أقر مجلس النواب الأمريكي مؤخرا ـ بعد تصديق الرئيس الأمريكي عليه ـ مشروع قانون "محاسبة سوريا" وهو القانون الذي يفرض علي دمشق عقوبات اقتصادية ودبلوماسية ، ويدعو إلى فرض حظر علي بيع السلاح والمواد غير الإنسانية والمواد ذات الاستخدام المزدوج (المدني والعسكري) إليها ، ويمنع طائراتها من الهبوط في الأراضي الأمريكية أو التحليق فوقها... كما يمنع تقديم مساعدة مالية إلى أية مشروعات تنموية تقام في سوريا ، وينص على تقليص التمثيل الدبلوماسي الأمريكي في دمشق ، ويفرض قيوداً على تنقل الدبلوماسيين السوريين في الولايات المتحدة..
والقانون في حقيقته حملة أمريكية جديدة للضغط على سوريا بما يتضمنه من إجراءات عقابية تصاعدية لمحاسبة دمشق إذا لم تتعاون مع الولايات المتحدة في ـ مكافحة الإرهاب ـ*** وضبط الأمن والاستقرار الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، خاصة وأن واشنطن تبذل حاليًا جهودًا سياسية ودبلوماسية لإقناع سوريا بالموافقة سحب قواتها المسلحة المنتشرة في لبنان (وقد تم ذلك اليوم) وعلى تحويل حسابات كبار مسئولي نظام صدام حسين المنهار إلى صندوق تنمية واعمار العراق، وعلي إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية الموجودة في دمشق "حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" وعلي تضييق الخناق على حزب الله اللبناني ونزع سلاحه لمنعه من مهاجمة إسرائيل0
ومقترح هذا القانون هو توم لانتوس ـ أكبر أنصار إسرائيل في الكونجرس الأمريكي ـ والذي زار منطقتنا مؤخرا وقال بأنه يريد تحسين العلاقات الأمريكية السورية، لكن بشروطِ أساسية من بينها إغلاق مقار المنظمات "الإرهابية" في دمشق (مشيرا إلى منظمات المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني).ثم هدد لبنان بإيقاف المساعدات المالية المقدمة إليه بسبب سيطرة حزب الله على حدوده مع إسرائيل.
وبعد إعلان كوريا الشمالية صراحة عن برنامجها لتطوير الأسلحة النووية قامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن في كل من واشنطن وتل أبيب ـ خاصة وأن هناك معلومات استخبارية أمريكية تؤكد اقتناء كوريا الشمالية قنبلتين نوويتين علي الأقل ـ وقد أربك الإعلان الكوري خطط واشنطن للهيمنة علي عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي ، بعد ظهور مصدر خطر جديد على حلفائها في شبه الجزيرة الكورية وما حولها (اليابان وكوريا الجنوبية أساسا) موازياً للخطر النووي الإيراني ـ أحد أضلاع محور الشر ـ في رأي الرئيس بوش الابن ، ومصدر الخطر علي حليفتها إسرائيل.
ويرجع سبب قلق إسرائيل من البرنامج النووي الكوري الشمالي إلى ربطها بين السلاح النووي الكوري والسلاح النووي الباكستاني من جهة، وما سبق أن سربته مصادر استخبارية أمريكية وإسرائيلية حول تعاون مصري كوري شمالي في المجال النووي، وتعاون مماثل مع سوريا من جهة أخري. خاصة بعد زعمها بأن مصر تسعى لإنتاج أسلحة نووية بالتعاون مع كوريا الشمالية والصين، وأنها تنقب عن اليورانيوم في أرض سيناء ، وأن هناك تعاونا نوويا وصاروخيا سابقا بين كوريا الشمالية وكل من العراق وسوريا..
ويبدو أن التعامل الأمريكي المتعجرف مع بيونج يانج ، والتنديد ببيعها صواريخ لإيران ودول عربية أخرى، وتجاهل تفاقم أحوالها الاقتصادية، قد دفع الكوريين الشماليين للتفكير في توجيه ضربة للأمريكان وخططهم، خاصة بعد إعلان الرئيس الأمريكي في يناير 2002 أن كوريا الشمالية تشكل مع العراق وإيران "محور الشر" في العالم..
وقد تحدت كوريا الشمالية واشنطن ووضعتها في موقف الدفاع في سابقة جديدة في عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001.. وأعلنت امتلاكها للسلاح النووي، وقامت بطرد مفتشي الأمم المتحدة، ثم انسحبت من معاهدة الأسلحة النووية، وبذلك أصبحت أول دولة صغيرة في عالم ما بعد 11 سبتمبر تقف في وجه الهيمنة الأمريكية المتصاعدة ، وتتحداها لدرجة تهديدها بتدمير مدنها الكبرى :واشنطن ونيويورك وشيكاغو بالصواريخ !
