حفل الإفتتاحدكتور/ محمد فؤاد منصور
-------------------
الأسكندرية
------------
---------------------
- منّك لله ياعوض!
هتف بها عزت الشربينى بمجرد دخوله إلى القاعة الرئيسية لمعرضه السنوى والذى يتوافد عليه كبار النقاد ومحبى الفنون التشكيلية ، وجّه نظرة حانقة وعميقة لزوجته التى تعلّقت بذراعه وهى فى أبهى زينتها وكأنما لتعلن للحاضرين أنه يخصها وحدها فترد بذلك عنه طوفان المعجبات اللآئى يتحلقن دوماً بالمشاهير، من ناحيته كان يعتبرأن طقوس الإستعداد التى فرضتها عليه لحضور حفل الإفتتاح مضيعة للوقت شغلته عن وضع اللمسات الأخيرة للحفل مما دفعه لإسناد هذه المهمة للقائمين على المعرض، أما عوض خادمه ومساعده فقد تحمل عبء تغليف اللوحات ونقلها من المرسم إلى المعرض وكانت من جانبها تلح على الإستفادة من جهود عوض فى هذه الأمور التافهة، أكثر من مرة حاول إفهامها أن كل خبرات عوض لاتعدو صنع أكواب الشاى وفناجين القهوة إلى جانب تنظيف المكان الذى يتحرك فيه داخل المرسم، أما نقل اللوحات أو تغليفها فلاتدخل ضمن مواهبه،كان قلبه يحدثه دوماً أن أمراً ما سوف يحدث يوماً وان خضوعه الدائم لرغبات سنية سوف يؤدى إلى كارثة قد تهز مكانته، لكنها كانت تغضب دائماً وتتهمه بمحاولة التخلص من مرافقتها له ليخلو له الجو مع المعجبات بفنه.. فى كل عام كانت تثور نفس المناقشات السخيفة وكان يرضخ دائماً لإرادتها وينتظرها بالسيارة أمام " الكوافير" حتى تنتهى من زينتها الكاملة وكأنها لوحة ستضاف إلى معرضه .
هاهو عوض يرتكب الحماقة التى لم يتوقعها أحد سواه ، منذ أسابيع كان ينظف أرضية المرسم وكان الحامل الكبير قد أنتصب وقد شُد عليه قماش اللوحة تأهباً لتلقى لمسات فرشاته الساحرة ، كان عوض وحده حين عثرت قدمه وأوشك على السقوط فحاول التشبث بالمنضدة التى تتوسط المكان لكنها مالت بشدة فسقط مصطدماً بالحامل الكبيرليسقط فى النهاية أرضاً وقد تبعثرت حوله علب الألوان وتناثرت حتى غطّت اللوحة وتبعثر ماعلى المنضدة من أدوات بغير نظام ، حاول عوض أن يعيد كل شئ لأصله لكنه فشل فى أن يعيد اللوحة الكبيرة التى أصطبغت بأمشاج من الألوان التى سالت على القماش بغير نظام.
حين عاد عزت إلى المرسم صبّ جام غضبه على عوض وأستبعد اللوحة التالفة .
- منّك لله ياعوض!
هاهى اللوحة التالفة الضخمة تتوسط القاعة الرئيسية ويلتف حولها كوكبة من النقاد وعشاق فن عزت الشربينى ، منهم من أقترب منها لحد الإلتصاق ومنهم من أبتعد عنها وقد خلع نظارته ووضعها فوق رأسه وأخذ يمعن النظر فيها ، يهبط بجسده ويعلو محاولاً فك طلاسمها وإستكناه غوامضها.
- منّك لله ياعوض!
لحظات وتبدأ الندوة التى يصول فيها النقاد ويجولون وسوف تكون الفضيحة بجلاجل حين يكتشفون أن عوض قد نقل اللوحة ضمن مانقل إلى المعرض وأن البقع والخطوط والألوان المتداخلة ليست أكثر من آثار الأصطدام المروّع الذى طرحها أرضاً.
ماالذى يجدر به أن يفعله؟! هل يبدأ الندوة بالإعتذار عن الخطأ غير المقصود الذى دفع بلوحة مستبعدة بل لم تُرسم أصلاً إلى تصدر القاعة الرئيسية؟ هل يسكت معتمداً على فطنة النقاد وحسن تقديرهم للأمور؟ لاشك أنهم سيسكتون عنها فيرفعون عنه الحرج.
أخرجته موجة دافئة من ترحيب الحضور وهمهمات المعجبين مماهو فيه من همّ فأنشغل برد التحايا وتوزيع الإبتسامات حتى أفاق على صوت الجالس على المنصة وهو يدعوه لإعتلائها على حين تأهب أحد النقاد لإلقاء كلمته، أفرخ القلق عشرات الفئران تجوس فى صدره فلم يعد يرى أو يسمع شيئاً مماحوله حتى أفاق على صوت الناقد الكبير وهو يحلل بشكل علمى متخصص اللوحة الرئيسية كما أسماها لأنها تدشّن مرحلة جديدة من إبداعات الفنان الكبيرالذى من فرط ذكائه لم يعطها أسماً محدداً إمعاناً فى التجريد.
- منّك لله ياعوض!
أليس هو الأحق بهذه الإشادة ، لابد انه يقبع الآن خارج المعرض يمص قصباً أويشرب شاياً بالمقهى المقابل للباب الرئيسى ، أعاده للمشهد العبثى فاصل من التصفيق الحاد فأفاق على حديث طويل عن إنسيابية الخطوط وبراعة توزيع الألوان ولامحدودية الأفق.!
صفّق الحاضرون طويلاً حتى كلّت أيديهم بينما سرت همهمات تطالب بكلمة من الفنان الكبير، قام متعثراً فى خجله وقد جفّ حلقه فلم يجد على لسانه سوى كلمة واحدة.
- أشكركم.
----------
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية