عام: 2056
استلقى على سريره وهو يئن كعادته من فرط المرض، اختزل آهاته في صوت مكتوم يحاول أن يعدمه، ينظر إلى تلك النافذة المكشوفة، في ذلك الليل الجميل الملامح الذي يسكن السماء، يطرده بدر ألِفَ السهر على نغمات ألمه.
كان ذلك الليل باردا جدا، وكانت عصاه ملقاة على زاوية من زوايا تلك الغرفة الصماء..
وكان يتمتم كالتائه وسط دخان الألم:
"آه ما أحزن هذا المساء الذي يفيض بالذكريات الآثمة، أيتها البرودة التي تسكن أصابعي اندثري، كم أنت ظالمة مستبدة، تطمعين الاقتراب من شيخ في السبعين من عمره...
ماذا تبقى لتأخذيه؟؟
الشعر الذي ابيض كله أم الجسد الذي أصبح كجسر منهار أعلى نهر الموت.."
انتهى جمال من تلك الكلمات التي كان يوجهها لنفسه ثم غيّر نومته إلى جانبه الآخر وبسمل ونام
غير أنه ما فتئ أن استيقظ مرة أخرى.
كان كيس الأدوية الذي يستوطن تلك الطاولة يستدعيه مع وخزة كل وجع.
لكنه كان مكابرا يخشى التسلل على كل قدمه إلى تلك المهدئات التي يصخب بها جسده..
ثم جلس وهو يحاول أن ينسى أرقه، هكذا هو حال كل الذين يكبرون عندما يكابر عن جفونهم النوم، ويرسم سطوته على أحلامهم حينما يأمرها أن لا تأتي..
كان جمال ينتظر تلك اللحظة التي يغلق فيها عينه آخر مرة، ولا يتذكر متى ولد وماذا عاش وكيف كانت حياته..
وقد كان يردد بينه وبين نفسه كلمات يحاول نسيانها، كان يقول كمن يحاول أن يمسح صداعه:
"أيتها الضجة التي تسكن رأسي
أما آن لك أن تهدئي
أنفقت من أجلك كل محاولات النسيان، وما استطعت أن أمسح هذا الضباب الذي يسكن الذاكرة..
أي غربة ولدنا بها
أي غربة منحت لنا
وأي غربة سنموت عليها.."
انقشع ظلام تلك الليلة، ولم يحرّك جمال ساكنا أمضى كل ليله جالسا على ذلك السرير يتأمل جدران المستشفى الزرقاء، ويسمع فيها صدى أناته،
كان جمال زائرا لمستشفى باب القنطرة، أخذ يطل على نافذته ليرى تلك الجسور التي توهم الجميع بجبروت شموخها وتنسيهم أولئك الذين انتحروا عليها وأسلموها مفاتيح موتهم ذات كآبة.
ولم يتفطن جمال لخطوات الممرضة التي لاحظت ابتعاده عن جسده بألف فكرة، وأخذت تربت على كتفه
"العم جمال، هل أنت مستيقظ؟"
آه، نعم با بنيتي..لم يكن النوم من نصيبي في ذلك الأمس
هل تذكرتني أنا فريدة
نظر إليها جمال نظرة لا مبالية ..فتجاهلتها وأتمت كلامها:
بماذا تحس الآن
أحس بأمر غريب ، وكأن ذاكرتي تسطو علي، أحس بحمى مع أن رأسي باردة، أحس بوجع وألم لا أعرف بعد موقعه من كل الجسد
أخذت فريدة الممرضة تنظر إلى جمال وهي تتذكر أيام كانت طفلة صغيرة حينما كان يذهب بها إلى دكاكين الحلوى ويبتاع لها ما تريده وما تشتهيه..
كان مجرد النظر إلى تفاصيل شحوبه يجعل من فريدة تبتئس وهي تحمل معها شبابه يوم طفولتها ، وكهولته يوم شبابها، وشيخوخته يوم كهولتها..
هو هكذا يبني فارق الزمن جسورا بين أجيال لا ترى من الرجل سوى طفولته التي احتوتها، وفي الشيخ سوى شبابه الذي عرفته..
جرعت الممرضة جمال إبرة مهدئة نام فورها، ولكنه قبل أن يغمض عينه، أمسك يدها، وكأنه تذكرها
ثم قال: أحس أن الموت يقترب مني يا ابنتي..
