أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 16

الموضوع: غربة ضباب .. رواية

  1. #1
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي غربة ضباب .. رواية

    عام: 2056
    استلقى على سريره وهو يئن كعادته من فرط المرض، اختزل آهاته في صوت مكتوم يحاول أن يعدمه، ينظر إلى تلك النافذة المكشوفة، في ذلك الليل الجميل الملامح الذي يسكن السماء، يطرده بدر ألِفَ السهر على نغمات ألمه.
    كان ذلك الليل باردا جدا، وكانت عصاه ملقاة على زاوية من زوايا تلك الغرفة الصماء..
    وكان يتمتم كالتائه وسط دخان الألم:
    "آه ما أحزن هذا المساء الذي يفيض بالذكريات الآثمة، أيتها البرودة التي تسكن أصابعي اندثري، كم أنت ظالمة مستبدة، تطمعين الاقتراب من شيخ في السبعين من عمره...
    ماذا تبقى لتأخذيه؟؟
    الشعر الذي ابيض كله أم الجسد الذي أصبح كجسر منهار أعلى نهر الموت.."
    انتهى جمال من تلك الكلمات التي كان يوجهها لنفسه ثم غيّر نومته إلى جانبه الآخر وبسمل ونام
    غير أنه ما فتئ أن استيقظ مرة أخرى.
    كان كيس الأدوية الذي يستوطن تلك الطاولة يستدعيه مع وخزة كل وجع.
    لكنه كان مكابرا يخشى التسلل على كل قدمه إلى تلك المهدئات التي يصخب بها جسده..
    ثم جلس وهو يحاول أن ينسى أرقه، هكذا هو حال كل الذين يكبرون عندما يكابر عن جفونهم النوم، ويرسم سطوته على أحلامهم حينما يأمرها أن لا تأتي..
    كان جمال ينتظر تلك اللحظة التي يغلق فيها عينه آخر مرة، ولا يتذكر متى ولد وماذا عاش وكيف كانت حياته..
    وقد كان يردد بينه وبين نفسه كلمات يحاول نسيانها، كان يقول كمن يحاول أن يمسح صداعه:
    "أيتها الضجة التي تسكن رأسي
    أما آن لك أن تهدئي
    أنفقت من أجلك كل محاولات النسيان، وما استطعت أن أمسح هذا الضباب الذي يسكن الذاكرة..
    أي غربة ولدنا بها
    أي غربة منحت لنا
    وأي غربة سنموت عليها.."
    انقشع ظلام تلك الليلة، ولم يحرّك جمال ساكنا أمضى كل ليله جالسا على ذلك السرير يتأمل جدران المستشفى الزرقاء، ويسمع فيها صدى أناته،
    كان جمال زائرا لمستشفى باب القنطرة، أخذ يطل على نافذته ليرى تلك الجسور التي توهم الجميع بجبروت شموخها وتنسيهم أولئك الذين انتحروا عليها وأسلموها مفاتيح موتهم ذات كآبة.
    ولم يتفطن جمال لخطوات الممرضة التي لاحظت ابتعاده عن جسده بألف فكرة، وأخذت تربت على كتفه
    "العم جمال، هل أنت مستيقظ؟"
    آه، نعم با بنيتي..لم يكن النوم من نصيبي في ذلك الأمس
    هل تذكرتني أنا فريدة
    نظر إليها جمال نظرة لا مبالية ..فتجاهلتها وأتمت كلامها:
    بماذا تحس الآن
    أحس بأمر غريب ، وكأن ذاكرتي تسطو علي، أحس بحمى مع أن رأسي باردة، أحس بوجع وألم لا أعرف بعد موقعه من كل الجسد
    أخذت فريدة الممرضة تنظر إلى جمال وهي تتذكر أيام كانت طفلة صغيرة حينما كان يذهب بها إلى دكاكين الحلوى ويبتاع لها ما تريده وما تشتهيه..
    كان مجرد النظر إلى تفاصيل شحوبه يجعل من فريدة تبتئس وهي تحمل معها شبابه يوم طفولتها ، وكهولته يوم شبابها، وشيخوخته يوم كهولتها..
    هو هكذا يبني فارق الزمن جسورا بين أجيال لا ترى من الرجل سوى طفولته التي احتوتها، وفي الشيخ سوى شبابه الذي عرفته..
    جرعت الممرضة جمال إبرة مهدئة نام فورها، ولكنه قبل أن يغمض عينه، أمسك يدها، وكأنه تذكرها
    ثم قال: أحس أن الموت يقترب مني يا ابنتي..
    ما تبقى من العمر نفس..
    مسحت فريدة على يده التي أرهقتها تضاريس التجاعيد، وهي تنظر إليه نظرة مكابرة وتقول: مازالت البراكة عمي جمال
    غادرت فريدة الغرفة وغط جمال في نوم عميق..
    غريبة هذه الدنيا، غريبة بكل تفاصيلها التي تعرج علينا بعد أن نأخذ رصيدا لا بأس به لتعيدنا إلى أول الطريق ...إلى صفرنا الذي نحاول دائما الفرار منه........