ولم يتعدَّ رد فعل الولايات المتحدة الحديث عن الرغبة في حل سلمي ودبلوماسي، وفتح قنوات للحوار، فقد أعلنت واشنطن أنها على استعداد لحل الأزمة مع كوريا الشمالية سلميًّا عبر القنوات الدبلوماسية ، وأخذت هي وحلفاؤها يطالبون كوريا الشمالية باحترام معاهدة الحد من انتشار الأسلحة، ووقف برنامجها للأسلحة النووية..وبدأت التحركات بين واشنطن وطوكيو وسيول والعواصم الأوروبية من جهة، وبينها وبين بيونج يانج من الجهة الأخرى، في محاولة لمنع تفاقم الوضع..
ومع كل تهديد كوري تسارع واشنطن بتقديم المزيد من التنازلات والترضيات للكوريين كي يقبلوا الحوار، ويوقفوا تصعيد النزاع. خاصة بعدما دعا وزير دفاع كوريا الشمالية جنوده ومواطنيه إلى التحول لـ "قنابل بشرية" موجهة ضد الولايات المتحدة ومصالحها وأنصارها ، وأن يستعدوا لتفجير أنفسهم في الأمريكان من أجل الدفاع عن بلادهم 0
ويتمثل مفتاح اللغز الكوري في مقابل الدراما العراقية ـ التي نفذت أمريكا فصولها بالكامل دون أدنى معارضة عربية ـ في أن الكوريين ملكوا السلاح النووي ، وأصبحت لهم القدرة على تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة، كما ملكوا السلاح القادر على حمل هذا التهديد إن لم يكن للمصالح الأمريكية مباشرة، فلمصالحها في شبة الجزيرة الكورية واليابان..
وعلى العكس من ذلك. سعت واشنطن وتل أبيب من البداية لضرب أية قدرات عربية في هذا المجال بداية من ضرب مفاعل العراق النووي ، مرورا باغتيال علماء الذرة العرب والمسلمين ، وحرب الخليج الأولى والثانية ، وعمليات التفتيش الصارمة ، وانتهاء بتهديد إسرائيل بتدمير مفاعل بوشهر النووي الإيراني ، فلو كانت أية دولة عربية ـ أو الدول العربية مجتمعة ـ تملك سلاحا نوويا ما تجرأت واشنطن على امتهان كرامة العرب كما تفعل الآن، وما تجرأ الصهاينة على العربدة في أرض فلسطين على النحو الذي يفعلونه..فالمسألة فى أساسها مسألة (توازن رعب نووي) كما هو حادث الآن بين تل أبيب وطهران0
وقد اتبعت كوريا الشمالية الخطة المطبقة في لعبة كرة القدم !!!! والتي فشل العرب في إحراز تقدم واضح فيها أيضا ـ وهى خطة "الهجوم خير وسيلة للدفاع" فأخذوا في إصدار القرارات والتصريحات المتتالية والتي أقلقت الولايات المتحدة ـ ابتداءً بطرد المفتشين، ثم الانسحاب من المعاهدة النووية والتهديد بالانسحاب من معاهدة تطوير الصواريخ ، ثم التهديد بتدمير ثلاث من المدن الأمريكية الكبرى ـ مما دعا وزير خارجية بريطاني سابق الي مطالبة الولايات المتحدة وروسيا والصين بمداعبة كوريا ، أو تهديدها أو رشوتها حتى تتخلى عن خيارها النووي؟! وجعل بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي يقولون "لاطفوا كوريا ولا تضربوها"*******0
كما سارع الكوريون بالاعتماد على الذات في توفير الطعام والوقود بجهود ذاتية ـ بدلا من انتظار شحنات قمح المعونة الأمريكي ـ وهم قوم مشهورون بقدرتهم على تناول وجبة واحدة يوميا في ظل التلاحم بين الحاكم والشعب في حالة الخطر الخارجي.. كما حدث في أزمات سابقة
وقد تزامن التهديد الكوري مع تسريب عروض للحوار تسمح بالحفاظ على سقف أعلى للمكاسب الكورية في نهاية الأمر ، خصوصا أنهم يعلمون أن الظروف الدولية لا تسمح لهم بالاستمرار في هذا التحدي، ولهذا وزعت الأدوار بين فريق يهدد وفريق دبلوماسي يفاوض فهل يفيد العرب من الأزمة الكورية في سعيهم للبحث عن حل للأزمتين العراقية والسودانية ، ـ فيهددون ويفاوضون ـ أم أن هاتين الأزمتين ستلقيان المصير ذاته الذي آلت إليه القضية الفلسطينية ؟