المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عامر المصري
صدفة ياسمين إن كنت تقصد " صَدَفَة " مفرد أصداف فهي سليمة
كعادتي أنهيتُ آخر محاضرة لي على حـطامِ السـاعةِ الـواحدة, وسرتُ إلى - موقف السيارات- وأنا أعُدُ الخطواتِ
خطوةٌ تهذبُ أختها, أكنسُ شارع الجـامـعةِ بعيـونٍ مبللةٍ برائـحةِ النـعاس, منتفـضًا من شبحِ المحاضـرةِ الأخـيرة,
أسـيرُ بحـذرٍ كمـن يرتبُ مائدة الطعامِ, يأخذ اليأس من ذاتي كل ذاتي أو أقل بقليل, يكــادُ يبتـلـعُ مفاصلي وأنحائي
والتفاصيل, وجهي أصفـرُ أو برتقـالي اللون.. لـم أميزهُ, والإرهاق ينحتُ مـن بشـرتي القمـحية لوحةً فنـيةً جـبارة
الملامـح والدقة, يطوفُ التعبُ وجنتيَّ؛ يَخُطُ أثـارَهُ كقـلمٍ يجـدد سواده ببيـاضٍ.. فأحمل أقدامي وأسرعُ في مشيتي
أصب اهتمامي بتبديلِ الوجوه الجامعية بسائقي التاكسي.الألفاظ غير العربية و العامية توضع بين تنصيص " ... "
بعـد دقـائقَ مشتتـةٍ متعثـرة أصلُ إلى الموقف الذي سيحـملني إلى البيتِ قبل المـوقف الأخـير.. هنـاكَ فـي مدينتي،
يفصـلُني عن البيتِ مائةُ وجهٍ شاحب وغبار شارعٍ يلهو في سماءِ سيارة يعجُّ ماضي أجدادي بأبوابها, بالكاد تتسعُ
القـاعدين للقاعدين , تنحتُ الشمسُ على وجهي ضوئها ضوءهاهاربةً من غيمـةٍ لا يُـؤمَنُ غـدرها, ثـم أقـفُ غـير مكترث للانتظار,
ودون لهـفةٍ للوصول, وإذ بطرفٍ يشـبهُ طرفها يُقبلُ من بعيد, يقتـربُ الطرف شـيئاً فشيئًا, وكـأن كل شهيـقٍ يبـلل
رِئتيَّ يقربه أكثر صوبَ الاكتمال, ولكنه كان رائعًا في نقصانه, يشبهُ البدر.
بدأت تفاصيل وجهها بالارتسامِ على محـيـّايَ، وبدأ التعب يسيل من أخمـصِ قـدمي.. يغادرنـي حزيـناً ومكسـوراً،
تلعثمتُ بالرغباتِ القديمة والذكريات, ها هي العيـونُ تلتقي, ومن يدريِ ربمـا القـلوب بعد الغيـابِ الكثـيف تتقـابل
أيضاً, غشاني شـعورٌ بالهـزيمةِ أمام خَمـر عيونها, كلانـا مندهشٌ من الأخرِ وكـلانا يبعثره الخـجلُ والتشتت سيـد
موقفينا.
هل ما حدث كان صدفةً مصادفةً أنتجها مكر عاطفي؟!
يناديها سائقُ السيارةِ التي أركبُـها ليقطع مسـافات من التـفكير المتـقدمِ إلى الـوراءِ, وحسابات الاحتمالات الممـكنةِ
لأن تجلس في السيارة ذاتها أم لا, وكم من نظرةٍ سأسرق من المرأة الأمامية على حين غفلةٍ من العاداتِ والتقاليد!
تجـلسُ في المقعدِ الخلفي وأنـا أجلسُ بجانبِ السائقِ, هكذا كتبت الصدفة المصادفة , ولكني بتُ قادراً على سرقةِ قافلة أطول
من النظرات, بعد عشر تنهيداتِ بالتمامِ أدارَ السائقُ المقودَ.
شريط من الذكريات يمطرُ كغيمةٍ على ذاكرتي, ثمةَ ذكرى دارت في رأسي..
مقابلةٌ لنصف دقيقة, ساعةٌ حمراءُ, نافذةٌ تختلس النظر منها إليّ, الساعة الثامنة مساءً, هدية سماوية, رائحة عطر
جورية.. فأخرجُ تنهيدةً وأتمتمُ في صدى جسدي: العائدون من الغياب كالعائدين من الحـرب..كلاهـما ميـتُ القلب،
وكأن الذكرى تأخذُ وقود الرجوع إلى أمسٍ من ماء قلبي..