    عام 1996

    سمع جمال صوت أمه تناديه :"جمال..جمال..أرواح أوليدي"
    كان صوتا دافئا كما عهده في صغره، نعم جمال الذي تحول بين طرفة عين وانتباهتها إلى طفل في العاشرة.
    اختلت ذاكرته بأحداث طفولته بكل تفاصيلها، كأنها كانت تنتظر لحظة رجوعها إلى غيبوبته التي ظنها واقعا..
    كانت أم جمال امرأة مهزومة على أمرها، وكانت وهي في ريعان شبابها أنجبت ستة أبناء، وكان جمال قطعة من نفسها، كانت تؤثره عليها وعلى جميع أخواته..
    كانت الأم سليمة جالسة في تلك الصبيحة مع أمها الجدة حليمة التي تترأس كل صباح ذلك الحوش الكبير. وكم كانت رائحة القهوة تخترق أنوف النُوَّم فتوقظهم الواحد تلو الآخر، فينتشل معه حلمه الذي كان زاخرا بالأمنيات..كان للجدة حليمة ملامح كل امرأة في بيئة محافظة آنذاك بمحرمتها التي تغطي شعرها إلا أوله الذي كان ينساب متمردا رافضا أن يكون تحت أي غطاء، كان لباسها "القندورة" ..التي تسحب أذيالها وهي تنصرف من مكان إلى آخر، يشدها ذلك الحزام الذي تحدد به خصرها..سافرة من كل زينة سوى بعض الكحل الذي كان الجد حميد يشاجرها عند وضعه..
    اقترب جمال من تلك المائدة التي يعلوها "السني النحاسي" وتعلوه فناجين القهوة وذلك الإبريق الأزرق سيد منطقته..
    نعم استيقظ الجميع إثر شغب الخال عادل الذي يرفع صوته عنوة، وقد كان أكبر أبناء الجدة حليمة ومدللها المستبد، الذي يتاح له أن يفعل ما يريد دون أن يرقع آثامه بخيط المنطق.
    ربما لم يكن لأحد من الخيال أن يدرك أن هذه العائلة الكبيرة تتناول الفطور على السادسة صباحا أيام العطلة الصيفية..
    وأن كل القصص والقهقهات كانت بداية يوم جديد يبدأ بسرد الأحلام وينتهي بفيلم على شاشة التلفاز.
    أما جمال فكان يحمل معه الكثير من الذكريات في ذلك البيت، سلالمه التي كان يقفز دون أن يحذر السقوط عند ثلاثتها أو أربعتها، أو جلوسه على عتبة المنزل مع أولاد العائلة ليمثل بطولته المزيفة، ويخترع ألف قصة لم تكن واقعية، وإنما أراد لها أن تصدق على مسمع أصدقائه..
    فتارة غلب الكلب الذي تحرش به ذات مساء، وتارة رمى المجنون الذي أتاه مهرولا- على قلة وزنه- وضخامة ذاك في مستنقع الوحل.
    وتارة رمى كرة جاءت في عين الشمس وردت إليه بعد أن احترق بعضها، وكان أصدقاءه يعلمون كذبه لكنهم كانوا يرونه طفلا طيبا حلو المصاحبة فلم يعتزلوه.
    تناول جمال فطوره ثم استعد لمغادرة المنزل مع شلته لابتياع بعض الخضر للغذاء، كان جمال وهو يمشي في تلك الأزقة الضيقة يرى في عيون المارة شيئا من الخوف المكبوت أما الباعة فكلهم يرددون ذات الموال "الإرهاب"، ترى ما كانت تعني لفظة كهذه في ذهنه الصغير، هل كان يراها بقيمتها الحقيقية، هل هذا هو لقب لعائلة تقطن قسنطينة هكذا كان جمال يخمن..
    يا لسذاجته


