الاحسان كاستراتيجية تظهر ملامحه من تحديد الهدف منه وأيضاً من نتائجه ؛ فقد ذكر القائد المنهجى الرائد صلوات ربى وسلامه عليه فى موقف ثمامة الهدف تحديداً ، فهو لم يقف على قيمة الاحسان الأخلاقية - وان كانت حاضرة ومفهومة - ولم يقل لأن هذا الفعل وهذا التصرف هو ما يليق بأخلاق الرسول وجدير بالارتباط بالرسالة ، انما تحدث مع الملك - ملك الجبال - عن شئ آخر يتعلق بطبيعة التصرف السياسية وما ينتظر من ورائه من نتائج ورؤى وأبعاد استراتيجية تخدم الدعوة والمنهج ، فقال صلى الله عليه وسلم تحديداً للهدف الأصيل والغاية الأساسية : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " .
وكذلك تظهر طبيعة الاحسان كفعل استراتيجى من نتائجه التى تحققت على الأرض ، وأعظم تلك النتائج تحول الرموز والقيادات المرموقة من خانة العداوة والحماسة الهدامة للعصف بالمنهج ورموزه ورواده الى خانة الحلفاء ، كنموذج هند بنت عتبة التى كانت حرباً على المنهج وتطرفت فى عداوة الرسول وتلاميذه ، وأسهمت فى مخطط قتل أسد الاسلام حتى قيل انها مثلت به وحاولت أكل كبده ، ورغم ذلك عندما فتح الله عليه مكة وعند لقائه بهند ضمن الوفد النسائى وهى متنكرة ، وهذا الحوار الراقى الممتع بينها وبين الرسول الذى طرحت خلاله كثيراً من آرائها الجريئة بكل حرية ، لتعبر بهذا الاحسان من بر الشرور والكراهية والأحقاد الى بر الصداقة والمحبة والتواصل والشراكة .. تقول " يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب الى أن يذلوا من أهل خبائك وما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب الى أن يعزوا من أهل خبائك "
القراءة الواعية لواقعة ثمامة بن أثال سيد بنى حنيفة تدرك معانى الابتعاد بالخصم عن توترات ومثيرات الخصومة وعوامل الشحن النفسى ومناخ وبيئة الكراهية ، فالمسجد ليس فى الأساس مكان احتجاز أو أسر لكنه المكان الذى يرى فيه الوافد الأسير المجتمع الاسلامى على حقيقته بعيداً عن منافذ الاعلام المشوهة للمنهج ورواده وقادته ، فهو بمثابة فلتر يغسل الرائد المنهجى القائد صلى الله عليه وسلم من خلاله تراكمات الحرب النفسية وترسبات الدعاية المضادة فى كيان ثمامة ، وبين الحين والحين يمر عليه ويتعهده ويسأل عن حاله ليتفقد نتيجة وأثر هذا الفعل فى طريق تغيير هذا الخصم والعدو الى حليف وصديق ، فيمر عليه لثلاثة أيام وفى كل يوم يسأله : " ماذا عندك اليوم يا ثمامة " ، وحتى فى اليوم الأخير عندما لم يتلقى الرسول الاجابة الصريحة الشافية الا أنه أمر باطلاقه ، فقد تأكد بوعى وادراك القائد المنهجى البصير أن الرجل تعرف بما فيه الكفاية على حقيقة المنهج وأن رواده ليسوا بهذا القبح والشرور التى تروجها الدعاية المضادة ، وبالفعل ظهرت النتيجة المتوقعة .. انطلق الى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض الى من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه الى ، والله ما كان دين أبغض الى من دينك فأصبح دينك أحب الدين الى ، والله ما كان بلد أبغض الى من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد الى " .. هنا نستخلص فائدة منهجية مهمة وهو أن استراتيجية الاحسان تتطلب اجراءات وتحتاج لعوامل مساعدة لكى يتحقق انجازها عن الأرض ، ولو كان الأمر متعلقاً ومرتبطاً بالجانب الأخلاقى فقط لأطلقه الرسول من أول يوم ، هنا لابد من التفكير بصورة واقعية واحاطة الخطة بعوامل نجاحها ، وفى هذه القصة نلمس بوضوح معالم الاحسان من منطلق كونه استراتيجية للتحرك ، فالقائد يخطط ويضع التصور ويختار المكان المناسب للتنفيذ وكذلك يحدد المدى الزمنى الذى تستغرقه الخطة لكى تنجح ، وبعدها لا يحتاج لرؤية النتيجة الملموسة على الأرض فقد توقع النجاح وجنى الثمار بعد أن وفر كل العوامل المساعدة لنجاح خطته ورؤيته وتصوره المدروس بعناية .