ثلثُ ساعةٍ كـانت هي المدة الزمنية لانتهاءِ السرقةِ في ذلكَ اليوم , ثمـةَ ضجـيجٍ يتـفوهُ بهِ السـائقُ, لقد مُلـِئَ رأسـي
بالحروفِ المتكررة في تلك أحاديث , فأحاديثُ التاكسي في بلدي تدورُ في اتجاهين تقريباً..
المـرأة في الضـرورة الأولى (حديث السـاعة لشبابٍ محروم ), والأوضـاع المعيشية (حال البلد), وأحياناً يتطرقُ
السائق للحديثِ عن نفسه، وعن جبال الإنجازات التي حققها وأحرقها مقود السيارة والضعف المادي.
شاركـتـهُ الحديث على فتـراتٍ ضئيلة والتزمت الصمت في بقيةِ العشـرين دقـيقة، ولم أَغـفلْ عن سـرقة النـظـرات
باستمرارِ.. فهي فرصة !
سُرقَ الوقتُ من يدي لا أعرف مَنْ سَرقَ الوقت, ربما هو نفسه من سرقَ النـظرات, فها نحن على حافةِ الوصولِ
نفضتُ جسدي من هلوسات الوجع المتكرر والمأساة التي تلازمني في كل شـبرٍ أخطوه خارج غرفتي, ثمة إحباطٌ
يدوسُ رأسـي كلما خرجتُ من عـزلتي, فجميـعهم لا يـعجبـهُ شيءٌ، ويشـكو سوء الـحال وإن كـان منعـمـا متـرفا,
لا أحد يقول: الحمد لله, حتى سائقُ التاكسي!
لملمتُ أشيائي، ولم أنسَ أن أُلَمْلِمَ ما سَرَقتهُ طوال الطـريقِ وأختزنه في سويداء المـخيلة لأتدثر بدفئه حـينما أشتاقُ
لرؤيتها.
خرجتُ من السيارةِ وخَرَجَـتْ هِي! كم خيالٍ دَارَ فـي رأسي ( ياه لو نركب بنفس السيارة للبيت ), فأنا خـياليٌ فـي
كثيرٍ من الأشياء, من ضمنها الحب.
بَدَأتُ بالمشيِ سيراً بِضـعة أمتارٍ متوجـها إلى الموقـفِ الآخر, يناديني السائـقُ بلهفةٍ ويلتـقـطني كـأنهُ يلتقطُ ذبـابة!
رَكبتُ في سيـارته السـوداء, كانت جمـيلة ومزينة بالـورودِ وقِـطَع الشمسِ الخفيفةِ تلـمعُ داخلها, بينما كنتُ أغازلُ
فضـاء السيـارةِ النقي, كـانت تـمشي تلك المسافة التي قطـعـتها بسرعةٍ لأفتعل صدفة بمكرِ عاشق, فيناديها السائق
نفسُه ويأمرها بالذهابِ إلى السيارةِ, ثـمـة فـرحٌ جـالَ بخـلدي وثمة سعادةٌ غمرت قلـبي, فكادَ يطـيرُ, فـكم من مرةٍ
حَـلمتُ بهـذه الخلـوة بيني وبينها - في السـيارة- لدقـائق لم أجنِها في الصـيف، ولــم يمـطرْها أيُّ شـتـاءٍ قـط سـوى
هذا الشتاءِ الخليل.
تـمـتـمتُ فـي سـرّي :تُـعـالي إلـيَّ أُريد أُن أُحـيـا بـكِ الأن, وبـاتـت دقـاتُ قلــبي أُســرع مــن (يُوسَيـن بـولـت ) هههههههههههه .
ولجتْ السيارةَ، لتزول مني جبال ألمٍ راسيات, وتبخـرت كل أوجاعِ الابتـعاد, هيّا تعالي إليَّ أريدُ أن أشفى من داءِ
المكان, طافَ في خاطري في تلكَ اللحظةِ أن أجمع أشلائي القديمةَ وجسديَ القديم وألقي بهما من النافذة..
أغلقت البابَ بارتـبـاك وأنا أطوقُ لأسمعَ صوتها, فلم تتـحدثُ بأي حرفٍ مُذ بات بيني وبينـها قـطـعة هـواءٍ ملـيئة
بالنعومةِ والحرير, وفي لحظة قررتُ أن أكسر الصمت الذي يكتمُ أنفاسي..