    (يتبع)
    دعوت القوافي كي تصون ودادنا..وتعلم أنّا بالقصيد نكلم

  2. #2
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    عاد جمال إلى ذلك المنزل وأمد الخالة الزهرة بما ابتاعه لتعد الغذاء، كان مذاق "الكسكسي" من يدي الخالة الزهرة رائعا، وقد كان يجلس أمامها في ذلك المطبخ وهي تعد أكلتها، وكان ينظر إلى وجهها الذي لا يزال في ذروة شبابه ويتساءل بينه وبين نفسه كيف لامرأة بهذا العمر أن تتزوج وتنجب طفلة ثم تطلق...
    كان ذلك قدرها..القدر الذي عادة ما يفرض علينا جبروته ومالنا إلا أن نخضع له بتسليم تام.
    كانت الخالة الزهرة امرأة جميلة الطلة في السابعة والعشرين من عمرها وكانت ابنتها رقية في عمر السابعة..
    وقد أحضرتها بعد طلاقها من قريبها لزواج دام بضعة أشهر ..حملتها رضيعة من هناك وأقسمت على نفسها أن لا تعيد زواجها أبدا وأن تتفرغ لتربية وحيدتها .
    الخالة الزهرة التي رأت ذات يوم صورة طليقها تملأ الجرائد وقد قرن اسمه بلقب الإرهابي..
    فقد قتل الكثيرين ..كان منظره على أول صفحة يحيطها بالهلع والخوف..هو هذا الذي أحبته ذات يوم وقد كان يكبرها بعشرين سنة ..تزوجته لوسامته..لكن الحياة خانتها وجعلتها حبيسة الذكرى لا تراها إلا في عيون صغيرتها..
    وقد كانت تعلم قبل زواجها أنه سكير منحرف..لكنها قبلت به بعد أن رفضته عائلتها ..وقد جاءت في ذلك اليوم أمها وأخبرتها أن عليها الرفض بعد أن تحيل لها الكلمة لأنهم لا يريدون رد عمتها خائبة عن زواج لابنها السكير..
    لكنها وبعد أن سئلت عن قبولها أجابت بنعم ..كلمة واحدة مشكّلة من ثلاثة حروف غيرت حياتها رأسا على عقب..
    كانت الخالة الزهرة دائما تردد: " أبواب جنتي نائمة...فمتى ستستيقظ؟"
    طلبت الخالة الزهرة من جمال أن يحضر لها علبة الطماطم من الثلاجة، وفور وصوله إليها لمح ملابسا عتيقة على يمين الخزانة فتلمسها، ثم آثر أن يستفسر عنها، فأخذها إلى الخالة الزهرة التي نهرته وأمرته أن يضعها بين يدي الجدة حليمة..
    أما الجدة حليمة فقد استيقظ شيطان الذاكرة بداخلها بعد غفوته المبكرة، مدت يدها إلى الثياب التي كان جمال يحملها ومضت توبخه دون أن يدري ما السبب..
    "جمال..جمال..من أين أتيت بهذه الملابس ألم أقل لك ألا تلمس شيئا ..أخذ جمال بالبكاء حتى كادت تجف دموعه..
    أما هي فكانت تمرّر ذلك القميص على فمها وأنفها، كان قميصا مهترئا أكل عليه الدهر وشرب، لكنها كانت تحتضنه بقوة، كانت عبراتها تكاد تغسله، وكان جمال يتساءل ترى ما الذي يجعل الجدة حليمة تبكي وهي المرأة الحديدية التي لا تقهر..
    كان شبح الفضول يتربص بجمال، وهو يحاول ترتيب ذاكرته الصغيرة، ليكتشف لمن هذه الملابس الهشة.
    عادت ذاكرة الجدة حليمة لترى صغيرها سمير الذي كان جنديا في الجيش، والذي ودعته من غير رجعة قبل سنتين..كان صغيرا جدا في عيون أمومتها..وكان يرغب في البقاء هناك، قبل أن يأتي قرار إحالته إلى الجيش في عمر الثامنة عشر..
    وحده نداء الوطن هو الذي يستحق أن يستجيب الرجل فيه إلى الموت دون رجعة، أو تردد، كان مظهر الجدة حليمة يومها وهي تودعه مظهر لن ينساه الحي برمته، وكان الدمع الذي يسكن عيونها على غير عادته، لا يرفق بقلبها الذي أقسته مرارة الحياة..
    وكان سمير يهاتف أمه متى تسنى له ذلك..وذات يوم انقطع عنها كثيرا عندما أصيب بصدره على إثر تشاحن مع القاعدة بعد أن مات جل أصدقائه وما تبقى إلا واحدا...
    التمس سمير يومها من صديقه أن يهاتف أمه وأن ينتحل شخصية الابن البار المدلل الذي كانه سمير..
    ذلك الصديق الذي لم يطل في الحديث قال بضع كلمات فقط..
    "ألو ما واش راكي؟
    أنا بخير وانت يا وليدي..كيفاش راك ا نشا الله بخير..
    راني بخير"
    وأغلق ذلك الصديق الهاتف في دقيقتها.. بعد أن ساور الشك الجدة حليمة.
    وبعدها بأيام أتاها نعيه وثيابه تلك التي علقتها على جدران الذاكرة.
    ومما روي عنه أنه ذهب ضحية اشتباك الجيش مع الإرهاب ، فيما احترقت تلك السيارات التي كانت تحمل الجنود..
    وانتهى به المطاف في قائمة الشهداء..

