَتْ إعالتك ؟ هي فقط قريبتنا وتجد الأنس وجو العائلة في بيتنا .. تحملها أرجوك .. وأنا سأغطي تكاليف أي شيء تأكله ..
داعب أبي شنباته كالمنتصر : ليست مسألة تكاليف .. إنها مسألة مبدأ ..
تركته مع انتصاره إلى فوق ، حيث كانت تنتظرني ، عبر السلالم كانت ذاكرتي تعود رويداً ، وكان شعري يصبح أكثر ابيضاضاً ، وكنت أشعر بالتعب أكثر ..
وصلت الطابق العلوي ، حيث صارت شقتي وبيت زواجي .. تذكرت كل شيء ، وعرفت أنها حتماً في بيتي ..
قلت لنفسي : لعلها لم تتغير كما أحاول إقناع نفسي .. لعلي أنا فعلت ..
بحثت عنها فلم أسمع صوتا .. جلست على كنبتي المنفردة أمام الشاشة العملاقة ، سمعت صوتاً في المطبخ ، شعرت برائحتها ، هي تقوم بتنظيف الأواني في المطبخ ، هرعت إليها فلم أجد شيئا ..
تحسست رائحتها في كل مكان في الشقة ، تتبعت صوت خطواتها ، رائحة أنفاسها ، طعم عطرها ، قلت لها :
أحبك ، فلم يرد منها شيء ، ولم يخبرني أنها أسيرة في مكان ما ، ولم تفتح بوابة ما لتقذفها إلي من اللاشيء ..
علني أحتويها من جديد ، مرة واحدة أخيرة ..
أمام سريري تحلق جمع من أهلي ، رأيت نفسي في عيونهم ، بالياً كبيراً أنهكني السن ، بحثت عنها ، قال لي أخي : استرخ أرجوك .. دعها في سلام .
لم أفهم ماذا يقصد ؟ أأدعها أم أدع روحي / وهما سيان.؟ لكني شعرت كلما ازدادوا هم اقتراباً مني أنني أبتعد أكثر ، وأن روحي تقترب منها خطوات ، ولم يعد يهمني كم تغَيّرَتْ ، ولا كم اختلَفَتْ طباعُها ، أو حتى كم كبرت ، أو ذبل جمالها أو كاد ..
المهم أن تكون هي ، رفيقة روحي التي غادرتني فجأة .