بائعة الجميز ( قصة قصيرة )
أسراب العصافير تعانق الغروب وهي عائدة من معايشها بطانا، تهبط مجهدة إلى مضاجعهـــــا
فوق أفنان شجرة الجميز الباسقة المثمرة .
رفعت عينيها صوب الغصون وهي تتمتم : "ربنا يقطعكم، هو انا ح ألقاها منين ولا منين ..."
وسرعان ما فركت كفيها بحفنة من التراب، وانحنت لتلملم الثمرات المتساقطة. ثم عادت تطين
خصها المترامي على أطراف القرية قبالة حقول الفلاحين .
ولمّـا فرغت من صنيعها جلست تنظر إلى قامــات مباني القرية، تصغى إلى دبيب العيش وهو
يغمر شوارعها، تتابع المصابيح وهي تتوهـج واحدة تلو الأخـرى، ترى الرعـاة وهـم عائدون
من أعمالهم وعلى أيديهم أحمال سعيهم ...
وتتأمل - حواليهـــــــا - ملامـح الدقائق الفاصلة بين الأنس وبين الوحـدة.. فتشاهـد الفلاحين
وأنعامهـم وهم يغـادرون المراعي، ترى الطريق الزراعـي منشغلٌ بالرجوع فقـط ؛ ولـم يكـن
عليه ذهابٌ قط .
وسرعان ماخلا الصمت بها، وحلَّ الليل بعتمته.. وتمضي الساعات وئيدة... وهي تنفرد مع
كل هذه الخلوة، إزاء الأدغال الشاسعة من الزروع والإخضرار.. فيقفز قلبهـا جراء توهمـات
ترأت على آثارها الأشجار وكأنها أشبـاح متربصة، وترأت القرية من خلفهـــا وكأنهـا روح
لقرية ميته .
لا ضوء سوى قنديل يحــاول خدش الظلمة، و رذاذات نـور متسربة من أعمـدة البلدة، بدت
على هيئة بقعة بيضاء شاحبة، يتربع عليها ظـل البنيان الشاهق فتزداد شحوبا، ويظهر من
خلالها الضفدع وهو يقفز متسكعا بصوته المزعج، بينمـا البعوض اللعين يجيء متسارعـا،
ليزاحم بقعة الضوء، ويشارك بصوته المزعج .
يـد تهش البعوض عن طفليها الخاملين على حجرهــــا، واليد الأخـرى تمسح رأسيهمـا في
تناوب، يزحف كفها على جسديهما النحيلين، وكأنها ترتل مع همساتها... ثم مالت برأسها
لتمنحهما قبلتي الغفو التي إعتادت عليهما.. و زادت للولد.. ثم جذبته وهي تتفرس ملامح
وجهه.. تكاد تلمح رجولته القادمة خلف قسماته الصغيرة. ففوجئت بصحوه قائلا :
- انت ليه ياماما مش بـ تشتري لنا حاجات حلوة كتير مثل بابا ؟
- حاضر ياحبيبي ح أشتري لكم كل حاجه ..
- هو بيتنا الجديد مش فيه سرير ... ليه ياماما، هو أحنا ح ننام على القش ده يا ماما ؟
- إن شاء الله ح يكون عندنا سرير ... وكل حاجه يا حبيبي
- هو بابا مش بيجي بسرعة من عند ربنا ليه ياماما ؟
فأجابت في صمتها هذه المرة... ودموعها تتسلل خفية.. وراحت تسرح، وتسرح... بين
الماضي الجميل.. وحاضرها المخيف.. والغـد المجهول.. ؟ حتى خطفها النعاس .
فاستيقظت على زقزقة العصافير، وهي تستعد لمعايشها. بينمــا هي الأخرى تتـأهب لمثل
ذلك . زادت كيل الثمرات هذه المرة، حتى كـاد المقطف أن يطفـح، وراحت تجوب شوارع
القرية،حتى فرغ المقطف. فجلست تحصي الدريهمات فوجدتها لم تكفي ثمنا لنصف كيلو
اللحم التي وعدت به طفليها .
عبدالله عيسى
18 / 12 / 2015