  3. #3
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    جاء اليوم الذي حلّق في ذاكرة جمال مجددا، عندما كان القدر يلبس ثوب الزاهد ويقترف جريمة البوح علنا..متجهما على ما سيأتي بعد حين
    كان الرصاص المحلق في الهواء ينتظر لحظة التمسك بجسد ..ليُسقط ورقته من شجرة الحياة
    وكانت الشجرة على حملها الثقيل تتأهب لتفقد كل يوم ورقة من أوراقها الصامدة في ذلك الخريف وكأنما لسان حالها كان يقول:
    " احترق فالموت لا يأتي مرتين، كل الذين مضوا على تلك المشنقة، كانوا يحملون بين ضلوعهم قلبا مرتعبا، ووجها مكفهرا..
    ما أغرب أن ترى الموت يدق أبوابك ثم يرحل دونما يجعلك في قائمة من أخذ معه في نزهته المخيفة، ربما سيكون دورك لاحقا..
    جدف فقارب الموت يكاد يغرق ولن تصل إلى بر الأمان"
    كانت ليلة ممتلئة بملامح الخوف، لكنها انقضت، مرت كأنها لم تكن قد أتت في ذلك الصمت، عندما أغلقت كل الدكاكين، كل البيوت، واحتجب الجميع وراء تلك الجدران الصامتة، التي تكشف الطرق الصاخب بالأسلحة على وجوه الأبواب الحديدية والذي غلف المكان وأرعب سكان الحي
    استيقظ الجميع وهو يحمل رائحة الموت، زفرت نسيمة، "دقت ساعة الصفر، لن نموت بعد اليوم"
    انتشلت راحتها بعد خوف مقيت وارتمت على صغيرها الذي كانت تبعده من مكان لآخر خوفا من أن تراوده رصاصة من ثغر النافذة، وهي تردد "ما أسوأ أمطار الدم."
    بدأ ذلك اليوم بمأدبة أقامها الجد يوسف كبير عائلته في بيته، ودعا لها العائلة جميعها، من كبارها لصغارها، أعد العشاء الملكي ورفعت الصحون، كانت الخالة نسيمة على وشك الانصراف إلى بيتها رفقة شقيق زوجها سعيد وأبيها الذي كان دائم اللجوء إلى المزاح، كان فكاهيا من درجة رفيعة وكان الجميع يلجأ إليه من أجل إحداث روح في كل جلسة حميمية بين الأسرة، وأشد ما لفت انتباه جمال وجعله في حيرة من أمره كل العلاقات المتشابكة التي تجمع زوجة عمه نسيمة بالعائلة، فهن ثلاث أخوات تزوجن من ثلاثة إخوة، هم أعمام جمال وأنها ابنة خالتهم وأنها وأنها...........
    وقبيل مغادرة الخالة نسيمة لذهابها إلى بيتها عند منتصف الليل، تناثر ذلك الرصاص، على مستوى قامتها، هرعت بالعودة إلى المنزل هي وأبيها، أما العم سعيد فبقي في سيارته لم يبارحها، كان الرصاص قريبا جدا، بل كان متبادلا بين من ومن....
    لم يدرك بعد جمال ذلك..
    لكنه كان يرى أمه خارجا تناديه وأبناء العائلة.. وكان كل يمثل دوره في مسرح الحادثة، العم توفيق كان أصغر إخوته في تلك العائلة الكبيرة المتكونة من ستة إخوة ..
    وقد كان في ريعان شبابه إلا أنه عرف بالإقدام والشجاعة، كان يبحث عن مفاتيح المنزل... نعم كانت بيوت قسنطينة لا تغلق أبوابها إلا ليلا، وكان الجميع يصنع من بيته منزلا لكل طارق...
    أما والد جمال رمزي فقد كان مصابا بعينه يومها ، يضع تلك النظارة ويحمل هدوءه صامتا..
    الخالة حكيمة كانت زوج العم سعيد، كانت تحمل في أحشائها طفلا يوشك أن يخرج إلى الحياة، وكانت تنتظر عودة زوجها، وهي تدور في دائرة القلق، كانت تحمل جسمها الذي أثقله حمل الطفل وحمل انتظار الغد، رائحة وقادمة، وتقول دون وعيي منها:"سوف يموت لا محالة، لقد خسرته"
    أما نسيمة فقد كانت على قارعة الندم، تخبئ حزنها وقلقها في حضرة أختها، فإذا ما انصرفت حكيمة تقول للجميع أنها مستاءة مما وقع وأنها ستكون بعيون أختها السبب الأول في وفاته إن حدثت ..
    كيف ستخفي ندمها؟ أمام سطوة ذلك الرعب الذي احتل القلوب في مرحلة متقدمة من انتظار الموت...
    كم كان انتظار انقشاع الظلام مريرا، أصوات الرصاص المتنوعة، كانت تجلب تفكير الجميع وتمنعه من التفكير بغير الموت..
    أما جمال فقد كان في حضن عمه، يجهش بالبكاء، ما كان سبب بكائه يومها، أهو الضجة التي لم يألفها، أم هو انتظار الموت الذي لم يكن ليعرفه..؟
    كانت تلك المسرحية القدرية ترتب فصولها ومشاهدها، إلى أن تجاوز الليل ثلثيه عندما طرق الباب ودخل العم سعيد منزله، كان يقول يومها أنه نجا من الموت، ذلك القدر الذي نهرب منه ويدركنا لا محالة..
    ولكنه اليوم اصطنع كرهه وجفاءه..
    رفع الصباح ستائره ليرى جمال الشرطة في الحقل المجاور لبيت جده، والتابع له، وكان أباه مع الجميع هناك بنظارته التي وضعها لأول مرة، والتي أثار منظرها جمال، لغرابته، ولكن ما تذكره هو نهي أصغر أعمامه له ومنعه من التسلل إلى الحقل..
    وهناك في الضفة الأخرى بين الحياة والموت، تندلع لحظات التفتيش لتفشي عددا من الألغام المزروعة هناك..
    كان بإمكان الموت أن يأتي دون أن يحابي أحدا عن الآخر من تلك العائلة، وكان يمكن أن تكون مقبرة جماعية تضمهم جميعا مثلما ضمتهم جدران ذلك المنزل العتيق في تلك الليلة..
    وكم كانت نساء ذلك المنزل واللواتي لا مهمة لهن سوى الثرثرة يعدن شريط كل ليلة تمر بحرارتها
    ...بضجتها وبسخطها بطريقة تهكمية..لحظة اجتماعهن على مائدة العشاء
    ترى هل كان تهكمهن عن الحادثة أم عن أنفسهن، عن خوفهن أم عن هدوئهن....
    وحدها المفردات هي التي تصنع المفارقة وتحتضن القاموس في جمل مركبة...