قلتُ: ألا من تحيةٍ!
ذهُلت ذُهِلَتمن جـرأتي، وغابـتْ نضـارةُ وجـههـا لـثوانٍ، لتـسـتـجمع بعدها قــليلا من قواها، وتلـقي عليَّ أعـطر تحية,
حينها انطلق لساني, انتظرتكِ في كل سيارة ولم تأتِ تأتي , علامة جزمه حذف النونإلا الآن, فكم يئستُ من لقائك..
فشدتْ من أزر شجاعتها: مالي أراكَ مرتبكاً ولا تتحدثَ إلا قليلاً, لم أعتدْكَ هكذا أبداً!
لم تعتد صمتي وقلة كلماتي فقد كنتُ ثرثارًا حد الإرهاقِ, في كل الأحاديث الإلكترونية وأحاديث الهـاتف القـديـمة.
يزداد صوتي ضآلة : ربما لم أعتد موقفا كهذا أو هو سحر عينيكِ !
تتهربُ مغيرةً دفة الحديث: تأخر السائقُ كثيراً..
رممتُ جوفي وقلتُ: ألا تريديني بجواركِ قليلاً !
فقالت: بلا بلى ولكني أخـافُ أن يشعُرَ أحـد بخلوتنا, فأقنعتني قلـيـلاً وهدهدت روحـي وغَشـاني السكونُ مـرةً أخـرى,
وقلتُ : لا تخافي.. فأنا لستُ خائفا, ولكني مرتعُبٌ جداً, فابتسمت لخبثي, وبان ثغرها فكاد يـغمى علـيّ, فتـحـضنُ
مُقلَتَي مقلتيها وتطمئنُ.
لحظاتُ صمتٍ تجوبُ السيارة السوداء لوناً وليست سوداء جواً, لا صوت للتنفسِ ولا هواء يكفي شوقي وشوقها,
والشمسُ تبتغي أن تكونُ ثالثتنا, كانت تبعد عنا مسافة قبلة, كنتُ أود أن، أقول لها اقتربي ولكني لم أقدرْ!
ستأتي الكهرباء اليوم في السادسةِ مساءً فتردُ وتقولُ: صحيح, قد أرقتني الكهرباء,
فأقول لها : أكرهها- الكهرباء- وأكره كل شيءٍ يزعجُ طيفَ ثغركِ, فيجوبُ الصمت والخجلُ ملامحها مكرراً تلك
اللحظات التي سبقت, فيجلب السائقُ امرأةٍ وكأن مهمتها أن تزعج جلستنا فقط!
فأقول مازحاً بيني وبينها: ( حاسبي السواق )
فتقول: لا أحمل أموالاً للبذخِ, أنتَ الأكبر وعلـيك بالدفع, فأضحـكً في صمـتٍ وأودُ أن ألامسها وكدتُ أفعل لو أن
المرأة ذات الشالِ الأسود تأخرت لثوانٍ في فتحِ الباب..
فعلى غير قصـدٍ منـها – المـرأة – تسببت في ما كنتُ أرجوه من بدايةِ الصدفة وهـو أن تقترب ملهمتي مني أكثر,
فبات لا يفصل بيني وبينها سوى نصف سَنتِمِترٍ واحد!لو قلت : سوى سمك القماش , و إذا كنت مصرا على " نصف سنتيميتر " فضعها بين تنصيصين لأنها أجنبية
بات كتفها يدللُ كتفي وقلبها صار جار قلبي وما أجملهُ من جار..( نفسي أنام على كتفك عشان أنسى الدنيا )
هكذا قلتُ لذاتي وربما لها!
أفيـقُ من راحتي على كتفها, عظـامي مبتلةٌ بريـحها, وثيـابي تطهرت بثيـابها, فأؤمر فأأمر = فآمرالسـائقَ بالتوقفِ قبل المكانِ
المحـددِ بخمـسِ ثـوانِ, وأنـظـرُ إلـيـها نظـرةً أخـيـرةً, ها نحن نفتـرقً ولـن نفـتـرقُ بـعد الآن أبـداً,وأغمـزُ لعيـنيها
وأقولُ مودعاً: سأبقى على صدفةِ اللقاءِ..أركن سأبقى إلى اللقاء مصادفة أركَنُ . فنحن نقول : ركن إليه و ليس ركن عليه.
يوسين بولت أسرع عداء في العالم من جامايكا
الكاتب / عامر المصري