ما تبقى من العمر نفس..
مسحت فريدة على يده التي أرهقتها تضاريس التجاعيد، وهي تنظر إليه نظرة مكابرة وتقول: مازالت البراكة عمي جمال
غادرت فريدة الغرفة وغط جمال في نوم عميق..
غريبة هذه الدنيا، غريبة بكل تفاصيلها التي تعرج علينا بعد أن نأخذ رصيدا لا بأس به لتعيدنا إلى أول الطريق ...إلى صفرنا الذي نحاول دائما الفرار منه........
عام 1996
سمع جمال صوت أمه تناديه :"جمال..جمال..أرواح أوليدي"
كان صوتا دافئا كما عهده في صغره، نعم جمال الذي تحول بين طرفة عين وانتباهتها إلى طفل في العاشرة.
اختلت ذاكرته بأحداث طفولته بكل تفاصيلها، كأنها كانت تنتظر لحظة رجوعها إلى غيبوبته التي ظنها واقعا..
كانت أم جمال امرأة مهزومة على أمرها، وكانت وهي في ريعان شبابها أنجبت ستة أبناء، وكان جمال قطعة من نفسها، كانت تؤثره عليها وعلى جميع أخواته..
كانت الأم سليمة جالسة في تلك الصبيحة مع أمها الجدة حليمة التي تترأس كل صباح ذلك الحوش الكبير. وكم كانت رائحة القهوة تخترق أنوف النُوَّم فتوقظهم الواحد تلو الآخر، فينتشل معه حلمه الذي كان زاخرا بالأمنيات..كان للجدة حليمة ملامح كل امرأة في بيئة محافظة آنذاك بمحرمتها التي تغطي شعرها إلا أوله الذي كان ينساب متمردا رافضا أن يكون تحت أي غطاء، كان لباسها "القندورة" ..التي تسحب أذيالها وهي تنصرف من مكان إلى آخر، يشدها ذلك الحزام الذي تحدد به خصرها..سافرة من كل زينة سوى بعض الكحل الذي كان الجد حميد يشاجرها عند وضعه..
اقترب جمال من تلك المائدة التي يعلوها "السني النحاسي" وتعلوه فناجين القهوة وذلك الإبريق الأزرق سيد منطقته..
نعم استيقظ الجميع إثر شغب الخال عادل الذي يرفع صوته عنوة، وقد كان أكبر أبناء الجدة حليمة ومدللها المستبد، الذي يتاح له أن يفعل ما يريد دون أن يرقع آثامه بخيط المنطق.
ربما لم يكن لأحد من الخيال أن يدرك أن هذه العائلة الكبيرة تتناول الفطور على السادسة صباحا أيام العطلة الصيفية..
وأن كل القصص والقهقهات كانت بداية يوم جديد يبدأ بسرد الأحلام وينتهي بفيلم على شاشة التلفاز.
أما جمال فكان يحمل معه الكثير من الذكريات في ذلك البيت، سلالمه التي كان يقفز دون أن يحذر السقوط عند ثلاثتها أو أربعتها، أو جلوسه على عتبة المنزل مع أولاد العائلة ليمثل بطولته المزيفة، ويخترع ألف قصة لم تكن واقعية، وإنما أراد لها أن تصدق على مسمع أصدقائه..
فتارة غلب الكلب الذي تحرش به ذات مساء، وتارة رمى المجنون الذي أتاه مهرولا- على قلة وزنه- وضخامة ذاك في مستنقع الوحل.
وتارة رمى كرة جاءت في عين الشمس وردت إليه بعد أن احترق بعضها، وكان أصدقاءه يعلمون كذبه لكنهم كانوا يرونه طفلا طيبا حلو المصاحبة فلم يعتزلوه.
تناول جمال فطوره ثم استعد لمغادرة المنزل مع شلته لابتياع بعض الخضر للغذاء، كان جمال وهو يمشي في تلك الأزقة الضيقة يرى في عيون المارة شيئا من الخوف المكبوت أما الباعة فكلهم يرددون ذات الموال "الإرهاب"، ترى ما كانت تعني لفظة كهذه في ذهنه الصغير، هل كان يراها بقيمتها الحقيقية، هل هذا هو لقب لعائلة تقطن قسنطينة هكذا كان جمال يخمن..
يا لسذاجته
(يتبع)