  4. #4
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    أخذت الخالة ليلى تنثر صمتها الآثم وهي تستحضر طيف العم حكيم : "كم قالوا: لو صبر القاتل على المقتول لمات وحده، كنت سأموت فلم تقتلني..انتهت قصتنا ولن أراك بعد اليوم..كان كل شيء ينبئ بذلك..
    نظراتك المهتزة، كلماتك المرتعبة، كل شيء..كل شيء...
    سأرتد عن حبك، نعم سأصنع منك تمثالا أكسره متى شئت..سأختزل كل السنوات في يوم واحد هو يوم رحيلك.."
    الخالة ليلى التى تركت العم حكيم بعد خطبة ثلاث سنوات، كانت تحمل حزنها العاجز أمام قرار اتخذته .ترى ما الذي دفعها إليه؟؟ فقط لأنها لم ترغب العيش مع عائلة زوجها، الذي وعدها ببيت مستقل ثم نكث وعده، ولكنها في قرارة نفسها لم تكن تريد هذا.. هو القدر الذي صنع أعذاره الهشة..
    ربما لأن ليلى كانت تريد أن تعلمه درسا ثم تعدل عن قرارها..ربما كانت تظن أن وعد الرجال حق..وأن كلمة الرجل في مجتمع رجالي بامتياز هي رأس ماله..
    قلبت ليلى الساعة الرملية، وهي متيقنة أن للحب سكرات، صرخت في حين غفلة وهي ترمي وسادتها وتشهق بالبكاء، أنّى ينتهي وهو بسبع أرواح..
    ترى أكان من الحكمة أن تلغي الخالة ليلى، زواجها من العم حكيم قبل شهرين؟ بعد أن حدد التاريخ، واقتنت ملابس جهازها، ورتبت كل تفكيرها على يوم محدد تتوج فيه بلقب العروس..؟
    تلقت الخالة ليلى بعد انتهاء قصتها المريرة مرضا لازمها وغير حياتها، عاشت وهي تحمل قلبا ببطارية نعم كانت الخالة ليلى مريضة بمرض القلب وقد تزوجت بعد سنوات من انفصالها عن الخال حكيم بزوج تركها في المستشفى بعد أن أجهضت ولدين، واعتراها نزيف حاد، لأن جسدها لم يكن يحتمل..
    كان ذلك الرجل النحيل الذي أتاها ذات يوم إلى المدرسة القرآنية أين خطبها، كانت الخالة ليلى وبعد انفصالها من العم حكيم، التجأت إلى القرآن الكريم حيث حفظته كله، بقراءاته، وكانت عفيفة جميلة، تدرس الأطفال تعاليم الدين..
    أي نعم تزوجت الخالة ليلى بعد العم حكيم برجلين أحدهما طلقها على الهاتف، والثاني اتخذ عليها ضرة..
    هي تلك سنة القدر...يمنح بعض الأوجاع لمن يصطفيهم بها..ويلبس نفسه ذلك الضباب الذي نعجز أن نمرر يدنا عليه لنحذفه ولو كان أعلى نافذة المستقبل...
    أما الخالة جميلة، فقد كانت دائمة الهوس بجمالها، دائمة النظر إلى المرآة مغترة بنفسها، كانت فتاة لا لهو لها إلا الحياة، ولا حياة لها إلا اللهو، ولا أدري أيهما الأصح..
    وكم كانت تعشق صحبة "الكريمات" و"علب التجميل" وكانت تخرق كل قوانين العائلة عندما تتبرج أمام إخوتها أو ترتدي ثيابا مكشوفة.
    وكيف لا وهي مدللة الجدة حليمة، وكان الجد حميد يطيب له ذلك، فقد كان محض منبه تملأه الجدة حليمة على المعلومات التي تريدها فينفجر على أبنائه الذين لا يحبذون تصرف الخالة جميلة..
    كانت الخالة جميلة لا تولي أي اعتبار لشرف العائلة فكم أنبها الخال عادل وهو يراها تذهب إلى سيارة أخ صديقتها لتطلب منه أن يتركها تبيت عندها..
    وكانت المشاحنات تصعّد نبراتها بعد ذلك المشهد، الجد حميد كان دائما يتدخل إلى صف الخالة جميلة، مصادقا على أوامر الجدة حليمة أو باصما عليها بالعشرة دون أن يفكر فيما كانت بنودها..فيطرد من يطرد ويوبخ من يوبخ..
    كانت البيروقراطية تعيش في قلب ذلك المنزل الكبير المتكون من ثلاثة طوابق، والطبقات الاجتماعية التي تفرق بين الطبقة الارستقراطية الخالة جميلة، والطبقة الكادحة سليمة أم جمال والطبقة الوسطى ما تبقى من الأبناء العشرة..
    وقد كانت سليمة تخضع لنظام مستبد أيام شبابها ، عندما سمح قانون عائلتها للخال عادل بضربها لمجرد خروجها إلى المدرسة وتعقب شاب لها، وقد كانت الجدة حليمة تقف موقف المحايد عن كل الانتهاكات التي كانت تشهدها علنا، نعم كان الخال عادل يضع قدمه على وجه سليمة، وكم كان يكره خروجها وهي ذات الشعر الأسود الحالك الممتد إلى ظهرها، والوجه الجميل الذي يعلوه اللون الزهري، والقامة المعتدلة، وبعد أن أجبرت سليمة على ترك مدرستها بعد نيلها للشهادة الابتدائية، للتفرغ لتربية إخوتها الذين كانوا يقدمون على الحياة عاما بعد عام، وقد كانت سليمة تحمل إخوتها واحدا تشده إلى ظهرها وهو صغيرهم والبقية ترافقهم من مكان إلى آخر..
    تزوجت وهي في الثامنة عشر من رجل لا تعرفه..كان زواجا تقليديا ، وقد فوجئت به ذلك اليوم عندما عادت من بيت عمتها التي كانت تحبها وتؤثرها على الجميع، لترى أمها تأمرها بالدخول إلى الصالة، التي كانت تحمل قليلا من الأسرّة المتواضعة..
    دخلت سليمة إلى أين كتبت أول حرف من مأساتها، عندما رأت امرأة في الخامسة والأربعين، وأخرى في العشرين وقد جلست أمامهما ..كانت ذات الأربعينات تلمس شعرها وتمرر يدها على وجهها ونحرها وأكتافها....
    لتشير للثانية فيما بعد بعلامة القبول..
    هي شروط تلك المقابلة التي كانت ضرورة في ذلك العصر، كانت المرأة مجرد سلعة تعرض للبيع، لترى نفسها بين ليلة وضحاها، ملزمة بواجبات العائلة الضخمة، وواجبات زوجها الذي رحل بعد أشهر ليؤدي الخدمة الوطنية وتركها حبلى..
    كانت سليمة في كل مرة تمزق تلك الصور بعد كل شجار مع زوجها، كانت تلك صور عرسها، وكانت تتنفس تذمرا لذلك القدر الجاهز الذي أتاها على عين غفلة، حين تركت ذلك الطبيب الذي أتى لخطبتها كان يقيم ببلد أجنبي، وعده إخوتها بتزويجها إياه فور عودته، لكنهم أخلفوا ذلك الوعد..
    مازالت سليمة تذكر ذلك اليوم ..يوم عرسها، عندما جاءت لتحضره أخت صلاح ذلك الطبيب الذي كاد أن يكون زوجها في ذلك اليوم..
    وحده ذلك الخيط اللا مرئي الذي يصنع علاقاته بين دقائق وتفاصيل الأمور يتم فصول الحكاية، انتهى المطاف بسليمة بين عائلة كبيرة، لم تكن رتبتها في أعينهم سوى الخادمة..
    كان جمال دائما يتساءل عما إذا كان ذلك هو سبب كره أمه سليمة للبنات التي بليت بخمستهن..ثم أتاها هو ليغير نظرتها للحياة، إلا أنها بقيت حياة آثمة .. وكيف لها أن تغير ذلك الوصف، فما أكثر الأهوال التي تقع على رأس المرأة وما أكثر تهكم الواحد بالآخر وهو يصفه بالمرأة، فيما تصنع كلمة الرجل قلادة تعلقها المرأة على عنقها..

  5. #5
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    بعض الحكايات أنينٌ لا يغادر ضجيج الذاكرة، والبعض ضباب لا يمسح ولا يختفي يغمرنا منذ نعومتنا إلى خريفنا الآتي..
    من قال أن الربيع قد يولد من رحم الصحراء القاحلة، من قال أن الحياة لن تستمر إذا مات رجل أو اثنين أو ثلاثة أو ملايين..
    تعايش الجزائريون يومها على نفس الواقع المرير، حدود تشن لهيبها مع الدول المجاورة، تفتيش للجزائريين دون غيرهم، كان جمال يتساءل على سذاجته هل كان هذا الكيان العنيف دخيلا؟؟
    وكان وهو يضيع في تفاصيل الشاشة مع النشرة رفقة والده ينظر تلك التفاصيل السياسية التي دفعت بوطن كبير إلى هذا الفخ، متى كان الدين سببا للقتل والذبح..
    متى كان الدين إهانة للمرأة .. متى كان الدين يسمح بتحويل المساجد إلى أحزاب سياسية..
    كيف لبلد ترى وجوه الشهداء وأسماءهم، في كل جزء من جسدها، تعبرهم كل صباح بصوت يلامس حروفهم التي ألفوها أول مرة..أن يتحول إلى مقبرة لأبناء تهكمت بهم أذهان طائشة..
    هنا يعيش باجي مختار وزيغود يوسف وديدوش مراد ولالة فاطمة نسومر وجميلة بوحيرد.........وكثيرون..
    كان جمال وهو يتردد على تلك الطرقات يرى أكوام الدم تغطي ملامح الطريق، ومتى قُدّر لبلد يقتات من دماء أبنائه أن يعيش دونها..
    أُعلنت حالة الطوارئ ..انكشف قناع الموت واختطفت الطمأنينة من قلوب الأحياء..
    كانت الخالة حكيمة وهي ترتل آيات الذكر المبين، تحمل في نفسها امرأة مؤمنة وكانت وهي تزور بيت جمال في مدينة عنابة، تحمل معها ذلك الزخ من الأناشيد التي علمتها جمال.. على صغره..
    وكانت تردد له في ساعات فراغه:
    "غرباء ولغير الله لا نرضى سواه
    غرباء وارتضيناها شعارا للحياه..."
    كانت موضة الأناشيد الدينية دارجة في ذلك الزمان، وكانت موضة التبرج أيضا دارجة..
    كان لكل من ارتدت حجابا أنامل تشير بانتمائها للقاعدة، ولكل من صنع لحية لقب الإرهابي..
    كان ذلك اليوم مهما للخالة جميلة، عندما عزمت على مفاتحة الجدة حليمة والجد حميد، بقرارها ارتداء الحجاب..
    ذلك الإثم في عيون كل المارة، وكل المجتمع، الذي سيحيطها بأصابع الاتهام، لكنها فعلت..
    نعم تخلصت من كل إهمالها الأخلاقي وأرادت أن تكون ذات الحجاب ..أن تخلع وصف الملاية السوداء التي كانت تلزم على النساء في تلك الأيام، عزمت أخيرا وقد فاجأت الجميع عندما أخبرت الجد حميد بذلك القرار، لكنه سرعان ما صرخ في وجهها وأعلنها برفضه...
    كانت الخالة جميلة وهي طالبة في كلية العلوم الشرعية بعد أن انتهت من مرحلة طيشها ، خاطبت معلمتها أن تأتي لتحدث الجد حميد كي لا ينزع عنها ذلك الخمار الذي غطت به رأسها على كره الجد حميد لذلك، وبعد أن أقسم عليها أنها إن لم تنزعه لن تبقى بذلك المنزل..

    ووافق أخيرا على أن يتركها على حجابها الذي تفننت بعدها في تحريفه..
    وحدها الورود المصطنعة هي التي تبقى بين أحضان المزاهر.. ستذبل كل الورود التي تحمل الطبيعة ..

  6. #6
    الصورة الرمزية د. مختار محرم شاعر
    تاريخ التسجيل : Feb 2011
    الدولة : في بيتٍ ما
    المشاركات : 3,219
    المواضيع : 139
    الردود : 3219
    المعدل اليومي : 0.67

    افتراضي

    هذه الوجبة الأدبية الرائعة تستحق أن أقدم إجازة من العمل لأتفيأ ظلالها
    موضوع إنساني جميل ومقدرة سردية استطاعت سرقتي لفترة طويلة من كل ما عداها .. لكنني لم أنته بعد
    سأعود حتما أختي صبيرة ..

  7. #7
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    سرد شائق يرفده نفس روائي وقدرات تعبيرية جميلة

    وصلت لنثر ليلى صمتها في المشاركة الرابعة .. وأعود الآن لمواصلة القراءة
    دمت بخير أديبتنا

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  8. #8
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    شاعرنا مختار محرم أشكر تشجيعك الدائم لي وتصفحك لما أكتب باهتمام
    شاعر وأخ أحسد نفسي عليه بوركت

  9. #9
    الصورة الرمزية صبيرة قسامة شاعرة
    تاريخ التسجيل : Mar 2014
    المشاركات : 96
    المواضيع : 18
    الردود : 96
    المعدل اليومي : 0.03

    افتراضي

    ربيحة الرفاعي شكرا أن كللت سردي هذا بعبق مرورك اللا عدمته
    كل ودي وتقديري شاعرتنا

  10. #10
    الصورة الرمزية خلود محمد جمعة أديبة
    تاريخ التسجيل : Sep 2013
    المشاركات : 7,724
    المواضيع : 79
    الردود : 7724
    المعدل اليومي : 1.99

    افتراضي

    سرد شائق واسلوب ماتع
    جميل ما قرأت
    لي عودة وتعليق
    بوركت

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ضباب من مطر
    بواسطة زرقاء اليامة (أميره) في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 19-12-2005, 04:06 AM
  2. غربة في غربة
    بواسطة عمر الشادي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 23-04-2005, 08:59 AM
  3. حنين غربة
    بواسطة الاسطورة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 26-07-2003, 01:47 AM
  4. غربة طفل
    بواسطة الاسطورة في المنتدى مَدْرَسَةُ الوَاحَةِ الأَدَبِيَّةِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 15-05-2003, 09:34 PM
  5. غربة طفل
    بواسطة الاسطورة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 15-05-2003, 09:34 PM